مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

سياسة: أساليب التحليل السياسي

في القرون الأخيرة شهدت الأمة الإسلامية تعاظم المؤامرات الاستكبارية التي اتخذت لنفسها أكثر من لون سياسي.
وقد شهدت الساحة الإسلامية ولادة الكثير من المذاهب الحديثة والدخيلة على الإسلام، كالوهابية والبهائية والبابية وغيرها. ولم تكن هذه المذاهب سوى صنائع الاستكبار وإبداعاته لتضليل المسلمين وإبعادهم عن الإسلام الأصيل. وما ذلك إلا لأن الاستكبار رأي بأن الإسلام خطر كبير يهدد مصالحه ويحول دون تحقيق مآربه الاستعمارية.

من هذا المنطلق، والتزاماً بوصايا الإمام الراحل رضوان الله عليه وتأكيدات سماحة الإمام القائد السيد الخامنئي حفظه الله على ضرورة التعرف على مباحث علم السياسية وأساليب التحليل السياسي خصوصاً تلك الحيل والألاعيب الاستكبارية التي تواجهها الأمة الإسلامية، رأينا أن نقوم بهذا الجهد المتواضع وتقديمه للقراء الأعزاء.
الأبحاث في هذا الباب سوف تدور حول فصلين أساسيين الفصل الأول يشمل المسائل الأولية التي ينبغي الإطلاع عليها في شأن السياسة مثل مفهوم السياسة، تطور علم السياسة، فصل الدين عن السياسة، موضوع السياسة وغيرها من المسائل الأولية. وفي الفصل الثاني سوف نذكر الأساليب الأساسية المعتمدة في تحليل الظواهر السياسية.

* الفصل الأول المسائل الأولية للسياسة
مفهوم السياسة
ذكر اللغويون معانٍ متعددة للسياسة وردت في كتب وقواميس اللغة المختلفة. ففي لسان العرب يعرِّفها ابن منظور أنها: "القيام على الشيء بما يصلحه". وجاء في المنجد لمعلوف: "هي استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجل والآجل/ فن الحكم وإدارة الأعمال الداخلية والخارجية ومنها السياسة الداخلية والسياسة الخارجية". ويقرب من هذا المعنى ما ورد في معجم العميد الفارسي: "إصلاح أمور الخلق وإدارة أعمال الدولة ومراقبة الأمور الداخلية والخارجية للبلد". وفي المعجم المعين للدكتور معين: "حكم الرعية وإدارة أمور الدولة/ الحكم/ الرئاسة". أما الاصطلاح العلمي للكلمة، فقد ذكر كبار العلماء والمفكرين في العلوم السياسية- الاجتماعية تعريفات شتى للسياسة، نكتفي بذكر نماذج منها: الميرزا ملكم خان مؤسس الدستور ودار المعرفة في إيران يقول: "الدولة عند الحاكم تعني السياسة. السياسة عبارة عن الحكم والتنبيه، ولا حكم بدون تنبيه، ولا سياسة ولا دولة بدون حكم". أحمد كسروي، أحد الأدباء الكبار في إيران والمتأثرين بالحضارة الحديثة والتابعين للاستكبار العالمي، يقول في كتابه "في طريق السياسة" في هذا الشأن: "السياسة عبارة تآزر أمةٍ ما مع الأمم الأُخرى، السياسة هي أن يتخذ شعب من الشعب طويقاً لنفسه في الحياة والتقدم بين الشعوب الأُخرى، ويكون سلوكه وتعامله مع تلك الشعوب على أساس العلم والوعي". ويتابع أن من أولى اهتماماتها أنه فيما لو أحس بالخوف أو الاعتداء من الآخرين فعليه- أي الشعب- أن يخطط ويتصرف بسرعة وحكمة للحؤول دون ذلك.
الدكتور علي شريعتي المؤرخ البارز والعالم الاجتماعي والباحث الكبير في التاريخ المعاصر يقول بشأن السياسة. "السياسة عبارة عن إحاطة الإنسان وإطلاعه الدقيق على بيئته ومجتمعه وكل من يكون مشاركاً له في المصير. والمجتمع هو المحيط الذي يعيش فيه ويرتبط به". الشيخ محمد عبده، أحد التلامذة البارزين للعلاّمة السيد جمال الدين أسد آبادي المعروف بالأفغاني، يكتب في تفسير السياسة أثناء شرحه لحديث أمير المؤمنين عليه السلام "سوسوا إيمانكم بالصدقة" ما يلي: "السياسة حفظ الشيء بما يحوطه من غيره، فسياسة الرعية حفظها".


