مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قراءة في كتاب: السيرة النبوية

للعلامة الأستاذ الشهيد مرتضى مطهّري


عند مطالعتنا لكتب السيرة النبوية، نجد أنّ أكثرها يعرض لتاريخ حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أولها إلى آخرها، متوقفاً عند أصغر الأحداث وأكبرها فيها، دون مناقشتها وتحليلها وسبر أغوارها، واستكناه خلفياتها وأبعادها. حتّى لقد غدا من المتعارف بين الناس أنّ السيرة تقتصر على هذا الأمر.
إلاّ أنّ المتتبع لمعنى السيرة اللغوي الذي لا يدلّ على نوع ونمط وكيفية السير والسلوك، والمتدبّر في الأمر الإلهي من اتخاذ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا "الأحزاب/33 " يلتفت إلى أهمية دراسة السيرة، على أساس استخراج المبادئ والقوانين من حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، التي يمكن، بل يجب السير على هديها امتثالاً للأمر الإلهي.
 

والأسباب التي أدّت إليها، والخلفيات والأبعاد التي قامت من أجلها، وبالمقارنة بينها، يمكننا الاستنان بسنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والسير على هديها الموصل إلى السعادة.
وكتاب العلاّمة الشهيد مطهّري "السيرة النبويّة" الذي بين أيدينا، هو واحد من هذه الكتب التي أثرت المكتبة الإسلامية في فهم الإسلام المحمدي الأصيل، من خلال المواضيع الهامّة التي طرحها في موضوع السيرة النبوية. والتي سوف نستعرضها في هذه الحلقة من "قراءة في كتاب".
يقع الكتاب في 224 صفحة من القطع الصغير. ترجمه جعفر صادق الخليلي. صادر عن دار البعثة – بيروت.

* مفهوم السيرة
ابتدأ المؤلّف بالكلام عن مفهوم السيرة، لاسيّما السيرة الشريفة لنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تمثل أحد منابع المعرفة، التي ينبغي على كلّ مسلم الاستقاء منها، لاستكمال صلاحه وتصحيح نظره.
وبعد أن رأى ذلك المخزون الوافر من أحاديث الرسول وأقواله وأفعاله، ووضوح سيرته وحياته المدعومة بالأسانيد الوثيقة دون سائر أنبياء الله الآخرين – نعمة إلهية كبرى علينا – نحن المسلمين – أكّد على الاهتمام بها وحفظها وتدبّر معانيها العميقة تدبراً يقف على كلّ موقف من مواقفها للاستفادة قدر الإمكان منها، حيث أنّها بلغت من الدقّة مرحلة يمكن فيها وضع قوانين على هدي تفاصيلها. وبهذا تتحصّل الفائدة المرجوّة من دراسة سيرته صلى الله عليه وآله وسلم العطرة.

* السيرة في اللغة
بعد ذلك عرض المؤلف لمعنى السيرة لغوياً فالسيرة مأخوذة من السير وهو المشي، وتعني المِشية "بكسر الميم " على وزن فِعله. وهذه تدلّ بالعربية على النوع، كقولك جَلسة التي تعني الجلوس وجِلسة التي تعني طريقة ونمط وكيفية الجلوس. ومن هنا فالسير يعني المشي، والسيرة تعني نوع ونمط المشي والسلوك.
وقد رأى العلاّمة الشهيد أنّ أكثر الكتابات التي تناولت السيرة هي عبارة عن تناول سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا سيرته، وذلك أنّها لم تتعرّض لنمط السلوك الذي سلكه صلى الله عليه وآله وسلم وخلفياته ودوافعه. "فعندما نريد أن نبحث في سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

 إنّما نريد معرفة الأسلوب أو النمط الذي كان يتبعه في حياته وأعماله اليومية لبلوغ أهدافه. فمثلاً كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يبلغ رسالته فكيف كان يقوم بذلك؟.. كيف كان أسلوبه في قيادة المجتمع؟.. كيف كانت حياته الزوجية، وكيف كان يعامل زوجاته وأبناءه؟ كيف كان يتعامل مع أصحابه واتباعه.. وكيف كان يتعامل مع أعدائه وأسلوبه في مقابلتهم"؟
فهل كان يعتمد أسلوب القوّة أم سبيل التحايل والمخادعة كما يفعل سياسيو هذه الأيام؟ أكان يعتمد أسلوب الضعف والتهاون أم سياسة الحسم والبت؟ أكان فردي الاتجاه يتخذ قراراته بنفسه، أم يشاور أصحابه في أمور الأمة العامة؟
بالإجابة على كلّ هذه الأسئلة وبالالتفات إلى أنواع الأساليب وطرق التعامل مع الحوادث المختلفة، نكون قد اطلعنا على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

