الشيخ د. أكرم بركات
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (إبراهيم: 5).
إنّ الأيّام كلّها لله تعالى، أمّا أن تستند بعضها إليه فهذا يشير إلى خصوصيّة فيها، كشهر رمضان الذي سمَّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «شهر الله». فلنحدّد بعض الأيّام لنتعرّف من خلالها على هذه الخصوصيّة وصولاً إلى عبدٍ بركاته ما زالت تفيض علينا.
* تذكير بأيّام النصر
إنّ الله تعالى يطلب في الآية السابقة من كليمه موسى عليه السلام أن يذكّر قومه بتلك الأيّام. ونحن نقرأ في آية أخرى تذكير موسى عليه السلام لقومه بأيّامٍ مخصوصة، إذ يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ (إبراهيم: 6). إنّه تذكير بيوم النصر والتدخّل الإلهيّ لنجاة بني إسرائيل، وكذلك بالأيّام التي سبقته حيث كانت المأساة حينما كانت الأبناء تُذبح والنساء تُبقى حيّة لتكون إماءً لآل فرعون.
من هنا، فإنّ أيّام الله هي أيّام النصر التي سبقتها معاناة. إنّها تذكير بالماضي لأخذ العبرة منه للحاضر والمستقبل.
واليوم الخامس والعشرون من شهر أيّار هو يوم من أيّام الله، وهو يوم انتصار الدم على السيف، والعين على المخرز، والمقاومة على الاحتلال بعدما سبقته أيّام مأساة وضيق واستضعاف، نستذكر بعضاً منها.
* الاحتلال الفرنسيّ
زالت الدولة العثمانيّة التي عانى في حكمها أهلنا معاناة قاسية، وجاء الاحتلال الفرنسيّ الذي سيطر بعسكره على الأرض وأراد أن يغيّر النفوس والعقول.
أدرك العلماء ونخبة المجتمع الواعية خطر الاحتلال، فكانت المقاومة بقيادة الإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين (رضوان الله عليه)، الذي وقف في وادي الحجير عام 1920م خطيباً يقول: «إخواني أعلام الأمّة، إنّنا اليوم في هذا المفترق الخطير أشدّ حاجة من أيّ وقتٍ إلى الاعتصام بحبلهم (أي حبل النبيّ وآله) والسير على نهجهم، فإمّا عزّة لا تفصم، أو ذلّة لا تُرحم... إمّا حياة حرّة، أو هوان تهدر في حياته إنسانيّة الإنسان. إمّا استقلال دون وصاية، أو استعباد نكون فيه كالأيتام على مأدبة اللئام». وخاطب المقاومين قائلاً: «أيّها الفرسان المناجيد... وقد امتدّت إليكم الأعناق وشخصت إليكم الأبصار، فانتظروا ما أنتم اليوم فاعلون».
ودعا (رضوان الله عليه) إلى الوحدة الوطنيّة، كقاعدة في عمل المقاومة قائلاً للمجاهدين وبينهم أدهم خنجر وصادق حمزة: «يا فتيان الحميّة المغاوير، الدين النصحية! ألا أدلّكم على أمر إن فعلتموه انتصرتم، فوِّتوا على الدخيل الغاصب برباطة الجأش فرصته، وأخمدوا بالصبر الجميل فتنته؛ فإنّه والله ما استعدى فريقاً على فريق إلّا ليثير الفتنة الطائفيّة، ويشعل الحرب الأهليّة».
* الاحتلال الصهيونيّ
انسحب الفرنسيّون بعسكرهم مبقين على احتلال من نوع آخر هو احتلال ثقافيّ ناعم أرادوا من خلاله تغيير القيم، بالتالي، تغيير الإنسان عبر مشروع أُريد للمنطقة يقوده احتلال عسكريّ صهيونيّ لفلسطين. وقد حذّر السيّد شرف الدين (رضوان الله عليه) وقتها من هذين الاحتلالين، ودعا إلى الوقوف في وجههما ومقاومتهما، فقال: «ألا إنّ الاستعمار الغربيّ يغزونا في عقر دارنا معتدياً غاشماً، ألا ومن مات دون حفرة من تراب وطنه مات شهيداً». وقال أيضاً: «أيّها العرب، أيّها المسلمون، لقد حمّ الأجل وموعدنا فلسطين، على أرضها نحيا، وفيها نموت، والسلام عليكم يوم تموتون شهداء، ويوم تبعثون أحياء».
لقد أراد الإمام شرف الدين أن يركّز بوصلة الأمّة نحو العدوّ الأساسيّ الحقيقيّ وهو العدو الإسرائيليّ.
* الحرب الناعمة
كما عمل سماحته جاهداً في مواجهة الحرب الثقافيّة الناعمة التي امتدّت إلى دائرة واسعة من الجيل الجديد، لا سيّما في ظلّ ثنائيّة النفوذ العالميّ بين أمريكا والاتّحاد السوفياتيّ السابق، والتي أصبح خلالها مجتمعنا ولوقت طويل بين مطرقة العدوّ الصهيونيّ، وطروحات فكريّة وقيميّة أبعدت شريحة واسعة من ذلك الجيل عن الإسلام والتديّن.