أما أستاذ علم السياسة في جامعة باريس موريس دوفرتشي، فقد فصّل الحديث في تعريف السياسة وكتب في "أصول علم السياسة" ما ترجمته: "للمتخصصين في هذا الشأن- أي تعريف السياسة- أبحاث كثيرة، بعض منهم لا يزال يعتبر حتى الآن أن السياسة هي علم إدارة البلد، ومقصودهم من البلد الشعب المجتمع والمترابط في حدود معينة من الجهات الأربعة. والبعض الآخر- وهو الأغلب- يعتبر أن السياسة علم الإدارة والتحكم، بكل الجماعات الإنسانية، ويضيف الأستاذ موريس في مكان آخر من الكتاب: "من ذلك يُعلم أن الناس عندما يفكرون في السياسة فإنهم يترددون بين تعبيرين متضادين بكل ما للتضاد من معنى. ففي ظن بعض الناس السياسة نوع من الصراع والحرب وجمع المال والسلطة وزيادة الأنصار وتقويتهم للتحكم بسائر الناس والتسلّط عليهم. ومن هذه الجهة فإنهم يبحثون عن المنفعة فقط. وينظر البعض الآخرة، السياسة عبارة عن السعي والاجتهاد من أجل توطيد الأمن والنظام واستقرار العدالة والسيادة وتأمين المصلحة والمنافع العامة ولو كانت على حساب الأهواء والمصالح والآمال الخاصة. الفرقة الأولى تعتقد أن وظيفة السياسة حفظ امتيازات الأقلية على الأكثرية. ومن وجهة نظر الفرقة الثانية، السياسة وسيلة لتحقيق الأدغام والانصهار الكلي للأفراد في مصلحة الجماعة والمجتمع وإيجاد مدينة العدل التي أشار إليها أرسطو. الخلاصة أن جوهر السياسية والمعنى الحقيقي لها إنها دائماً وأبداً ذات وجهين".

وفي كتاب "التعرف على علم السياسة" الذي اشترك في تأليفه كلٍّ من الأساتذة كارلتون كلايمر رودي، توتون جيمز أندرسون وكارل كويمبي، ورد في تعريف السياسة:
"يمكننا أن نعرّف علم السياسة بأنه علم الدولة، أو أنها مجموعة من العلوم الاجتماعية التي تتعلق ببيان وتوضيح نظريات المؤسسات والحكومة وأعمال الدولة، وبنظرة أشمل يمكن إضافة الأعمال والنشاطات السياسية للمجموعات المختلفة والمؤسسات والجمعيات المستقلة عن الدولة والحكومة للتعريف المذكور أعلاه، وهذا إذا كانت تعمل من أجل إبراز قدرتها السياسية وبسط نفوذها وتأثيرها على سياسة الشعوب وقيادة التغييرات الاجتماعية والسياسية". برتران دوشونيل- أستاذ السياسة في جامعة باريس وهو من المتخصصين وأصحاب الرأي الكبار في السياسة- له تعريف شامل عن السياسة. فهو يعتقد أن السياسة عبارة عن إبراز القدرة والنفوذ. والقدرة بالمعنى العام عنده هي: "كل شخص يقوم بعمل يعطّل الآخرين عن إنجاز عمل ما أو يعينهم على إنجاز عمل ما فهذا من أعمال القدرة".


الأستاذ محمد تقي الجعفري الذي قام بترجمة نهج البلاغة إلى الفارسية وشرحه، يقول: "لو أردنا تعريف السياسة من وجهة نظر العلماء والحكماء فيجب أن نقول أن السياسة هي إدارة حياة الناس للوصول بهم إلى أفضل الأهداف المادية والمعنوية". ثم يضيف قائلاً: "السياسة في حياة العقلاء لها مبدأ ومسير وهدف". هدفها إيجاد عوامل التطور والتقدم في الحياة من خلال الاستفادة من القوانين التي تنظم ما بين الحدود والواجبات التي يجب الالتزام بها وأداءها على أحسن وجه وما بين الحرية والاختيار الذي يعطي الدور للإبداع والرشد والتنوع. ومبدأ الحركة عبارة عن كسر القلعة الفولاذية لصيانة الذات وتحطيم أسوار الأنانية و"حب الذات" والسلوك في الحياة على أساس السلوك الطبيعي والواقعي. وخط سير الحركة عبارة عن التغيير المستمر للشخصية الإنسانية إلى مرحلة ورود الهدف الأعلى للحياة". كانت هذه بعض التعاريف التي وردت بشأن السياسة. وقد تعمّدنا ذكرها جميعاً لتوقف القارئ الكريم على المعنى العام لهذه الكلمة والسائد في العصر الحديث. بطبيعة الحال لن يسع المجال لتحليل التعاريف المذكورة ونقضها في هذا المختصر، إلا أن التعريف الأخير يمكن اعتباره أكثرها واقعية ومنطقية، لأن التعاريف الأُخرى- على فرص صحتها- لم تلحظ سوى البعد المعادي والحيواني للإنسان.