* السيرة والموقع الطبقي
وبالانتقال إلى السيرة والموقع الطبقي، عالج المؤلف السؤال المطروح من قِبل البعض وهو: هل يستطيع الإنسان اتباع منطق ثابت في عمله، لا يتخلّى عنه مهما اختلفت الظروف الزمانية والمكانية، أم لا؟
وقد طرحت هذه المسألة على بساط البحث في العالم المعاصر، ووجدت لها أجوبة مجانية للصواب وللمعايير المنطقية، وكذا مخالفة للشواهد التاريخية.
 

فالماركسية التي لا ترى للفكر والعقيدة والإيمان أصالة في مقابل الظروف الاجتماعية والاقتصادية رأت: "إنّ الإنسان لا يستطيع أن يفكّر بطريقة واحدة ومنطق واحد في الظروف المختلفة إن من يسكن القصر له منطق ومن يسكن الكوخ له منطق آخر" فالذي يحكم طريقة تفكير المرء، إنّما هو وضعه الاجتماعي والاقتصادي ومؤشرات فكر الإنسان مختلفة بحيث أنّ المغناطيس الذي يجذبها هو مصلحته الخاصّة. فإذا كانت منافعه تنسجم مع منافع الطبقة المحرومة تنحرف مؤشرات عقله نحو منافع المحرومين. ولكن عندما تتغيّر منافعه باتجاه الطبقة المرفهة، اتجهت عقارب تفكيره، شاء أم أبى، نحو الطبقة المرفهة".
 

في ردّه على هذه الدعوى رأى الشهيد مطهري، أنّ هذا الأمر ينطبق على من لا إيمان له ولا منطق. ولا يمكن انطباقه على كافّة أفراد الإنسان جبراً وإكراهاً بدليل وجود مئات النماذج من أفراد البشر هم على النقيض من هذه الفكرة.
ويستشهد على ذلك بكلام الكاتب العراقي علي الوردي، الشيعي ذي الميول الماركسية والشيعية في نفس الوقت. حيث يقول: إنّ حياة علي عليه السلام تنقض نظرية ماركس".
وذلك أنّ علياً عليه السلام كان يحكمه منطق واحد طوال حياته رغم معايشته وضعين مختلفين من الأوضاع الاجتماعية. ففي أحد الوضعين يقترب من حدود الفقر نزولاً، فنراه عاملاً أو جندياً فقيراً بسيطاً يخرج في الصباح من داره إلى حيث يحفر قناة أو يغرس شجرة، أو يزرع أرضاً، أو حتّى يعمل أجيراً وفي الوضع الآخر يرتفع إلى القمّة التي ما بعدها قمّة، حيث ينتشر الإسلام وتزداد ثروة المسلمين، وتنهال الغنائم عليهم، ويستلم زمام الحكومة الإسلامية، من دون أن يغير كل ذلك من طريقة تفكيره ونمط حياته.
 

ويضيف الشهيد: "إنّنا لن ننكر أنّ سيل الثروة المتدفّق على المسلمين قد ذهب بإيمان العشرات بل المئات منهم.. ولكنّنا ننكر أن يكون ذلك مبدأ أصيلاً كلياً".
علاوة على ذلك: لو كانت هذه قاعدة أصيلة لفسد والعياذ بالله جميع أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، في حين أنّنا نجد من بينهم ومن بين أتباع علي عليه السلام كسلمان وأبي ذر من لم تهزّه الأموال الطائلة والمراكز المرموقة ولو قيد أنملة.
 

ليست حياة علي وحدها.. يضيف الشهيد – التي نقضتها، بل حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد نقضتها قبل ذلك. فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظلّ ذاته رسول الله منذ الأيام الأولى للبعثة المتزامنة مع الفقر والجوع والقحط، إلى أيام ظهور دينه على الدين كلّه، وانتصاره وتزعّمه لقيادة المسلمين.
يحضر أعرابي من البادية – يوماً – للقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنّه عندما يراه يتلعثم رهبة من هيبته، فيستاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك، ويأخذ الرجل بين ذراعيه ويحتضنه قائلاً: أيها الأخ ما الذي يخيفك منّي؟ "هوّن عليك فلست بملك إنّما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد".
 

