آية الله محمد محمدي الجيلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسبحانك اللهم صل على محمد وآل محمد مظاهر جمالك وجلالك وخزائن أسرار كتابك الذي تجلَّت فيه الأحدية، بجميع أسمائك، حتى المستأثر منها الذي لا يعلمه غيرك واللعن على ظالميهم أصل الشجرة الخبيثة.
هذه العبارات هي مطلع الوصية السياسية الإلهية للإمام الخميني. لا شك أن الحديث عن القضايا العلمية والفلسفية والعرفانية خصوصاً تلك القضايا التي تتخللها أمور وفنون خصوصاً في المحافل والمجالس العامة بشكل يدركه الجميع أمر صعب وفي بعض الأحيان عسير.
وذلك لأن الألفاظ والعبارات على الرغم من كونها العامل في تفاهم الشعوب مع بعضها البعض ومع انعدامها لأضحت البشرية تعيش في عزلة عن بعضها البعض، تلك الألفاظ قاصرة ولم تبلغ مرتبة الكمال بعد ليتسنى عرض القضايا العلمية والفلسفية المعقدة في المحافل العامة.
فإن لوحظ في الموضوع المطروح خلل فذلك يعود إلى النقص الموجود في عالم الألفاظ الذي يعد الوسيلة لنقل المفاهيم والمعاني إلى المخاطب ولكن اللغات العلمية بريئة عن هذا النقص إذ أن اللغة العلمية هي وسيلة العلماء المحققين للتعبير عن مقاصدهم بعد الفحص والتمحيص فيها حتى أن بعض العلوم تطورت فأصبحت تستخدم العلامات والإشارات بدل الألفاظ دون أن تغير من المعنى.
تبيين وتوضيح القضايا العلمية والفلسفية والمعارف الإلهية بالعبارات المتداولة أمر صعب خاصة إذا كان ذلك الموضوع يتعلق بالمكانة العلمية والفلسفية والعرفانية لشخص لم يكن مجرد فرد في المجتمع فحسب بل كان إنساناً متكاملاً وهو قائد الثورة الإسلامية العالمية مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران بل أيضاً كان مجتمعاً في فرد ولا أعني بالمجتمع هذا مجرد حشد من الأفراد بل اجتماع أنوار الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين والحكماء والأولياء الفانين في القضايا الإلهية وبعبارة أخرى كان رحمه الله وارث الحسين سيد الشهداء الذي ورث آدم عليه السلام حتى فاطمة الزهراء عليها أفضل الصلاة والسلام.
إنّ تشخيص المعيار الإلهي من الشيطاني يكون بأن يجد الإنسان بعد مراجعة نفسه أن هدفه هو حصول العمل ولو قام به شخص آخر
كان هذا البيان للتذكير بقبول عذري إذا قصرت في التعريف بالحقائق العلمية والعرفانية للإمام الخميني كما هي.
كان الإمام هو مرشدي في مقاصده العلمية والعرفانية وقد كشف الستار عن هذه الحقيقة في وصيته السياسية الإلهية بصورة فنية إذ أنه بالرغم من كونه أستاذاً بارعاً في الفقه والمكانة العرفانية السامية التي تحلى بها ونبوغه في الفلسفة فقد كان يتفنن ويبرع في البيان والتبيان.
أرغب في البداية بتوضيح عباريتن من الجمل التي دونتها أنامل الإمام في مطلع وصيته كي يتسنى لكم التعرف من خلالهما على المعارف العرفانية الكبيرة لذلك المجدد كلكم سمعتم بمكانته الفقهية وأسلوبه في استنباط المسائل المستحدثة وبراعته في تحديث الكثير من الأصول الذي يعد الركيزة الأساسية للفقه وكانت له أيضاً اليد الطولى في الفلسفة ولكن للأسف لم يبقِ لنا الدهر منها شيئاً.
سألته يوماً عمَّا إذا كان قد كتب حاشية على الأسفار فقال لم أكتبها بصورة مستقلة إلا أني كنت أكتب على هوامش الأسفار وجهات نظري حول بعض القضايا لدى تدريسي للأسفار ولكن لما داهم السافاك "قوات أمن الشاه" بيتي نهبوا مؤلفاتي العلمية ومن بينها الأسفار التي علقت عليها. والحمد لله لا زالت رسائله العرفانية وتعليقاته على بعض الكتب موجودة نستفيد منها.