من هنا، فإن الإمام الخميني العظيم قدس سره رافع لواء الإسلام المحمدي الأصيل في هذا العصر يبين حقيقة السياسة ويقسمها إلى ثلاثة أقسام:

1- السياسة الشيطانية
في كتاب ولاية الفقيه الذي ألقاه على شكل محاضرات في حوزة النجف عندما كان منفياً إلى العراق، يذكر الإمام رضوان الله عليه حادثة أثناء أعتقاله من قبل نظام الشاه توضح المقصود من السياسة الشيطانية؛ يقول: "أحد رجال الدولة في إيران يخاطبني في السجن قائلاً: "السياسة خبث وكذب ونفاق، اتركوا ذلك لنا". هذا صحيح، ولئن كانت السياسة لا تعني إلا هذه الأمور فهي بهذا المعنى من شؤونهم. ولكن السياسة في الإسلام والسياسة لدى الأئمة عليهم السلام الذين هم ساسة العباد- كما ورد في الزيارة الجامعة- لا تعني ما قاله لي ذلك الرجل"

2- السياسة المادية (الحيوانية)
وفي توضيح هذه السياسة يقول الإمام رضوان الله عليه: "لو فرضنا أن شخصاً يعتقد أن السياسة الصحيحة هي السياسة المادية (بمعنى إصلاح شؤون الرعية المادية والحيوانية) دون أن تكون بالمعنى الشيطاني الفاسد، فسياسته لو كانت صحيحة فإنها تهدي الأمة في بعد واحد وتشق للأمة طريقاً واحدة، وذلك البعد هو البعد الحيواني، البعد الاجتماعي المادي، وهذه السياسة جزء ناقص من السياسة الإسلامية التي كان يلتزم بها الأنبياء والأولياء".