ويترقى الشهيد في نقضه لتلك الفكرة، فيبيّن أنّ الحياة العملية لمراجعنا العظام "أعلى الله كلمتهم " كالشيخ الأنصاري وغيره تثبت عكس هذه الفكرة. وما ذهاب ماركس هذا المذهب سوى لنقص في دراسته، واقتصارها على أناس غير أسوياء.

* السيرة ونسبية الأخلاق
بعد ذلك عالج الشهيد مسألة دارت على ألسن الكثيرين ألا وهي نسبية الأخلاق. فعرض الكلام عنها انطلاقاً من السيرة النبوية الشريفة، التي امتدّت حوالي 273 سنة أغنت التراث الشيعي بأحداثها، والمواقف الصادرة عنها.
فرأى بعد أن تساءل عن الأخلاق: أهي نسبية أم مطلقة؟ إنّ مبادئ الأخلاق الأولية والقيم الإنسانية الأصيلة ليست نسبية بل هي مطلقة، إلاّ أنّ القيم الثانوية هي التي تكون نسبية.
 

في هذا المجال. حيث كان عليه السلام يتجنّب ممارسة الغدر والخيانة. حتّى مع ألدّ أعدائه "معاوية" الذي كان مشهوراً بالمكر والخداع والغدر والخيانة حتّى أنّه اعتبر سياسياً ناجحاً من أجل ذلك كان يفسّر عدم قبوله لهذا المبدأ بأنّ فلسفة خلافته قائمة على المبادئ الإنسانية، وإنّه إنّما تقبل الخلافة من أجل إقامة هذه المبادئ فكيف يضحي بها من أجل الخلافة.
ويتعرض الإمام عليه السلام لهذا المبدأ في وصيته لمالك الأشتر واليه على مصر فيقول: "وإن عقدت بينك وبين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمة، فحُط عهدك بالوفاء وارع ذمّتك بالأمانة"، فاعتبر الوفاء بالعهد ورعاية الأمانة أمانة شرعية في عنق الملتزم بهما يجب عليه تأديتهما على أحسن وجه.
 

وكذا فهناك مبادئ كالظلم والاسترحام، فإنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأوصياءه لم يكونوا ليقربوها في حياتهم على الإطلاق فلم يكونوا ليتوسعوا بالظلم، ولا ليلووا أعناقهم أمام عدوهم إذا رأوه قوياً وحذا حذوهم في هذا المجال كلّ من تربّى تربية إسلامية. هذه أمثلة على المبادئ الثابتة والأصيلة.
وهناك مبادئ أخلاقية تظهر نسبيتها من السيرة الشريفة. فمبدأ القوة أمر لا بدّ من تحصيله في مواجهة الأعداء، في كلّ الأوقات التي يكون العدو فيها موجوداً، حتّى لا يكون الإنسان مطمعاً له. ولكن فرض القوة واستعمالها ليس مطلوباً في كلّ الأوقات بل فقط في الوقت الذي لا يمكن فيه حل المشكلة القائمة إلاّ بالقوة. وبهذا يصف أمير المؤمنين عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول عنه: "طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه". فهو صلى الله عليه وآله وسلم طبيب يدور بنفسه على المرضى لمعالجتهم، يستعمل معهم كلّ ألوان الرحمة والعطف والحنو، ليهديهم إلى سواء الصراط. إلاّ أنّه حين يجد أنّه لا مجال للتداوي والتطبيب إلاّ من خلال الكي "وآخر الدواء الكي " فإنّه يحمي مواسمه لاقتلاع المرض من جذوره.
 

ومن هنا، لا نستطيع القول بأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ليناً في معاملته مع الناس أو خشناً، إنّما كان يجمع الاثنين معاً فيستعمل كلّ واحدٍ منهما في موضعه وحيث يقتضي استعماله.
وهناك أيضاً من المبادئ المطلقة من جهة والنسبية من جهة أخرى، مبدأ البساطة واختيار البساطة فالبساطة ينبغي أن تحكم الإنسان في جميع أوقاته، إلاّ أنّه ينبغي عليه معرفة كيفية استعمالها وإظهارها أمام الناس.
فأنبياء الله تعالى، بمن فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يحيون حياة بسيطة، وفي تلك البساطة كانت سيادتهم الإلهية. فقد كانوا يملأون العيون، لا بالجلال الزائل والمظاهر الخلاّبةن بل بالجلال المعنوي الذي هو صرف البساطة.

* استخدام الوسيلة الشريفة

كما عالج المؤلف في هذا الكتاب واحدة من المسائل المهمة، ألا وهي استخدام الوسيلة في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهل كان النبي يتوسل في بلوغ أهدافه الشريفة والمقدسة بأيّة وسيلة، أم كان يتوسل بالوسائل النبيلة فقط؟ وهل كانت مسألة "الغاية تبرّر الوسيلة" الدائرة في يومنا هذا جارية عنده أم لا؟
بالإجابة على هذا السؤال رأى العلامة الشهيد، أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن ليتوسل بوسيلة فاسدة أو باطلة مهما كان الهدف الذي يرجوه إنسانياً ومقدساً. وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم الشريفة تبين هذا الأمر بوضوح يذكر التاريخ أنّ جماعة من إحدى القبائل جاءت، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طالبة الدخول في الإسلام، ولكن بثلاثة شروط:
1- أن يظلّوا يعبدون الأصنام سنة أخرى.
 

2- إن الصلاة صعبة عليهم "لأنه خلاف طبيعتهم، وتعبر عن خضوع وتذلل ".
 

3- أن يقوم النبي بنفسه بتحطيم الصنم الفلاني ولا يوكل ذلك إليهم.
 

قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الشرط الثالث من شروطهم ولم يقبل الشرطين الأولين.
ولم يخطر بباله أن يجاريهم، وقد جاءوا يسلمون بعد عبادتهم الأصنام سنين طويلة. فعبادة الأصنام غير جائزة في الإسلام. ولا يجوز ذلك ولو ليوم واحد.
 

إذاً فاستخدام الوسائل الباطلة لا يجوز حتّى ولو كان ذلك لهداية الناس وتقريبهم من الإسلام. وذلك أنّ الدين قوي بنفسه وبحججه وبراهينه، وليس بحاجة إلى استغلال جهل الناس بالأمور ولا إلى الوسائل الباطلة والفاسدة، ولا إلى الأحاديث الموضوعة والأكاذيب. فإنّ هذه الأمور قد تجدي لفترة قصيرة وتساعد في هداية الناس، إلاّ أنّها لا بدّ أن تقلب الأمور رأساً على عقب بعد مدّة من الزمن، وتنفر الناس من الدين بعد أن يعوا الأمور، أن بعد أن تأتي أجيال واعية تحلّلها وتعرف خلفياتها جيداً، ومن ثمّ تتبيّن لها هشاشتها وعدم صلتها بالدين.

* إجابة على سؤالين
بعد ذلك أجاب المؤلف على سؤالين متعلقين بمسألة استخدام الوسيلة أحدهما ناشئ من قّصة نبي الله داود مع الخصمين اللذين تسورا المحراب. والآخر ناشئ من إرسال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من المسلين لمهاجمة قوافل لمشركي قريش كانت تمر بالقرب من المدينة عائدة من الشام، ومحاولة مصادرة ما كان معها من بضائع، وأجاب على كلّ منها بأسلوب دقيق ومقنع، وأوضح ما أبهم منهما بشكل جلي.

* أسلوب الدعوة

بعدها عرج المؤلف إلى الكلام عن أسلوب الدعوة في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مقدماً لذلك بالكلام عن الدعوة وتبليغ الرسالة وخطورتها بالنسبة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم. حيث أنّها تبلغ من الصعوبة ما جعل القرآن يصفها بالقول الثقيل ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ، "المزمل/73 ". وجعل نبي الله موسى عليه السلام يطلب من ربّه شرح صدره وتيسير أمره لهذه المهمّة الخطيرة "ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني  ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي، "طه/28 ". التي لا تتطلب إيصال الرسالة إلى آذان ومسامع الناس فحسب، بل إلى عقولهم وأفكارهم، ومن ثمّ إلى الموضع الأهم من كلّ ذلك، إلى القلب، وإلى أعماق الروح الإنسانية، بحيث تهيمن على كلّ مشاعر الإنسان ووجوده، وتبعثه على الحركة باتجاه الحقائق.
 

ومن هنا فإنّ للأنبياء مهمتين صغرى وكبرى، تتمثّل الصغرى بسوق الناس إلى الانتفاضة على الظالمين ونيل حقوقهم منهم، وتتمثّل الكبرى بسوقهم إلى تحرير أنفسهم من الداخل، من الأنانية وحبّ الذات، وإيصالهم، عقيب ذلك إلى الله الحق، وحب الحق.
وعرض في هذا المجال إلى المطلوب في تبليغ الرسالة دون الرسالات الأخرى.
 

