نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

منبر القادة: الصيام إرادة العبودية (*)

الشهيد الشيخ راغب حرب رحمه الله

إنّ شهر رمضان المبارك، هو شهر اعتدنا أن نستقبله كل عام في نمط غير عادي من أنماط حياتنا. ونحن نعرف أيضاً أن صيام هذا الشهر فريضة من الله سبحانه تعالى على المسلمين، كما كان فريضة على من قبلهم من الأمم، ومَن قبلهم من أصحاب الأديان. ولكن على الرّغم من معرفتنا بهذه الأمور، فإنّ شهر رمضان اكْتُنِفَ طوال الفترة التي عشنا فيها الغربة الفكرية بالغموض، وأصبح لغزاً محيّراً للناس.

*عشنا غربة عن الإسلام
بتعبير آخر، لقد عشنا قرابة قرن كامل في حالة بُعدٍ، شبه كامل، عن الإسلام. ومن عاش بعيداً عن شيء جَهِلَهُ. غُيّبنا أو غُيّب الإسلام عن حياتنا فجهلناه.
لا يمكن لنا أن نفهم شيئاً من الإسلام بشكل دقيق وأمين إلّا إذا فهمنا روح الإسلام بشكل عام، إذْ لا يجوز أن نجزئ الإسلام، وأن يؤخذ كل جزء منه على حدة.

ومن هنا، إذا أردنا أن نتحدّث عن صوم شهر رمضان، لا بد أن نتحدث عنه انطلاقاً من الإسلام ككلّ... ومن خلال ملاحظة أمرين اثنين:
الأمر الأول: إنَّ الإسلام بكل أجزائه واحدٌ ومتكامل، أرسله الله لإنارة طريق الحياة، ولجعل مسيرة الحياة الإنسانيّة مسيرة هدى، بدلاً من أن تكون مسيرة ضلال.
الأمر الثاني: إنّ الله لم يأمر الناس بأمر ما عبثاً... لم يأمرنا الله بشيء، في الإسلام، ليس فيه مصلحة لنا: في حياتنا الدنيا، وفي حياتنا الآخرة.

*إياكم والفَهم الإلحادي
يوجد نمط من الفهم الإلحادي قد شاع وتسرّب بين العقليات الدينيّة، وهو أنَّ الله خصمٌ حقودٌ ولئيم (والعياذ بالله)، ويريد أن يسلبنا لذّة الحياة!
قد يخجل الكثيرون من أن يسألوا عن حقيقة هذا التصوّر، فإذا تحدثْتَ إلى فاسق، ونهَيْته عن فسقه، وقُلتَ له: اتّقِ الله، ولا تقترف ما حرّم، فإنَّه يقول لك: أريد أن أبتهج قليلاً! أو يقول: دعونا نسرق بعض لحظات اللذّة خارج قرار الله وإرادته!
هذا الفهم هو فهم إلحادي وثنيّ، وليست له علاقة بالإسلام، ولكنَّنا نعتقد بأن الإسلام قد نزل من أجل حياة الإنسان، وبدونه لا يمكن أن تتحقق للإنسان حياة سعيدة.

*الإسلام دين لصنع الحياة
الإسلام دين بعث لصنع حياة الإنسان. وهناك فرق بين أن يكون الإسلام ديناً لصنع حياة الإنسان، وبين أن يكون موافقاً لهواه، فليس في كل تشريع هوى الإنسان، بل على العكس: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (البقرة: 216)، رغم أنه في القتال مصلحة للإنسان: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً (الحج: 40).
وكتبت عليكم الزكاة، وهي كره لكم أيضاً، فالإسلام يربّي فينا حبّ الإنفاق، وإلّا فالإنسان يهوى أن يبتلع كل شيء. وعليه، ليس تشريع الإسلام لمصلحة الحياة موافقاً للهوى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأرْضُ (المؤمنون: 71).
ومن هنا، يتصوّر بعض الناس أن بعض التكاليف وُضع شططاً، وأنّ الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نصوم شهراً كاملاً، وأن نموت من الجوع، فما هذا الدين؟ ولماذا يريد الله أن نجوع؟ يُحلّل البعض سبب هذا التكليف فيقول: عندما تتعب المعدة، يتعب جسم الإنسان، لذا الله تعالى شرّع الصوم، ليصنع لنا نظاماً غذائياً أو غير ذلك من الأقوال، وهذه أمور ليست رئيسة في التشريع.