ذكرت في مقدمة حديثي عن أن الإمام قد جدّد الكثير دون التعمق في هذه المسألة فإنني إذ أقول هذا لأن سماحته رحمه الله كان يظهر لنا الجواهر المكنونة عبر مر العصور فإننا كنا نرى أنه في بعض الأحيان كان يظهر لنا من هذه الجواهر التي أبلاها الدهر فغدت لا تذكر وأصبحت في خبر كان ويصقلها بأنامل الأستاذ الماهر ويقدمها للمجتمع، فإن أردت ذكر نماذج مما أظهره الإمام لنا من هذه الجواهر لفاتني ما قد أعددت لأجله هنا.
فمن الجواهر النفيسة التي أبلاها الدهر وتناساها "الاسم الإلهي المستأثر" فقد روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده وخصص امام المحدثين الكليني في أصول الكافي باباً لروايات الاسم المستأثر.
قال الإمام في مطلع وصيته "الحمد لله وسبحانك اللهم صل على محمد وآله مظاهر جمالك وجلالك وخزائن أسرار كتابك الذي تجلت فيه الأحدية بجميع أسمائك حتى المستأثر منها الذي لا يعلمه غيرك واللعن على ظالميهم أصل الشجرة الخبيثة".
إن كل اسم ومفهوم يطلق على الباري عز وجل هو تحديد وتعيين له، وهذا ينافي إطلاق وجوده اللامحدود، ولذلك كان الاسم المستأثر
سأذكر رواية أو روايتين لنتعرف من خلالها على الاسم المستأثر في مرتبة الهوية الغيبية للباري عز وجل الذي دفن في ثنايا الكتاب وفي الكافي والوافي ومن الممكن أن يكون البعض من الخاصة قد تعرف عليه وجاء ذكره في زيارة آل ياسين وجاء أيضاً في الرسالة التي وجهها الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى الحميري التي فيها هذه الزيارة التي تضم بين أسطرها ذكراً للاسم المستأثر.
لاحظ كيف أعاد هذا الفنان البارع ذكر هذا الاسم وجدد العهد به في برهة يعيش الإنسان فيها حالة من الركود والجمود وعلماء العالم يفكرون بتربية ظاهر الإنسان دون إنسانيته ويعملون من أجل رفع الإنتاج الوطني دون العمل من أجل رفع مستوى الإنسان وإنقاذه من حضيض الرذيلة. فهم لا يدخلون أبداً العوالم المعنوية وبدل أن ينتخبوا أساتذة ماديين لا هدف لهم سوى المصلحة الشخصية وفي مثل هذه البرهة من الزمان أخرج لنا عالم رباني عارف هذا الجوهر المكنون في كتب الحديث ووضعها في مطلع وصيته "تجلّت فيه الأحدية بجميع أسمائك حتى المستأثر" بعد أن جلاَّه وأعدَّه ليناسب الزمان وجعله كالقلادة على جيد التاريخ..
وهذا الكلام ليس بالكلام العادي فهو كلام الإمام الخميني إذ ليس بإمكان التاريخ تجاهله فإذا طالع المحققون وصيته لوقعت أعينهم على هذه العبارة "الذي تجلَّت فيه الأحدية بجميع أسمائك حتى المستأثر منها".
ماذا تعني هذه العبارة؟ نقل إمام المحدثين محمد بن يعقوب الكليني قدس سره عن الإمام محمد الباقر عليه السلام ما مضمونه "أن لله تبارك وتعالى اسماً أعظم يتألف من ثلاثة وسبعين حرفاً كان لدى آصف بن برخيا علم أحد تلك الحروف".
إن القرآن الكريم تحدث عن آصف بن برخيا فقال: ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِين﴾ "سورة النمل/39".
فالحرف الذي كان لدى آصف لم يكن كالأحرف التي نتلفظها كالباء والظاء والطاء بل حرف له دلالة الاسم أي اسم الباري بالمعنى لا باللفظ.
قال سليمان النبي عليه السلام من منكم بإمكانه أن يأتيني بعرش بلقيس فقال له عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك.
وقال الذي عنده علم من الكتاب "أي آصف" أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك.
﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيم﴾ "سورة النمل/40".
