ما من شك أن الوسائل إلى الله كثيرة، وإن كان مآلها الأخير إلى الوحدة، حتى أن البعض يقول: الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. ولما كان من أفضل هذه الوسائل الجهاد في سبيل الله، فقد ارتأينا نشر هذا البحث القرآني حول الجهاد للأستاذ طاهري خرم آبادي وذلك مع شيء من التصرف حيث اقتضت الحاجة.
* حقيقة الجهاد
من المسائل التي اعتني القرآن الكريم بطرحها وأولاها اهتماماً خاصاً مسألة الجهاد. والجهاد، في اللغة، من "الجَهد"، أو من "الجُهد" بمعنى المشقة أو الوسع والطاقة.
يقول الراغب في مفرداته: "الجهاد استفراغ الوسع من مدافعة العدو" أي بذل كل ما أمكن من الطاقة والقدرة في مواجهة الأعداء وقتالهم، أي أن الجهاد هو البذل والسعي بمشقة. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ "العنكبوت/ 7"، أي مهما بالغا وبذلا من المساعي والمشقات ليحملاك على الشرك فلا تطعهما.
والجهاد نوعان: جهاد الأعداء وجهاد النفس. لأن النفس الأمارة عدو "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك". ومن هنا كان جهاد النفس مقدماً على جهاد الأعداء الخارجيين، لأن الإنسان يغفل عادة عن عداوة نفسه ولا يلتفت إلى مكرها وخدعها، ولا يتفطن إلى كثير من تسويلاتها الشيطانية التي توقعه في المعاصي والفواحش وبالتالي إلى خسارة سعادته الأخروية، أما العدو الظاهري فغاية ما يسبب من ضرر هو خسران الحياة الدنيا وعادة ما يكون الإنسان حذراً منه ومتيقظاً لأعماله العدوانية. ولذلك عبَّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن مجاهدة النفس في بعض أحاديثه بـ "الجهاد الأكبر".
* الجهاد في القرآن
ورد في القرآن الكريم تعبيران مترادفان الجهاد والقتال. فالجهاد بمعنى السعي وبذل الطاقة في مبارزة العدو يشمل كل أنواع المبارزات، سواء منها مبارزة العدو الظاهري أو العدو الباطني "أي النفس الأمارة"، ونحتاج إلى قرائن أخرى حتى نحدد المعنى المقصود والنوع المقصود. أما القتال فلا يستعمل إلا في معنى واحد وهو الجهاد الظاهري ومواجهة الأعداء الخارجيين.
لقد حث القرآن على الجهاد في موارد كثيرة. فالآيات التي تتحدث عن الترغيب والتشويق والاندفاع نحو الجهاد في سبيل الله لا يمكن حصرها في هذه المقالة الصغيرة، لكن نشير إلى بعضها:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾ "المائدة/ 35".
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير﴾ "التوبة/ 73".
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ "الأنفال/ 65".
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ، إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ "التوبة/ 38 - 39".
في هذا المجال نكتفي بتوضيح بعض النكات حول الآية الأولى الواردة أعلاه.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ "المائدة/ 35".
تتحدث الآية الكريمة عن مواضيع ثلاثة:
أولاً: التقوى وهي ملكة باطنية تحصل لدى الإنسان من تربية النفس وتهذيبها ومبارزة الأهواء النفسانية.
ثانياً: الوسيلة. قال الراغب في مفرداته: الوسيلة بمعنى التوصل إلى الشيء برغبة. وهي أخص من الوسيلة لتضمنها معنى الرغبة. قال تعالى: ﴿وابتغوا إليه الوسيلة﴾ وحقيقة الوسيلة إلى الله مراعاة سبيله بالعلم والعبادة وتحرِّي مكارم الشرعية وهي كالقربة".
ويقول الشيخ الطوسي قدس سره في تفسير الآية: "توسلت إليك أي تقرَّبت". وبناء عليه، يصبح معنى الآية هو وابتغوا القربة والتقرب إلى الله عز وجل.