3- السياسة الإسلامية
ويعبر عنها بسياسة الأنبياء والأولياء عليهم السلام. "السياسة التي تفتح طريق الهداية أمام المجتمع وتهدف إلى إصلاح المجتمع وصلاح الفرد، وهي ما وردت في رواياتنا عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ السياسة الثابتة.. كما وردت في القرآن بعبارة الصراط المستقيم. ونحن نقول في صلاتنا "إهدنا الصراط المستقيم" بمعنى أننا نطلب من الله أن يهدي الشعب والمجتمع والأفراد إلى صراط مستقيم، فهذه نقطة البداية، والعاقبة تكون في الآخرة والمصير إلى الله... هذه السياسة مختصة بالأنبياء والأولياء.. الأنبياء علمهم سياسة، والدين أيضاً سياسة، ومن هنا ينطلق الناس ويهتدون إلى كل ما فيه صلاحهم".
وفي توضيح هذا المعنى يقول آية الله جوادي الآملي حفظه الله في رسالةٍ له في السياسة: "السياسة صناعة يُعرف بها تدبير الإنسان بما له من الشؤون الفردية والاجتماعية، وبما له روابط خاصة مع أهله وقومه ومن يشاركه في النوع مما له ربط خاص بمبدئه ومبدأ الكل وهو الله الخالق لكل شيء. إن السياسة حكمة عملية متفرعة عن الحكمة النظرية وتختلف باختلافها. فمن كان رأيه أن الإنسان موجود مادي صرف، لأن كل موجود متحقق فهو مادي، وأن ما ليس بمادي فليس بموجود، وأن الإنسان سيصير معدوماً بحتاً كما كان ليسا محضاً، وأنه لا حياة وراء الحياة الطبيعية، وإنه لا حساب ولا ميزان لأعماله الحسنة أو السيئة بعد الموت، فالسياسة عنده هي كيفية تدبير الإنسان وإدارة شؤونه. بحيث يأكل ويتمتع، ويترف ويتزين بالأزياء، ويتكاثر ويقول "أنا أكثر مالاً وأعز نفراً" ويتبجح بأنه "أحسن أثاثاً ورثيا" ولا يبالي من أين كسب المال وأين أنفقه، حلالاً أم حراماً، فعلى هذا تكون العناصر الرئيسية للسياسة مادية بحتة.
وأما من كان رأيه أن الإنسان مؤلف من نفس ناطقة لا تبيد ولا تموت، وبدن مادي، وهو- أي الإنسان- بما له من حقيقة واحدة إنما تنتقل من دار إلى دار، وأنها لا تنعدم رأساً بل تتحول من حالة إلى حالة بما له من المعارف والأخلاق والأعمال، وأن من وراء حياته الدنيوية برزخاً إلى يوم يبعثون، وإن أمامه موطئاً تتلو فيه كل نفس ما أسلفت، وأن قدامه ميعاداً علمت نفس فيه ما قدمت وما أخرت، فالسياسة عنده صناعة تهذيب الإنسان وتصحيح روابطه الفردية والاجتماعية. بحيث يقوم بالقسط ويأمر بالعدل ويؤثر غيره على نفسه ولو كان به خصاصة. ويترنم بأنه "قد أفلح من تزكّى" بينما الأول يتصور أنه "قد أفلح اليوم من استعلى".
فعلى هذا الرأي الثاني تكون العناصر الأساسية للسياسة مؤلفة من الأمور المادية والمعنوية. فالمبدأ في السياسة الإسلامية هو امتلاك الحكمة النظرية الصحيحة من خلال الإيمان بالله تعالى والعقائد الحقة، والطريق هو الالتزام بتعاليم الإسلام وأحكام القرآن والشريعة، والتخلّق بالأخلاق الفاضلة النبيلة، والغاية هي الكمال المحقق والبهاء الصرف الذي لا كمال فوقه ولا بهاء وراءه. وهو الله الذي إليه تصير الأمور، فهو الأول والآخر.

*نظرة تاريخية في تطور علم السياسة
برز التفكير والتحليل السياسي إلى الوجود منذ بداية الحياة الإنسانية على الأرض، حيث أن مع وجود أول المجتمعات البشرية وتشكّلها برزت مباشرة مسألة الحاجة إلى إدارتها أيضاً.
الشواهد والآثار التي خلفها السابقون الأولون تشير بوضوح إلى أن البشر دائماً كانوا يفكرون ويحققون في إيجاد حلول للمسائل السياسية للمجتمع البشري. ويعتقد أكثر المؤرخين والباحثين في التاريخ السياسي أن اليونانيين أول من شكل دولة مبنية على أسس وأنظمة وقوانين تنظم الشؤون الاجتماعية والفردية. سقراط الحكيم كان يعتبر أن السياسة مبنية على الحكمة، ومن بعده تلميذه الباحث أفلاطون كان يقول أن الحكمة بلا سياسة ناقصة وأن السياسة بلا حكمة باطلة. والسياسة والأخلاق لهما منشأ واحد كلاهما في سبيل سعادة البشر. وهو أول من وضع للسياسة أصولاً ومباني محكمة، يقول: "استقرار الدولة منوط بالفضائل والمكارم". يجب أن تُراعى العدالة، وأن تكون الآمال معتدلة ومتوازنة. الجزاء والعقاب واجب، إلا أن قوانين الجزاء يجب أن تكون لتنبيه المجرم وإصلاح أمره لا للتشفي والانتقام منه... إن أفضل الدول تلك التي يحكمها أفضل الناس، حيث يكون الحكيم حاكماً، أو أن الحاكم يصبح حكيماً أو يتبع الحكماء... في السياسة وكما في الحكمة لا يُعتنى بالأفراد والجزئيات وإنما يُعتنى بالهيئة الاجتماعية ويُحافظ على مجموع الناس".