إنَّما المراد من الصوم هو بناء إرادة الإنسان، وعلى الإنسان أن يتّبع الإسلام ويحقّق طاعة الله.
الإسلام يرتّب خيوطاً رئيسةً في حياة الإنسان، ويعمل على تربية الإنسان المسلم: أنت عبدٌ لله وحده، وأنت حرٌّ أمام الأشياء كلها، والأرض كلّها مسخّرة لك، وعليك أن تستخدمها، وأن تصنع نفسك وفق إرادة الله؛ هذا هو مختصر الإسلام. وبهذا اللحاظ يتحرك الإسلام. من يُرِدْ أن يكون حرّاً أمام كل شيء ما عدا الله، يَحْتَجْ إلى ممارسة فعليّة.

*العبودية قرار وإرادة
الحرية ليست كلاماً، وإنما هي قرار، والعبودية أيضاً قرار.
إنَّ الإنسان الذي تأسره الشهوة، وتأسره اللقمة، ويأسره الماء لا يمكن أن يكون عبداً لله؛ لأن العبودية لله تحتاج إلى إرادة، وتحتاج إلى رياضة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى رسائله: "لأروضنّ نفسي رياضة تهشُّ معها إلى القُرص إذا قَدَرْتُ عليه مطعوماً [طعاماً]، وتقنع بالملح مأدوماً [إداماً]"(1).
ومحلّ الشاهد هو قوله عليه السلام: "لأروضنّ نفسي"، فالنفس تحتاج إلى ترويض، وعقلك إذا لم يتروَّض لا يستطيع أن يعمل بشكل أفضل، وهذه هي حال إرادتك أيضاً.
إذاً، شهر رمضان هو شهر ترويض الإرادة، هو شهر تدريب الأمة والفرد.

كيف يمكن أن يدخل الإنسان في هذا الشهر؟ وكيف يمكن أن يخرج منه؟ نحن نسمع أحاديث كثيرة في هذا الشأن، فمن الناس مَن يقول: إنّه شهر المغفرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنَّه شهر التوبة، وشهر العتق من النار، وشهر الفوز بالجنّة(2)، وشهر يمكن أن يولد فيه الإنسان من جديد، كيوم ولدته أمه، ولكن توجد في مقابل هذه الروايات روايات أخرى تقول: "رُبَّ صائم ليس له من صومه إلّا الجوع والعطش" (3)، فكيف يمكن أن نفهم ذلك في ظل ضيافة الله للإنسان؟

هذا دليل واضح على أن هذا الشهر هو دورة تدريبية. إنَّ بعض الأشخاص يدخلون شهر رمضان ويخرجون، وهم لا يزالون كما كانوا، لا يستفيدون شيئاً؛ ومع ذلك فالله غفور رحيم، وقد دعاكم إلى ضيافته. وهو يعطي الجميع: أجرالعطش، وأجر الجوع، ولا يضيع الله أجر أي عمل. ولكن بعض الأشخاص يخرجون من شهر رمضان، وهم أشدُّ تقوى وعبوديّة لله، وأكثر حريّة في تفكيره، وفي إرادته، وفي علاقاته، فيغفر الله له ما تقدّم من ذنوبه، وما سلف من سيئاته، ويعامله كيوم ولدته أمّه، أي: كمن لا ذنب عليه.

وبين هذين الواقعين، توجد نِسَب، فهناك إنسان ينجح بنسبة عشرين في المئة، ومنهم مَن ينجح بنسبة أقل أو أكثر من ذلك، ولكن الويل هو لأولئك الذين لا يدخلون في هذا الشهر أبداً، أو يرسبون لأنهم لا يملكون صفة الإرادة البشرية، وصفاتهم أشدّ قرباً من صفات البهائم والحيوانات الأخرى.

شهر رمضان شهر ينبغي أن يدخله الإنسان ليتعلم منه. تعرفون أنه تُستحبُّ قراءة القرآن كله في شهر رمضان، ليبني الإنسان نفسه بناءً جديداً. ولا ريب أنَّ القراءة الواعية للقرآن هي التي تخرج النفس من الظلمات إلى النور.
المطلوب هو أن نحوِّل هذا الشهر إلى شهر نتعلّم فيه الإسلام ونمارسه في حياتنا، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك في هذا الشهر العظيم، وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يكفِّر عنّا سيئاتنا.


(*) خطبة ألقاها الشيخ رحمه الله بتاريخ 3/7/1981، في استقبال شهر رمضان.
1- نهج البلاغة، كتاب45.
2- مقتبس من دعاء يُدعى به بين كل ركعتين من نوافل شهر رمضان. راجع: إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ج1، ص81.
3- سنن ابن ماجة، القزويني، ج1، ص539.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع