عن تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي
كثيرة هي الآيات التي تناولت موضوع الشفاعة. فمنها ما نفاه ومنها ما أثبته. والآيات النافية لشفاعة غير الله تعالى إنما نفتها على نحو الاستقلال، في حين جعلتها الآيات المثبتة لها حقاً خاصاً بالله أصلاً، يهبه ويملكه من يشاء ويرتضي تبعاً.
وبذلك ينتفي التناقض المتوهم الذي قد يتحصل من خلال قراءتنا لهذه الآيات (آيات الشفاعة).
فماذا عن هذا الموضوع؟ ما معنى الشفاعة؟ وفيمن تجري؟ وممن تصح؟ ومتى تتحقق؟ هذا ما سنتعرض للكلام عنه في بحثنا التالي:
1- ما هي الشفاعة؟
الشفاعة على ما نعرف هي من الشفع مقابل الوتر. والشفيع هو الزوج المنضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع المقوي له على نيل مراده، في حال عدم قدرته على نيله لضعف وسيلته أو نقص أو قصور فيها.
ومن هنا فالشفاعة من الأمور التي تستعمل لإنجاح المقاصد، ويستعان بها على حوائج الحياة.
والموارد التي تستعمل فيها الشفاعة تقع على وجهين: جلب المنافع والخيرات، ودفع المضار والشرور، لكن لا كل المنافع والمضار، فإن منها ما يكون نتيجة لأسباب طبيعية وحوادث كونية كالجوع والعطش والحر والبرد والصحة والمرض والتي تستطيع أن نتسبب فيها بالأسباب الطبيعية ونتوسل إليها بوسائلها المناسبة كالأكل والشرب واللبس والاكتنان والمداواة. وإنما يشتفع في الخيرات والشرو والمنافع والمضار المتسببة والمستتبعة للأحكام الوضعية التي وضعها البشر.
ففي دائرة المولوية والعبودية وعند كل حاكم ومحكوم، مجموعة من الأحكام الأوامر والنواهي التي تستتبع الثواب في حال الامتثال والأداء والعقاب في حال التخلي والترك. ومن هنا كان هناك نوعان من الوضع والاعتبار، وضع الحكم ووضع تبعية الحكم الذي يتعين به الثواب أو العقاب.
وعلى هذا الأساس تدور جميع الحكومات العامة بين الملل، والخاصة بين كل إنسان ومن هو دونه.
وفي هذا المورد تقع الشفاعة أعني في حال إرادة امرئ نيل كمال أو خير مادي أو معنوي، وليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعيِّنه الاجتماع. أو في حال إرادته دفع سوء عن نفسه استحقه لمخالفة وليس عنده ما يدفعه وبعبارة أوضح، إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجه إليه فذلك مورد الشفاعة. وعند ذلك تؤثر، لكن لا على نحو الإطلاق فإن من لا لياقة له بالنسبة إلى التلبس بكمال، أو لا رابطة له تربطه المشفوع عنده ىصلاً، كالعامي الأمي الذي يريد تقلد مقام علمي، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلاً، لا تنفع عنده الشفاعة، حيث أن الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير.
والذي ينبغي الإلفات إليه هنا، أن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيراً جزافياً من غير سبب يوجب ذلك، بل لا بدَّ أن يوسط أمراً يؤثر في الحاكم ويوجب نيل الثواب أو الإعفاء من العقاب، ولا إبطال في هذه الحالة لمولوية المولى ولا لعبودية العبد ولا تنازل عن الحكم ولا نسخ له. ولا إبطال كذلك لقانون المجازاة بشكل عام أو في خصوص الواقعة المستشفع فيها. بل إن الشفيع في هذه الحالة يتمسك بصفات إما في المولى كالرحمة والرأفة والسخاء والكرم... وأما في العبد كالضعف والمسكنة والحقارة والفاقة... وأما في نفسه (أي نفس الشفيع) من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده.
وعلى هذا الأساس فإن الشفيع يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلاً من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم. ونعني بالحكومة إخراج مورد الحكم عن كونه مورداً بإدخاله في مورد حكم آخر فلا ينطبق، والحال هذه، عليه الحكم لعدم كونه من مصاديقه.
وليست الحكومة إبطال الحكم بعد شموله للمورد بالمضادة والغلبة في التأثير.
وهكذا فإن حقيقة الشفاعة كامنة في التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة لا المضادة.
2- أنواع الشفاعة
أ- شفاعة في التكوين: وهي توسط العلل والأسباب بين الله سبحانه وبين مسبباتها في تدبير وتنظيم وجودها وبقائها.
ب- شفاعة في التشريع: وهذه تتيسر للمذنب المخالف للأمر المكلف به أو التارك للواجب المفروض عليه الذي استحق العقاب.
ووسائط هذه الشفاعة كما سترى في الآيات الكريمة الآتية عباد الله من الملائكة والناس بعد إذن الله سبحانه وارتضائه، وذلك أن الشفاعة ملك له سبحانه يملِّكه من يشاء ويهبه من يشاء.
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ (طه، 109). وقال: ﴿وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ (سبأ، 23). وقال في الآية 28 من سورة الأنبياء ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ وقال: ﴿لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾ (النجم، 26). وقال في الآية 86 من سورة الزخرف: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
وهكذا فإن الشفيع المرتضى للشفاعة يتمسك برحمة الله وعفوه ومغفرته... ونحوها من صفات الله العليا لتشمل عبداً من عباده ساءت حالع بالمعصية، وشملته بلية العقوبة، فيخرج عن كونه مصداقاً للحكم الشامل والجرم العامل، على ما عرفنا أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة لا المضادة وهو القائل في هذا الشأن: ﴿فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ (الفرقان، 70).
فقد يبدل الله سبحانه عملاً مكان عمل كما في الآية السابقة. وقد يجعل العمل معدوماً ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾ (الفرقان، 23). و ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾. وقد يجعل المعدوم من العمل موجوداً ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ (الطور، 21). وأخيراً قد يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء، ولكن لمصلحة تقتضي ذلك، وعلة متوسطة، من جملتها شفاعة الشافعين من الأنبياء والأولياء والمقربين من عباده.
3- إشكال على الشفاعة
أن وعد الله سبحانه بالشفاعة لبني آدم، وتأكيد الأنبياء عليهم السلام عليها مستلزم لجرأة الناس على المعضية وتزيينها لهم وتشجعهم على هتك محارم الله سبحانه وهذا مخالف للهدف الأساس من الدين ألا وهو سوق الناس إلى العبودية والطاعة والانقياد المطلق لله عز وجل. فلا بد من تأويل ما يدل عليها في الكتاب والسنة بما لا يزاحم هذا الأصل البديهي.
والجواب على هذا الإشكال ذو شقين:
1- نقض الآيات القرآنية له والتي تدل على الرحمة والمغفرة وشمولها كل ذنب دون الشرك حتى من غير توبة قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾.
2- إن وعد الشفاعة من الله تعالى أو تبليغها من قبل الأنبياء إنما يستلزم تجرؤ الناس على المعصية بأمرين:
الأول: تعيين المجرم والمذنب الذي تتعلق به الشفاعة أو تعيين الذنب الذي تقع فيه على نحو القطع والجزم وبشكل لا لبس فيه.
الثاني: قولنا بتأثير الشفاعة في جميع أنواع العقوبات. وأوقاتها بحيث تقلعها عن أصلها.
فلو جاء التصريح بأن زيداً من الناس المجرم والمذنب سوف يشفع له أو أن الذنب الفلاني الذي يرتكبه فإنه غير معاقب عليه، ففي مثل هذه الحال نستطيع القول بأن الوعد بالشفاعة يستلزم التجرؤ على المعصية وعلى هتك حرمات الله.
وكذا لو جاء التصريح بالعفو عن جميع العقوبات دون استثناء كان ذلك مستلزماً لتجرؤ الناس على المعاصي.
أما لو أبهم الأمر فلم يعين الشخص ولا الذنب المشفوع فيه. ولم يصرح بالعفو عن جميع أنواع العقاب فإن الوعد بلاشفاعة في هذه الحال يبعث الأمل والرجاء في النفس ويطرد عنها كل ما يوصلها إلى القنوط من رحمة الله واليأس من روحه بل ربما أوجب ذلك انقلاعه عن المعاصي وركوبه صراط التقوى وصيرورته من المحسنين. وهذا ما هو مطلوب.
4- فيمن تجري الشفاعة؟
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين*َكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ (المدثر، 48).
هذه الآيات في معرض بيان حال المجرمين المستحقين للعذاب وسلوك سقر بما كانوا يفعلونه في الدنيا من ترك الصلاة ومنع الزكاة، والخوض مع الخائضين والتكذيب بيوم الدين والتي بها يندم الدين وأركانه مما جعلهم مرهونين بما كسبوا من هذه الأعمال المشؤومة. غير منتفعين بشفاعة الشافعين.