من بعد سقراط وأفلاطون، قام أرسطو بتنظيم علم الحكمة وتدوينه. ويعتبر أول من ميّز بين شُعب العلم وفنونه المختلفة ويمكن القول أنه واضع بعض هذه الفنون وموجدها. وقد جعل أرسطو جميع العلوم العقلية تحت عنوان الحكمة- فالحكمة هي كل ما يُحقق في مسائله بالأسلوب العقلي. وقسم الحكمة إلى نظرية وعملية. وقسم الحكمة النظرية إلى ثلاثة أقسام: الإلهيات والرياضيات والطبيعيات. والحكمة العملية أيضاً إلى ثلاثة أقسام: الأخلاق، تدبير المنزل، سياسة المدن.
إذن كان أرسطو يعتبر أن سياسة المدن قسمّ من أقسام الحكمة العملية. وقد اشتهر عنه إن كان يؤيد حكومة الأشراف (الأرستقراطية). إلا أن جميع المفكرين والسياسيين الذين دوسوا آراءه وأفكاره، يعترفون بأن الحكومة التي يتحدث عنها يجب أن تكون لخير المجتمع وصلاحه. فإذا دارت مدار المنافع الشخصية والأهواء النفسية فهي باطلة. في كتاب سير الحكمة في أوروبا شرحت نظريات أرسطو في الحكومة وأشكالها كالتالي: "يختلف شكل الحكومة في الهيئات الاجتماعية المختلفة تبعاً لاختلاف المقتضيات المحلية من أحوال الناس والأوضاع الجغرافية وغيرها. فإذا كانت الدولة تتألف من مجموعة من الأفراد الأحرار والمتساوون، فيجب أن تتعلق الحكومة بعامة الناس وتتخذ الشكل الجمهوري والديمقراطي، ويشترك الجميع في اتخاذ القرارات وتحمّل المسؤوليات (مباشرة أو بشكل غير مباشر)... وإذا كانت مجموعة من الناس أكثر ذكاءً واقتداراً ونفوذاً من غيرها سواء من حيث النسب والشرف أو غيرها فإنها سوف تشكل الحكومة دون غيرها متن الناس. وهذا الشكل من الحكومة هو "حكومة الأعيان والأشراف". ولو صادف إن شخصاً من الناس تفرد بالسلطة والعلو ونصّب نفسه ملكاً على الناس فهذه حكومة السلطان والملكية، وتتخذ الشكل الملكي الوراثي. وفي كل قسم من أقسام الحكومة هذه"، لو كانت من أجل خير وصلاح الجماعة وعامة الناس، وجميع أعمالها مضبوطة على أساس المسؤولية والنظام فهي صحيحة وحقانية، أما إذا كانت من أجل استدرار المنافع الشخصية والشهوات النفسية فهي خاطئة وباطلة. ففي القسمين الآخرين يسود الظلم والاستبداد، وفي القسم الأول يشيع الخداع بين القوم وتختل الأمور ويسود الهرج والمرج". إذاً معيار صحة الحكومة وبطلانها عند أرسطو هو "خير العامة" فإذا كانت تعمل من أجل خير العامة فهي جيدة وصحيحة وحقانية، وإلا كانت فاسدة وباطلة.

بعد عصر الحكماء الثلاثة، جاء الرواقيون الذين عملوا على نشر نظرية الديمقراطية وتقويتها وساعدهم في ذلك استعداد عامة الناس لتقبلها أكثر من غيرها، ثم جاء الكنيسة وبنت نظرييتها السياسية على أساس الاستبداد، إلا أن النهضة العلمية أعادت الحياة إلى الديمقراطية وأفكار أرسطور والرواقيين. إلى جانب ذلك، برز مذهبٌ سياسيٌ جديد أسّسه الفيلسوف والسياسي الإيطالي ميكيافيلي. وهو مذهب قائم على "فلسفة الاستبداد الحديثة"، وهي عبارة عن مجموعة من الأصول والقواعد التي سنها ميكيافيلي وصارت تُعرف بالمدرسة الميكيافيلية. ويمكن تلخيص هذه الأصول بما يلي:
1- هدف السياسة هو تأسيس الدول المتحدة والقوية ومركزها إيطاليا والتي تقوم على أساس الاستبداد والحكومة المطلقة والغير محدودة.

2- طبيعة الإنسان في فلسفة ميكيافيلي إنه موجود سياسي، وهو شرير بالفطرة. ولذلك لا بد من الحكومة المطلقة والمقتدرة لتنظيم المجتمعات البشرية وإلا تغلب عنصر الشر وسادت الفوضى.

3- الأخلاق والمذاهب الدينية والفنون والعادات وسائر التطورات الاجتماعية لا بد أن تكون آلة في يد الحاكم وتزيد من قدرته وسلطنته. وهي بنفسها يجب أن لا تتدخل في السياسة وأمور الحكومة والحكم.