فقال الإمام الباقر عليه السلام إن آصف كان لديه حرف واحد من الثلاثة والسبعين حرفاً من حروف الاسم الإلهي الأعظم وقد أعطى الباري عز وجل اثنين وسبعين من حروف الاسم الأعظم للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأورثه إلى أبنائه المعصومين فاستأثر الباري بالحرف الثالث والسبعين.
إن هذا الاسم أي هذا الحرف لم يتعرف عليه لا نبي ولا وصي وما أريد تبيانه في هذا المقام هو شرح هذه الجملة للتعرف على المقام العرفاني للإمام الخميني في توحيد الخالق عز وجل وقبل الخوض في معاني تلك الجملة العرفانية لا بد من بيان حقيقة فلسفية وعليكم الإمعان فيها بدقة.
فلنفرض السيد حسن شخص موجود في هذا المجلس فوجوده له حقيقة ببركة الوجود إلا أن وجوده وجود مقيد وللسماء وجود مقيد وللأرض وجود مقيد وللكواكب وجود مقيد وللملك وجود مقيد وللرسول وجود مقيد وبعبارة أخرى لكل ممكن وجود مقيد أما الوجود المطلق فهو الوجود الذي لا يحتجب بحجاب والممكنات كلها قائمة به فإذا طابقت مفهوماً على واجب الوجود عز وجل لأصبح ذلك المفهوم مقيداً.
فلذا كل اسم وجسم وأي مفهوم يطلق على ذلك الوجود المطلق أي الباري عز وجل لحدده وتحديده هنا ليس بمعنى تحديد ماهيته بل بمعنى تحديد حدوده وتعيينه وقد جاء عن الإمام علي عليه أفضل الصلاة والسلام حيث قال: "وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه. بشهادة كل صفة إنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه"، فهذه هي الحقيقة المطلقة للغيب والإمام قدس سره باق ما بقي الدهر فنهاية حياة كل شخص بموته سوى الرجال الربانيين إذ أن موتهم هو بداية لحياتهم الخالدة. فالإمام ساطع نوره وسيسطع أكثر بعد مولده الجديد "موته" لاحظ كيف يستدل الإمام في مطلع كتابه "مصباح الهداية في الخلافة والولاية" الذي يعدُّ كتابه العرفاني العميق بآخر سورة الحشر القائل: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ ليثبت أن الهوية الغيبية المطلقة للباري عز وجل لا تقيد بشيء ولا يمكن لأي مفهوم أن ينطبق عليه. فيقول إن "هو" في تلك الآيات هو الغيب المطلق كقولك "قل هو الله أحد" فلا سبيل للتوصل إلى الهوية الغيبية "المستأثر له" حتى مفاتيح الغيب ﴿وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة ألا يعلمها﴾.
فأي عظيم بإمكانه أن يدون وصيته الإلهية السياسية فيجذب القلوب نحوه في مطلع وصيته ويذكرها بالاسم المستأثر الإلهي فالسلام على هذا الرجل البار العارف الكيس.
الباع قصير وللعرفان والفلسفة والعرفان العملي والعرفان النظري والفلسفة العملية والفلسفة النظرية شعاع طويل وقد تبلورت أنوار الأنبياء في هذا الرجل العظيم وقولي هذا ليس بالمبالغة لأنه كان غائصاً في بحر الأسماء الإلهية وإن لاحظنا بدقة، وجدناه فانياً في الاسم المقدس "العزيز" فالبعض من العرفاء وسالكي الطريق إلى الله يتحملون المشاق والرياضات التربوية للوصول إلى مرتبة الفناء في الكثير من الأسماء الإلهية واجتيازها والبعض من أولئك السالكين يركزون في رياضاتهم العرفانية على بعض الأسماء الربانية وكان الإمام قدس سره من جملة أولئك الذين ركزوا رياضاتهم في الاسم الإلهي "العزيز" وفنوا فيه. ذلك الاسم الذي أعزه بعزة الباري وتمكن به من إحباط المؤامرات الأمر الذي يدل على القوة والعزة الخارقة التي يتمتع بها الإمام.
كان في الحسبان أن نشرح مقام الأحندية، لكن المجال ضيق فلعل الله تعالى ييسّر لذلك فرصة أخرى.
اللهم إني أقسم عليك بخاتم الأنبياء بأن تنور قلوبنا وتذيقنا حلاوة العبادة. اللهم سدد خطانا وأنر روح إمامنا الراحل واسكنه في فسيح جناتك.