وهذا يتمثّل في أمرين:
1- النصح في القول: وهو الإخلاص فيه، ونشوؤه عن رغبة خالصة في إيصال الخير إلى الآخرين. وهذا كثيراً من ورد في القرآن الكريم: ﴿إنّي أنصح لكم، ﴿إنّي لكم من الناصحين.
 

2- عدم التكلّف: بمعنى عدم تحمّل ما لا ينبغي تحمّله ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
 

1- الترغيب والترهيب: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا "الأحزاب/45 ".
 

2- عدم التنفير: وذلك بالتسهيل على المدعوين، وعدم تحميلهم المشاق، وبالتيسير عليهم، لا أن ندعوهم بطريقة تحملهم على النفور، بدلاً من أن تحملهم على الهداية. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن لدعوة الناس إلى الإسلام: "يسّر ولا تعسّر وبشّر ولا تنفر" وقال أيضاً: "بعثت على الشريعة السمحة السهلة".
 

3- الخشية من الله وعدم خشية أحد سواه: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا "الأحزاب39 ".
 

4- التذكرة وعدم الإكراه: قال تعالى: "وذكر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين" وقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ.
 

5- الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ "النحل/125 ".

* عوامل تقدّم الإسلام
بعد هذا العرض لأساليب وشروط التبليغ عرض المؤلف للكلام عن السيرة النبوية وتقدم الإسلام السريع. فقارن بين انتشار المسيحية وانتشار الإسلام من خلال عامل الوقت، وعرض لقول الشاعر الفرنسي لا مارتين: إذا أخذنا ثلاثة أمور بنظر الاعتبار فلا يبلغ أحد ما بلغه نبي المسلمين وهذه الأمور هي:
1- فقدان الوسائل المادية.

2- سرعة الانتشار وعامل الزمن.

3- عظم الهدف.
 

ومن ثمّ أخذ بدراسة الأسباب التي أدّت إلى هذا الانتشار السريع للإسلام. فاعتبر أنّ السبب الأول في هذا الانتشار هو القرآن الكريم: المعجزة الكبرى التي كان لها تأثيرها الجاذب العميق. والسبب الثاني هو السيرة الكريمة لرسول الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه العالية، وشخصية الفذّة، وأسلوب قيادته وإدارته.

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ "آل عمران/159 " فينبغي على القائد إذن أن تكون أخلاقه لينة وسهلة، ولكن هذه السهولة والليونة في المسائل الفردية والخاصّة، لا بتعاليم الإسلام ومبادئه التي لا سبيل للتهاون والاستهتار فيها.
 

وقد ذكر العلامة الشهيد نماذج من السيرة على تعامل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام باللين والرحمة من جانب، وبالحزم والشدّة من جانب آخر.
أمّا عن المقولة السائدة: إنّ الإسلام انتشر بمال خديجة وسيف علي عليهما السلام أي بالذهب والقوّة "وبمعنى آخر بالرشوة والخوف " فقد ذهب العلامة إلى دحضها وردها أيما ذهاب. فرأى أنّه ما من شكّ أنّ هناك فضلاً لأموال خديجة في استمرار حياة المسلمين الذين كانوا محاصرين من قِبل المشركين، إلاّ أنّها لم تستخدم الرشوة أبداً. هذا بالإضافة إلى أنّ ثروتها لم تكن طائلة إلى الحد الذي ينتشر من ورائها دين بأكمله. فإنّها لم تكن تساوي شيئاً بالنسبة لثروات صناديد قريش.
 

"كما أنّ سيف علي عليه السلام لا شكّ قد خدم الإسلام، ولولا سيف علي لكان مصير الإسلام غير هذا، ولكن علياً لم يصلت سيفه فوق رقبة أحد طالباً منه الدخول في الإسلام، إنّما ارتفع سيف علي حينما كانت سيوف أخرى قد ارتفعت لتقتلع الإسلام من جذوره".
 

وهكذا نجد علياً لم يستعمل سيفه إلاّ في حالة الدفاع عن الإسلام والمسلمين.
وفي نهاية المطاف، عرج المؤلّف إلى الإطلالة على حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم التاريخية، ذاكراً نبذة عنها، ومن أقواله آتياً على ذكر الأسفار التي قام بها هذا القائد العظيم.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واجعلنا من أوليائه وأتباعه.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع