الشيخ إسماعيل حريري
مما لا شك فيه، أن لأيام محددة في حياة الأمم خصوصيّةً، ومكانةً تميّزها عن سواها من بقية أيام السنة.
*أيام عزّة عند الشعوب
وتختلف خصوصيّة الأيام بين أُمّة وأخرى، وبين كونها دينيّة أو قوميّة أو غير ذلك. وممّا لا شك فيه أيضاً أنّ لهذه الأيام، بل والليالي الخاصة، أثراً تربوياً ونفسياً على مَن يعتقد بها، فنرى مثلاً كيف يشعر أهل بلدٍ بالعزّ والفخر في يوم استقلال بلادهم من احتلال غاشم كان مسلّطاً عليهم، ويعقدون العزم على الحفاظ على هذا الاستقلال ولو قدّموا أنفسهم في هذا السبيل؛ وكذلك يشعرون في يوم شهيدهم الذي قضى في هذا السبيل، وأنّ الواحد منهم مدين لهذا الشهيد بما ينعم به من استقلال وعزّة وكرامة... وتترك هذه الأيام آثارها التربوية على كل الأجيال الآتية أيضاً.
*اللهم اجعله يوم عيد
وقد دعا نبيّ الله عيسى عليه السلام لما طُلب منه أن ينزّل الله عليهم مائدة من السماء أن يجعل يوم نزولها عيداً لأوّلهم وآخرهم، قال تعالى: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ...﴾ (المائدة: 114)، فيكون يوم إنزال هذه المائدة عيداً يُحتفى به ويذكرون فيه نعمة الله عليهم بإجابة الدعاء. ومن أهم الآثار التربوية لذلك اقتناع النفس أنّ الله تعالى مع عبده، إذا رجع إليه، ما دام مؤمناً ومعتقداً بالحق وعاملاً له.
*أيامٌ مباركات
وفي الشريعة الإسلامية مواقيتُ (أيام وليالٍ) لها مناسباتها وشأنها عند الله تعالى. وتحوي من الخصوصيات ما يكون كفيلاً وحده بأخذ الإنسان تربوياً إلى السلوك السويّ والعمل الصالح الذي يرضى عنه الله تعالى، بعد تثبيت الاعتقاد السليم في النفس الإنسانية. وقد ورد الحثّ على ملاحظة هذه الأزمنة والتعرّض لها بما يناسبها من إحياء وأعمال ونحو ذلك. حتى أنّ الحثّ الخاص أكّد على ما للإتيان بالأعمال الخاصة، في هذه الأزمنة، من آثار دنيويّة وأخرويّة مرغّبة ومحفّزة للإنسان للمبادرة إلى امتثالها.
فعلى نحو العموم ورد في النبوي: "إنّ لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها بكثرة الاستعداد"1.
*الأولويّة تأديب وتهذيب النفس
من الواضح لكل مطّلع على آيات الكتاب الكريم وروايات السُّنة الشريفة أنّ الإسلام أولى النفس وتربيتها وتزكيتها أهمية كبرى، بل الأساس، في كل تشريع، ملاحظة كمال النفس ورقيّها سواء كان تشريعاً إلزامياً أم غير إلزامي بنحو الفعل أو الترك، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ...﴾ (الجمعة: 2)، وقال عزَّ وجل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ (الأعلى: 14 - 15). وكل الخطابات التي تأمر وتنهى وتحثّ وتبعث أو تفيد علّة حكم أو حكمته ترجع إلى النفس وتقواها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 9 - 10).
وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ (النازعات: 40 - 41)، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183) وغيرها الكثير.
وفي الروايات، قول أمير المؤمنين عليه السلام: "هي نفسي أرُوضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر"2، وقول الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "وحق نفسك عليك أن تستعملها بطاعة الله"3، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "طوبى لمن جاهد في الله نفسه وهواه، ومن هزم جند هواه ظفر برضى الله تعالى، ومن جاوز عقلُه نفسَه الأمّارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله فقد فاز فوزاً عظيماً..."4.
كل ذلك فيه الكثير من التوجيه والإرشاد نحو الاهتمام بالنفس تأديباً وتزكية. وجعلُ جهاد النفس جهاداً أكبر كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم 5 هو خيرُ دليل على أولوية تهذيب النفس وتأديبها على كل جهاد.
*خصوصيّة بعض الأيام
ومن هنا، كانت الأيام والليالي، ذات الخصوصيات الدينية، لها دخلٌ دخيل في كل ما تقدّم. فهناك شهورٌ لها خصوصيّات بحدّ ذاتها، وهي الأشهر الثلاثة: رجب، شعبان، شهر رمضان، وخصوصاً الأخير. وما ورد في هذه الأشهر من الحثّ على صومها، وما لمن صامها أو صام ولو يوماً من الأوّلين لعدم اللزوم فيهما، وأيضاً خصوصيّة بعض الأيام فيهما كالأيام البيض، ويوم المبعث في السابع والعشرين من شهر رجب، والخامس عشر من شهر شعبان؛ فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: ".. ولا تدع صيام يوم سبع وعشرين من رجب فإنه هو اليوم الذي نزلت فيه النبوّة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثوابه مثل ستين شهراً لكم" 6.