وقد جاءت هذه الطروحات من الخارج بأفكار تقدّميّة جاذبة للشباب، ومن الداخل عبر تحريف لتاريخ لبنان من خلال تغييب المقاومين الشرفاء عنه، لا بل تعرّض ذلك التاريخ المدوَّن لقادة من هؤلاء كزعماء لصوص!
* حضور الإمام موسى الصدر (أعاده الله ورفيقَيه)
إنّ شباب ذلك الجيل لم يقرأ تاريخاً صحيحاً يستنهضه، ولم يرَ واقعاً يلائم تطلّعاته، إلى أن حصل في مجتمعنا حدث مهمّ تمثّل في الحضور السياسيّ والقياديّ لوريث الإمام شرف الدين وهو الإمام السيّد موسى الصدر الذي رفع عنوانَين أساسيّين: مقاومة الاحتلال ورفع الحرمان. لقد ركّز الإمام الصدر على توجيه البوصلة نحو العدوّ الحقيقيّ وهو الاحتلال الصهيونيّ الغاصب، فكان نداؤه لشبّان مجتمعنا: «إنّني لا أعترف بالحسينيّة إلّا إذا خرّجت أبطالاً يقاتلون العدوّ الإسرائيليّ في الجنوب»(1). وأعلن بوضوح: «إنّ إسرائيل شرٌّ مطلق، وخطر على العرب مسلمين ومسيحيّين، وعلى الحريّة والكرامة»(2)، وأنّه «يجب إزالة إسرائيل من الوجود؛ لأنّ وجودها عنصر عدوانيّ يخالف المسيرة الإنسانيّة»(3)، «وإسرائيل دماغ الشرور في العالم»(4).
وعلى مشارف حدث ضخم في العالم، طالت المؤامرة الإمام الصدر، فغيّبته قبيل أشهر من قيام الثورة التي غيّرت وجه المنطقة بل العالم، إنّها الثورة الإلهيّة التي قادها الإمام الخمينيّ قدس سره في إيران، التي كان يرى أنّها المدخل لتغيير أوضاع العالم الإسلاميّ، بل مجتمع المستضعفين في العالم، لذا، كان جواب الإمام الخمينيّ قدس سره لمن يسأله عن مساعدة لبنان: “يجب أن يسقط الشاه”. ومع هذه الثورة، كانت بداية الصفحة الجديدة لمجتمعنا اللبنانيّ.
* المقاومة الإسلاميّة
لقد حدّد الإمام الخمينيّ قدس سره تكليف المؤمنين في لبنان، ألا وهو مقاتلة العدوّ الإسرائيليّ لتحرير الأرض والإنسان وفق منهج قرآنيّ أصيل لم يقم على مقارنة بين العدوّ والعتاد لمنح شرعيّة المقاومة، بل قام على تصميمٍ لامتثال التكليف الشرعيّ ونصرة الله تعالى يستنزل المدد الإلهيّ والنصر الربّانيّ.
قامت المقاومة في مجتمع لا يؤمن الكثير منه بواقعيّتها ومبادئها، لكنّها انصاعت للتكليف والنصرة، وبعد خمس سنوات على انطلاقتها، أي في عام 1987م، ورغم بقاء قلّتها في العدد والعتاد، كان الإمام الخمينيّ قدس سره مستبشراً معدّاً إيّاها صانعة التحوّل في المنهج فضلاً عن كونها صانعة الانتصار، فقال قدس سره: «إنّ جهاد حزب الله في لبنان حجّة على علماء الأمّة في العالم».
لم يُفهم كلام الإمام الخمينيّ قدس سره في ذلك الحين، لكنّه فُهم في 25 أيّار عام 2000م، ذلك اليوم الذي أثبتت فيه المقاومة أطروحة انتصار الإيمان المُستنزل بمدد الله تعالى على الكفر والضلال مهما كانت الفوارق في العدد والعتاد.
إنّه يوم من أيّام الله ينبغي أن نتذكّره ونستذكر الأيّام التي سبقته، ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ﴾.
ذكِّرهم بيوم النصر الذي اسودّت فيه وجوه الصهاينة، وتلألأت فيه وجوه الغرّ المحجّلين المقتدين بقائدهم فاتح باب خيبر أمير المؤمنين عليه السلام.
ذكِّرهم بأيّام سبقته، بأيّام الوقوف بذلّ أمام الحواجز، وبأيّام تُسجن فيها النساء وتعذّب، وبأيّام مجازر قانا والمنصوري والنبطيّة.
ذكِّرهم بأيّام الله لنحافظ على قوّتنا في ظلّ مجتمع لا يحترم إلّا القويّ، وعلى وحدتنا التي هي أساس الانتصار، وعلى النعمة بشكرها من خلال إيماننا بالله تعالى وطاعته.
ذكِّرهم بأيّام الله لنكون الجيل الذي يحقّق إرادته سبحانه ويمهّد لدولة العدل الإلهيّ بقيادة صاحب يوم الله الأكبر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
(1) الكلمات القصار، السيد موسى الصدر، ص 110.
(2) المرجع نفسه، ص 268.
(3) المرجع نفسه، ص 269.
(4) المرجع نفسه, ص 265.