إن مقام الشهود حيث أنه أعلى مراتب المقامات فهو غاية الآمال ومنتهى الوصال ولذلك اختص الشهيد بهذا المقام العالي لأنه عبر كل ما سوى اللَّه وأفنى وجوده في ذلك البحر اللامتناهي.
يذكر الإمام قدس سره أن المرتبة الرابعة من مراتب المقامات هي مقام المشاهدة، ويكثر الحديث في أوساط أهل اللَّه والسالكين عن الكشف والشهود، ولذلك فإن هناك العديد من التصورات التي تحيط بالمعنى الحقيقي الذي يعدّ أعلى مقام معنوي للإنسان. فما هو المقصود من الكلام؟
"... وهو نور إلهي وتجل رحماني، يظهر في سر السالك تبعاً للتجليات الأسمائية والصفاتية وبنور جميع قلبه بنور شهودي...".
"الآداب/ ص37"
إن كل إدراك للحقيقة يعد كشفاً لأن الحقيقة موجودة وهي عين الواقع ولا يبتكرها الإنسان يعقله أو خياله، وعلى هذا الأساس يكون قدر الإنسان بقدر ما يكشف من حقائق عالم الوجود، فبعض الناس لا يرون من هذا الوجود إلا عالم الدنيا، وهم عالمون بها: "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا".
ولكن لأن الدنيا بحقيقتها غير ما يعلمون، فهم ليسوا من أهل الكشف، بل مستغرقون في الأوهام والاعتباريات التي هي حجب الحقيقة والواقع.
وبعض الناس يدركون أن هناك عوالم أخرى غير هذا العالم المادي، فعالم الغيب بالنسبة لهم مشهود، ولكنهم لم يصلوا إلى حقيقته لأنهم لم زالوا يرونه إلى جانب عالم الدنيا وبإزائها، فهم ليسوا من أهل الكشف أيضاً.
فإذا أكمل أحدهم سيره المعنوي قد يصل إلى مقام الشهود الحقيقي حيث يرى حقيقة الدنيا التي هي الفناء، وحقيقة الغيب الذي هو الأسماء فيترنم قائلاً: "العالم غائب ما ظهر قط، واللَّه ظاهر ما غاب قط، "ابن العربي"
وتنكشف له أسرار:
"كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام".
فهذا الذي وصل إلى مقام المشاهدة.
ولذلك عبر الإمام عن الشهود بأنه يظهر تبعاً للتجليات الأسمائية والصفاتية وعند العارف ليس في عالم التحقق إلا أسماء اللَّه تعالى وصفاته.
إن السالك الواصل يصعق بكلمات:
"ألغيرك من الظهور ما ليس لك" "دعاء عرفة"
وهو يرى الحقيقة منحصرة باللَّه فاللَّه هو الحق:
"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق".
وآل التعريف تفيد أن الحق واحد منحصر باللَّه:
"وإن ما يدعون من دونه هو الباطل".
ولا حق غيره.. فإذا لم يصل السالك إلى هذا المقام فليس من أصحاب الشهود.
الأمر الآخر الذي أشار إليه الإمام هو وصف المشاهدة بالنور الإلهي والتجلي الرحماني.
يتصور البعض أن المشاهدة والمكاشفة هي نوع من الرؤية الضبابية ولأنهم لم يعرفوا من الحياة إلا ظاهرها المادي، فهم يعتقدون إن ما يحصل عليه أصحاب الشهود هو من قبيل الخواطر والخيالات التي تتفرع أو تنشأ من القوالب المادية.
ولكن ما يحصل عليه المشاهد هو أعظم وأوضح وأجلى من رؤية المادة بعينه، أي أن نور الكشف يكون أقوى من نور الشمس "ولذلك فإننا لسنا من أهل الكشف" عندما يقول لك أحدهم وهو يحمل كتاباً بأنه برتقالة لا تصدقه لأن عينيك أصدق منه، وفي عالم الكشف يكون التصديق أقوى لأن المشهد يكون أجلى بحيث لا يتطرق إليه أي احتمال خطأ.
ثم أن موقع الشهود هو سر الإنسان وجميع قلبه:
"... يظهر في سر السالك... وبنور جميع قلبه..." "الآداب 37".
فمن لم يكن من أصحاب السر لن يقدر على المشاهدة لأن من فقد حساً فقد فقدَ علماً، والسر عند العارف هو أحد قوى النفس، ولهذا السر عين ترى حقائق الأشياء فكيف لمن لم يعرف سرّه بتهذيبه أن يفتح عينه على الحقائق؟؟
أما أهم آثار هذا المقام فهو تحقق السالك المشاهد بحقيقة الأسماء حيث يصبح الحق تعالى سمعه وبصره ويده ولسانه كما ورد في حديث قرب النوافل:
"ما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها".
يقول الإمام:
"وفي هذا المقام يبرز أنموذج من قرب النوافل المعبّر عنه بـ"كنت سمعه وبصره"..." "الآداب/ 37".
فعند العارف تكون المعرفة مساوية للتحقق بمعنى الصيرورة ولذلك فهم يقولون أن هدف الخلق هو:
"... صيرورة الإنسان مظهراً تاماً لأسماء اللَّه وصفاته...".
فالمعرفة الشهودية هي أحد فيوضات اللَّه تعالى. ولأن فيض اللَّه واحد وحقيقته الإطلاق: "... يرى السالك نفسه مستغرقاً في البحر اللامتناهي..." "الآداب/ 37". أي أن السالك في هذا المقام يعبر الحدود وينتقل من النقص ويتحقق بغيض اللَّه المقدس الذي لا حد له لأنه وصل إلى حقيقة العلم.
ولأن حقيقة العلم هي عين الكمال، والكمال شامل للقدرة والحياة وسائر الصفات، فهو، أي العلم، يجر معه كل الكمالات الأخرى التي ترجع إلى عين واحدة.
ولا ننسى كلام الإمام:
"ولكل من هذه المقامات استدراج يختص به وللسالك فيه هلاك عظيم..." "الآداب/ 37".
فالأصل والمبدأ هو التوكل على اللَّه والاعتصام بحبله وترك الأنانية والهوى.