ويقول بعض آخر أن الوسيلة هي ما يتوصل به إلى الشيء ويُتقرب به إليه، أي الأمر الذي من خلاله وبواسطته يتحقق الوصول إلى الهدف.
يقول صاحب "لسان العرب": الوسيلة في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به إليه، ووسل فلان إلى الله وسبله إذا عمل عملاً تقرّب به إليه.
إذاً فتارة يقال: الوسيلة هي التقرب إلى الله ويصبح المعنى تقربوا إلى الله، وأخرى يقال الوسيلة هي ما يُتقرب به إلى الله، ويصبح المعنى اعملوا الأعمال واتخذوا الوسائل التي تقربكم إلى الله سبحانه.
نقلاً عن ابن شهر آشوب: قال علي عليه السلام: وابتغوا إليه الوسيلة أنا وسيلته.
وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام قال الرضا عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الأئمة من ولد الحسين عليه السلام من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله، هم العروة الوثقى. وهم الوسيلة إلى الله تعالى. وجاء في تفسير علي بن إبراهيم: تقربوا إليه بالإمام.
فالأئمة عليهم السلام من أكمل مصاديق الوسيلة إلى الله سبحانه وتعالى التي توجب القربة إليه، فالولاية شرط لقبول الأعمال، الوسيلة درجة في الجنة.
بعض الروايات الواردة عن الشيعة والسنة تتحدث عن الوسيلة وأنها اسم لأعلى مرتبة وأسمى منزلة في الجنة. وهناك خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام موسومة بـ "الوسيلة" يقول في مستهلها:
أيها الناس إن الله عز وجل وعد نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الوسيلة، ووعده الحق ولن يخلف الله وعده. ألا وإن الوسيلة أعلى درج الجنة".
وورد أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا ينالها إلا عبد واحد. وأرجو أن أكون أنا هو.
وتقرأ في الأدعية، وخصوصاً أدعية شهر رمضان المبارك: "وأعط محمداً الوسيلة".
ثالثاً: الجهاد في سبيل الله، وهو يشمل جهاد النفس وجهاد الأعداء لعدم وجود قرينة تحدد نوعاً خاصاً منه.
نظر بعض المفسرين أن هناك ارتباطاً بين المواضيع الثلاثة من قبيل ذكر الخاص بعد العام، لأن التقوى مفهوم عام يشمل جميع أنواع القربة ووسائل التقرب إلى الله عز وجل، والوسيلة تشمل الجهاد وغيره من الأعمال العبادية وغير العبادية... فالجهاد أخص من الوسيلة، كما أن الوسيلة أخص من التقوى. وبما أن الوسيلة من أبرز مفردات التقوى وأهمها، ذكرت بعد التقوى مباشرة. وللخصوصية عينها ذكر بعد الوسيلة مباشرة. إذاً فالجهاد من أفضل وأهم الوسائل إلى الله.
ومن جهة أخرى يمكن اعتبار كل التقوى مقدمة لابتغاء الوسيلة التي هي بدورها مقدمة للجهاد في سبيل الله فالذي يريد أن يتقرب إلى الله ويبتغي إليه الوسيلة، ويؤكد عزمه كل السير والسلوك إلى الله عز وجل لا بد أن يبدأ من التقوى، أي من تهذيب النفس وتربيتها. وفي أثناء السير وطي المنازل لا بد من تحمل الميثاق والصعاب والتضحية بالغالي والنفيس.
وهو ما يعبر عنه بمجاهدة النفس والتغلب على أهوائها. وبعد التحقق بمقام المجاهدة يمكن عندئذ الوصول إلى الفلاح والفوز بلقاء المعشوق ﴿وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون﴾ فالظفر والفلاح نتيجة للجهاد والمجاهدة.
فكما أن مجاهدة العدو الظاهري يعود على الإنسان. فرداً ومجتمعاً بالظفر والفلاح على مستوى الحياة الدنيا الظاهرية، كذلك مجاهدة العدو الباطني يعود على الإنسان فرداً ومجتمعاً، بالظفر والفلاح على مستوى الحياة المعنوية والأخروية.