وفي فضل ليلة النصف من شعبان عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "هي أفضل ليلة بعد ليلة القدر، فيها يمنح الله العباد فضله، ويغفر لكم بمنّه، فاجتهدوا في القربة إلى الله فيها، فإنها ليلة آلى الله على نفسه أن لا يردّ سائلاً فيها ما لم يسأله معصية، وإنها الليلة التي جعلها الله لنا أهل البيت.." 7.
*أيّام شهر الله
ويكفينا في شهر رمضان قول نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم: "أيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات" 8.
وفي خصوص ليلة القدر التي جعلها الله تعالى خيراً من ألف شهر عن الإمام الصادق عليه السلام: ".. وفد الحاج يكتب في ليلة القدر، والمنايا والبلايا، والأرزاق وما يكون إلى مثلها في قابل..." 9.
فإن من توقف عند هذه المحطات الإيمانية ليرشف من رحيق معينها عملاً وعبادة وطاعة ستنعكس على مجريات تفاصيل حياته تهذيباً، وتأديباً، وتربية، وسلوكاً في طريق القرب والكمال الإنساني وصولاً إلى أرقى درجاته وأعلى مراتبه ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).
*تأكيد العقيدة والولاء
ومن الأيام الخاصة، ذات البركة والأثر المعنوي والروحي، بل والعَقَدي أيضاً: يوم الثامن عشر من ذي الحجة الحرام، فهو اليوم الذي نَصّب فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من الله تعالى المولى علي بن أبي طالب عليه السلام خليفة ووصياً له من بعده وولياً على المسلمين، ففي خبر الحسن بن راشد عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "قلت: جعلت فداك، للمسلمين عيدٌ غير العيدين؟ قال: نعم يا حسن أعظمهما وأشرفهما. قلت: وأي يوم هو؟ قال: هو يوم نُصّب أمير المؤمنين صلوات الله عليه فيها علماً للناس. قلت: جُعلت فداك، وما ينبغي لنا أن نصنع فيه؟ قال: تصومه يا حسن وتكثر الصلاة على محمد وآله، وتبرأ إلى الله ممن ظلمهم، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم كانت تأمر الأوصياء باليوم الذي كان يقام فيه الوصيّ أن يُتخذ عيداً. قلت: فما لمن صامه؟ قال: صيام ستين شهراً.."10.
ولا يخفى ما لهذا الكلام من أثر عَقَدي كما له أثر تربوي، فإنّ اتخاذه عيداً للتذكير بأنه يوم مبايعة وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللالتزام بولايته وإمامته والبراءة من ظالمي محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإتيان فيه بصوم وصلاة ونحو ذلك يؤثر على نفس الإنسان ويُسهم في صقلها وقربها من الله تعالى.
*عيد وبركة
ولا ننسى ليلة الجمعة ويومها وهما الأكثر وروداً في الروايات حتى اعتُبر يوم الجمعة من الأعياد الأربعة للأمة الإسلامية إلى جانب الفطر والأضحى والغدير11. فسميت ليلته بالليلة الغرّاء، ويومه باليوم الأزهر12.
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ ليلة الجمعة ويوم الجمعة أربع وعشرون ساعة، لله عزّ وجل في كل ساعة ستمائة ألف عتيق من النار" 13.
وعن الإمام علي عليه السلام: "أكثروا المسألة في يوم الجمعة والدعاء، فإن فيه ساعات يستجاب فيها الدعاء والمسألة ما لم تدعوا بقطيعة أو معصية أو عقوق، واعلموا أنّ الخير والشر يضاعفان يوم الجمعة"14.
*مناسبات في أيام خاصّة
ولو أردنا أن نستفيض في ذكر الأيام والليالي ذات الخصوصيّة الروحيّة والتربويّة لطال بنا المقام... فهناك أيّام مواليد المعصومين عليهم السلام، كولادة سيد البشرية وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وسيدة نساء العالمين، وسيد الوصيين وغيرهم عليهم السلام. وهناك يوم دحو الأرض وبسطها من تحت الكعبة، ويوم عرفة والفطر والأضحى ولياليها وغير ذلك، وكلها لو أحسن الإنسان استغلال خصوصيّاتها بالدعاء، وطلب المغفرة، والصلاة، والصوم، والتصدّق، لخرج منها شخصاً مفعماً بالإيمان الحقيقي، وعاملاً على نفسه بما يليق بها، مقرباً لها إلى طاعته تعالى، مبعداً لها عن مسالك الهوى ومهالك النفس الأمّارة بالسوء، وهذا – لا شك – يؤثّر إيجاباً في حياته مع محيطه من أهله وعياله وأرحامه وإخوانه فيسلك سلوك العدل والإنصاف مع هؤلاء جميعاً، وتتمثل فيه معاني الفضيلة والخلق الحسن ويكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).
1- عوالي اللآلي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج4، ص118.
2- نهج البلاغة، كتاب (45).
3- الخصال، الصدوق، ص566.
4- مستدرك الوسائل، النوري، ج11، ص139.
5- الكافي، الكليني، ج5، ص12.
6- الوافي، الكاشاني، ج11، ص52.
7- مصباح المتهجد، الطوسي، ص831.
8- فضائل الأشهر الثلاثة، الشيخ الصدوق، ص108.
9- الكافي، م. س، ج4، ص156.
10- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج10، ص441.
11- يراجع: بحار الأنوار، المجلسي، ج86، ص276.
12- يراجع: جواهر الكلام، الجواهري، ج11، ص131.
13- الخصال، م.س، ص392.
14- المحاسن، البرقي، ج1، ص58.