4- الحقوق والقوانين أيضاً ناشئة من إرادة الحاكم. فهو بمنزلة القانون. وهو بموجب القانون واجب الطاعة وليس خاضعاً للقانون أو الأخلاق. فالقانون قابل للنسخ والتغيير وذلك تابع لإرادة الحاكم. الحاكم فوق القانون ويمكن أن يفعل ما يريد.

5- كل وسيلة تساعد الحاكم لنيل القوة والتوسع في السيطرة وحفظا ولو كان عن طريق التزوير والخداع والجريمة فهي جائزة. بل يجب الاستفادة منها. لا يوجد ممنوع على الحاكم. ومن هنا اشتهرت الجملة المعروفة "الغابة تبرر الوسيلة".

6- يجب أن تجهز الدولة بجيش كامل يتألف أفراده من الشعب ويكون على استعداد تام. ونظام الخدمة إجباري على كل رجل بين سن السابعة عشر حتى الأربعين. (23 سنة خدمة). وهو أول من أسس نظام الخدمة الإجبارية في الجيوش.

كانت هذه أهم المبادئ التي تقوم عليها المدرسة الميكيافيلية. وهي من المؤكد أنها لم تلق قبولاً لدى عامة الناس لما فيها من قسوة وظلم فادح ولخلوها من أي تبرير منطقي أو وجداني ولكونها عديمة الرحمة والرأفة. من هنا نفهم انتشار الديمقراطية بشكل أكبر. وهذا حسب الظاهر. لكن لا بد من الإشارة إلى أن العقلية الحاكمة على الأكثرية الساحقة للحكام والسياسيين في القرن العشرين هي العقلية الميكيافيلية وإن تستروا بقناع الديمقراطية أو الاشتراكية. فهذا لينين لم يدع وسيلة قذرة من ظلم واستبداد وقسوة إلا واستفاد منها من أجل أهداف الخاصة. وقد كان المثال الحي في تطبيق شعار الميكيافيلية "الغاية تبرر الوسيلة". بل هو في بعض كتاباته كما ورد في مجموعة آثار لينين- ج20 ص 119- يؤكد أن كل الحيل والتزويرات والمخالفات القانونية مشروعة في سبيل تحقيق الأممة وتقويتها. وهذا خروتشوف المؤرخ الأول للحزب الشيوعي ورئيس وزراء روسيا الأسبق يصف لينين في مذكراته أنه مصداق للإفكار الميكيافيلية. أما رؤساء أمريكا وأوروبا الذين يحكمون باسم الديمقراطية والحرية، فليسوا بمنأى عن العقلية الميكيافيلية أيضاً.

إن الثورة الإسلامية المباركة في إيران كشفت كل أقنعة الزيف والخداع وفضحتهم أمام أعين الشعوب بأسرها. وما موقفهم العدائي من الثورة الإسلامية ومن ثم الجمهورية الإسلامية وكل محاولاهم ومؤامراتهم لإجهاضها وضربها من قبل العملاء والموتورين إلا شاهد فاضح ودليل واضح على ميكيافيليتهم وتنكرهم للديمقراطية والحرية. فعلى الرغم من إدعائهم احترام الشعوب في تقرير مصيرها وشكل الحكم الذي تريده وبالرغم من أن الأكثرية الساحقة في الشعب الإيراني اختارت الجمهورية الإسلامية إلا أن الحكومة الغربية ازدادت عداءٌ وتآمراً على الشعب والثورة. ثم أن مساندتهم لحكام القمع والإستبداد في مواجهة شعوبهم يُظهر صدق المدعى. فتجربة الشعب الجزائري والفلسطيني والعراقي ودول الخليج وغيرها ليست عنا ببعيد.

على كل حال، فإن الأفكار السياسية إلى ما قبل القرن العشرين كانت تتخذ لوناً من ألوان البعد الفلسفي الاجتماعي، وكانت في حالة التكون والتكامل، ولم تصطبغ بلون الإستقلال العلمي، أي لم تعرف كعلم مستقل. إلا أنه في القرن العشرين اتخذ التفكير السياسي لنفسه منحى جديداً وصار يعرف بـ"علم السياسة". يمكن القول أن اصطلاح علم السياسة اصطلاح جديد في العصر الحديث.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع