الشيخ د. محمد باقر كجك*
لقد وهب الله تعالى الإنسانَ جملةً من الميزات العظيمة التي تساعده في مسار الحياة التكامليّة التي يفترض أن يؤدّي فيها دوره الواقعيّ في عبادة الله تعالى والتقرّب إليه. ومن هذه المواهب الجميلةِ، موهبةُ التأثير في الآخرين.
* مسار تكامليّ
تبدأ القصّة من معرفةِ أنّ الإنسان مخلوقٌ على شاكلةِ الصفات والأسماء الإلهيّةِ، الجماليّة والجلاليّة، بحيثُ تظهرُ آثار هذه الأسماء في سلوكه وتصرّفاته، والتقدّم الذي يحقّقه في مساره الكماليّ، وانتقاله من حالات النّقص إلى الكمال. هذه الحركةُ الكماليّةُ من النقص إلى الأكمل، هي حركةٌ جميلة، لأنَّ الكمالَ في مدرستنا الإلهيّة أمرٌ جميلٌ، والأساليب التي يسلكها الإنسان من أجل الوصول إلى الكمال هي أساليب جميلةٌ في حقيقتها.
ولو كانَت الاختبارات التي يمرُّ فيها الإنسانُ قاسية، أو ذات صبغةٍ جلاليّة وقهريّة (كالموت، والمرض، وعدواةِ الأقربين، والخسائر المادّيّة،...)، إلّا أنّ نوعَ التصرّف والفعل الذي يقوم به المرء في تجييرِ هذه الاختبارات القاسية، إلى الكشفِ عن النقص في النفس، أو الأسرة، أو المجتمعِ، إلى التحلّي بمزيد من الكمال والجمال، يجعلُ من هذا السّير سيراً جماليّاً.
* تأثير الكمال في الآخر
إنّ أجمل ما في الإنسان، ذلك السرّ الذي أودعه الله فيه، في جعله كائناً اجتماعيّاً. فالبشريّة عبر التاريخ لم تقمْ بتلك النقلات الحضاريّة الكبرى، كاختراع اللغات، والفلسفات، والفنّ، والهندسة والعمران، وإنشاء الأسرِ، وكلّ ما يكتنفها من علاقات إنسانيّة ثريّة بالمعاني المكثّفة بين أفرادها، إلّا من خلال شبكات معقّدة ومركّبة من العلاقات والروابط الاجتماعيّة بين الأفراد. وهذه الشبكات هي التي ساهمت في إبداع الحلول للمشكلات، واختراع أساليب العيش والبقاء والتطوّر والتقدّم الحضاريّ.
فالآخرُ، في الحقيقةِ، هو شرطُ وجودِ الذات، إذْ ليس من الممكن أن يكون الواحد منّا موجوداً –ككائن اجتماعيّ- دون أن يحاط بالآخرين! والآخرُ، هو المرآة الواقعيّةُ، لما يتمتّع به كلّ منّا من قابليّات، وصفاتٍ، وقدراتٍ، ومراتب كماليّة. لذلكَ، نجدُ هذه الموقعيّة للآخر مذكورةً في القرآن الكريم من قبيل: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾ (التحريم:6)، والروايات الشريفة من قبيل: «الخلقُ كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله»(1). فالآخرُ، إذاً، هو الصورةُ الأكثر وضوحاً لمقدار الكمال الذي نكون عليه.
من هنا، تظهرُ حقيقةُ العلاقة المطلوبة بين الإنسان والآخرين. فعندما ندقّق النظر في من حولنا، سنجدُ أنّنا نبادرُ إلى التواصل معهم، أو نتأثّر بهم، حينما يكون الموقف أو السلوك الصادر عنّا أو عنهم، يتضمّن ما يمكنُ أنْ نقيّمه على أنّه مصدرٌ لكمالنا، أو تهديدٌ له. فالخوفُ من الظّالم على سبيل المثال، هو خوفٌ على مكامن الكمال النفسيّ والمعنويّ (ماء وجه الإنسان، أو مقامه في المجتمع، أو طمأنينته النفسيّة)، أو الجسديّ (بقاؤه سالماً من الأذى في جسده)، أو الماديّ (الممتلكات الماديّة، والأموال، إلخ). وهو دليل على أنّ الانسان يخشى من هذا التدخّل الذي يقوم به الظالم في حياته، فيسبّب له أنواع النقص والضعف والحاجة والأذى. علماً أنّه بالإمكان دوماً تحويل هذه الأنواع الظالمة من التدخّل، إلى إمكانات وفرص في الكشف عن التهديدات والنقائص، وتحويلها إلى كمالات دائمة للرقيّ المعنويّ والإنسانيّ والسير إلى الله تعالى. ومن هنا نفهم، أنّ هذه التربية الإلهيّة في ابتلاء الإنسان بأنواع الابتلاءات، خصوصاً الظلم الاجتماعيّ القائم على التدخّلات الظالمة من الآخرين في حياة الفرد، هي دفعٌ للإنسان إلى بذل المزيد من الوقت والفكر والجهد من أجل الوصول إلى المرتبة التالية من الكمالات.
من جهة أخرى، فإنّ التأثّر بالكمالات الموجودة عند الآخرين، سببٌ في إيقاظ مكامن الفطرةِ والقابليّات المزروعة في الإنسان الباحثةِ عن الكمال والدافعة إليه. فالإنسان يتأثّر بجمال الجميل، وقوّة المجاهد، وعلم العالم، ومعرفة العارف، وكرم الجواد، وحياء العفيف، وغيرها من الكمالات الموجودة حوله. وهي نوعٌ من الأثر الجميل في الذات، والذي يسبّبه العيش مع الناس من أصحاب الكمالات.
لذلك، لا مفرّ من الإقرار بأنّ من يسعى إلى الكمالات، سيجدها دوماً منتشرة حوله، وفي نفسه كذلك، وخصوصاً في التعامل بين الأفراد، والذي هو –كما سنرى- الميدان الأبرز للبحث عن الكمالات والسعي إليها.
* قواعد التأثير
من المؤكّد أنّ الانسان الذي هو اجتماعيّ بطبعه، يعيشُ وسط شبكة معقّدةٍ من الفعل والانفعال، والتأثّر والتأثير. غير أنّ هذه الشبكة الواسعة التي تنتهي بهذا الإنسان، تبدأ من عند الله تعالى.
لقد قدّم القرآن الكريم أكثر من مئتَي آية تضع ضوابط لسلوك الإنسان وتعامله مع الآخرين من أجل رفع مستوى المؤثريّة الإيمانيّة والكماليّة بهم، مثل الرحمة، والإحسان، والعفو، وغير ذلك من الاصطلاحات القرآنيّة التي تجعل من حياة الإنسان المؤمن الاجتماعيّة والإداريّة والعمليّة سهلة غير خشنةٍ في تماسّه مع الآخرين؛ لأنّ المؤمنَ يسعى بطبعه إلى نشر إمكانات الوصول إلى الكمال، ويرفع العوائق أمام نفسه والآخرين من أجل تحقيق ذلك، معتمداً على أحسن الطرق، وأجملها، وأكثرها تأثيراً في الآخرين. على سبيل المثال، يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الإسراء: (33) وقوله: ﴿وادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: (53 وقوله: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ (المؤمنون: 96) و﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾(النساء: (125 و﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: (199، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي يستخلص منها الإنسان ضرورة أن ينتهج في حياته العلاقات الحسنة مع الآخرين. وهذه العلاقة القائمة على طرفَي التأثّر والتأثير، والفعل والانفعال، ينبغي أن تدور مدار الرحمةِ بهم والإحسان إليهم، وهذا لا يكون إلّا في فتح مسار الكمال أمامهم، أو إزالة العوائق من طريقهم.
* تدخّل أم إزالة عوائق؟
من المهمّ وفقاً لما تقدّم، أن نلتفتَ كشبابٍ مؤمن ورساليّ، إلى أنّ رؤيتنا للخلل، أو التقصير، أو الاساءة، أو الضعف، إلخ، الموجود في الطرف الآخر، ينبغي أن لا تدفعنا إلى التدخّل بطريقة سلبيّة ومتعالية، وكأنّنا بهذا التدخّل الفظّ نستطيع معالجة كلّ هذه المشكلات. بل إنّ النظر إلى هذه الأمور من زاوية أنّ الشخص المعنيّ قد ابتُلي بهذا البلاء، وأنّه يحتاج إلى الرحمةِ كي يرتقي إلى مرتبة أعلى من الكمال، يجعل حضورنا في حياته يحمل طابع الرحمة والرقّة والمساعدة. وهذا الأمرُ قد يحصل في الحياة الزوجيّة والأسريّة، وفي النوادي والمؤسّسات الاجتماعيّة، والعمل التنظيميّ والسياسيّ، والمعمل والمصنع والمدرسة والجامعة والمسجد. لذلكَ، من الضروريّ التأكيد على رفعة شأنِ من يمتلك هذا النوع من المؤثريّة الرحمانيّة من الشباب المؤمن، بل إنّ هذا المقام هو مقام الأولياء والصالحين. بالتالي، ينبغي أن نتحوّل من ثقافة الفظاظة في التدخّل، والقسوة في التقييم والكلام، إلى ثقافة الإحاطة الرحمانيّة بنقص الآخر وضعفه، والأخذ بيده بأجمل السبل وأفضلها. وهي طرقُ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان حييّاً في سلوكه وتعامله مع الآخرين، وهذا هو الأمرُ الذي تسبّبَ بانفتاح القلوب والعقول عليه.
فلنُزل العوائق من أمام أقدام الآخرين، وسيكون هذا هو التدخّل المفضي إلى إحداث التحوّلات الجميلة والكماليّة في الفرد والمجتمع.
* أستاذ محاضر في جامعة المعارف، وباحث في مركز الأبحاث والدراسات التربويّة.
(1) وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 16، ص 345.