وفي المقابل تبين الآيات ضمناً انعتاق أصحاب اليمين من هذه الرهانة لما جسدوه من أعمال حسنة كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإعراض عن اللغو والأعمال الباطلة، مضافاً إلى مسألة عظيمة تقع على رأس هذه المسائل ألا وهي الاعتقاد بيوم الدين، وبالتالي انتفاعهم بشفاعة الشافعين حيث أن الشفاعة لهم وهم المعنيون بها. وهذا ما ورد في الحديث الشريف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل".
5- من تقع منه الشفاعة؟
قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية، ومنها تشريعية، فأما الشفاعة التكوينية فجملة الأسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه وبين الأشياء، وأما الشفاعة التشريعية وهي الواقعة في عالم التكليف والمجازاة، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قرباً وزلفة، فهو شفيع متوسط بينه وبين عبده ومنها الشفاعة التشريعية التوبة كما قال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ﴾ (الزمر، 54)، ويعم شموله لجميع المعاصي حتى الشرك.
ومنها الإيمان قال تعالى: ﴿وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ﴾ (الحديد، 28). إلى قوله: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (آل عمران ، 31). ومنها كل عمل صالح. قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة، 9) وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة، 35) والآيات فيه كثيرة.
ومنها القرآن لقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة، 16).
ومنه كل ما له ارتباط بعمل صالح، والمساجد والأمكنة المتبركة والأيام الشريفة.
ومنها الأنبياء والرسل باستغفارهم لأممهم. قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا﴾ (النساء، 64).
ومنها الملائكة في استغفارهم للمؤمنين. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾(المؤمن، 7). وقال تعالى: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الشورى، 5).
ومنها المؤمنون باستغفارهم لأنفسهم ولإخوانهم المؤمنين. قال تعالى حكاية عنهم: ﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا﴾(البقرة، 286).
ومنها الشفيع يوم القيامة بالمعنى الذي عرفت فمنهم الأنبياء قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ إلى أن قال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ (الأنبياء، 28). فإن منهم عيسى بن مريم وهو نبي، وقال تعالى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (الزخرف، 86). والآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضاً لأنهم قالوا إنهم بنات الله سبحانه ومنهم الملائكة، قال تعالى: ﴿كَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى﴾ (النجم، 26). وقال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا*يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ (طه، 110). ومنهم الشهداء لدلالة قوله تعالى: ﴿وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(الزخرف، 86). على تملكهم للشفاعة لشهادتهم بالحق. فكل شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير أن هذه الشهادة شهادة الأعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال. ومن هنا يظهر أن المؤمنين أيضاً من الشفعاء فإن الله عز وجل أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ﴾ (الحديد، 19).
6- متى تنفع الشفاعة؟
وتعني بها أيضاً الشفاعة الرافعة للعقاب. والذي يدل عليه قوله سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ *فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ *مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ (المدثر، 42). فالآيات كما مر دالة على توصيف من تناله الشفاعة ومن يحرم منها. غير أنها تدل على أن الشفاعة إنما تنفع في الفك عن هذه الرهانة والإقامة والخلود في سجن النار، وأما ما يتقدم عليه من أهوال يوم القيامة وعظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدل الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار.
واعلم أنه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وتعلق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار. وذلك لمكان قوله: ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾. الدال على الاستقرار وقوله: ﴿مَا سَلَكَكُمْ﴾ فإن السلوك هو الإدخال لكن لا كل إدخال بل إدخال على سبيل النضد والجمع والنظم ففيه معنى الاستقرار وكذا قوله: ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ﴾ فإن ما لنفي الحال.
وأما نشأة البرزخ وما يدل على حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام عند الموت وعند مساءلة القبر وإعانتهم إياه عند الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾(النساء، 159). فليس من الشفاعة عند الله في شيء. وإنما هو من سبيل التصرفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ﴾ إلى أن قال: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ*أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ (الأعراف، 48- 49). ومن هذا القبيل من وجه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ (الإسراء، 71). فوساطة الإمام في الدعوة، وإيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فافهم.
فتحصل أن المتحصل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة باستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار. أو إخراج بعض من كان داخلاً فيها. باتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.