رؤبال ناصيف
يقول إريك شميت، الرئيس التنفيذيّ السابق لشركة جوجل، في معرض تعبيره عن التأثير المتزايد للتكنولوجيا في العالم الرقميّ: «الإنترنت هو أوّل شيء قامت الإنسانيّة ببنائه ولا تفهمه، وهو أكبر تجربة في الفوضى عرفناها على الإطلاق».
* الكثرة والتكرار
بعد أحداث 7/ تشرين الأوّل أكتوبر 2023م (طوفان الأقصى)، ظهرت موجة من الحسابات الإلكترونيّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ تروّج لروايات مضلّلة، مدعومة بصور وفيديوهات معدّلة أو مأخوذة من سياقات أخرى، تتبنّى السرد الإسرائيليّ وتهاجم المقاومة الفلسطينيّة.
هذه الحسابات وصفت العمليّة التي حدثت في غلاف غزّة بأنّها "هجوم على أراضٍ إسرائيليّة" ووصفت المقاومة الفلسطينيّة بأنّها "منظّمة إرهابيّة". كرّرت هذه الحسابات حملاتها بشكلٍ مستمرّ ومنظّم، لتبدو كأنّها تمثّل رأي جمهور واسع من المستخدمين الحقيقيّين. ونتيجة هذا التكرار والانتشار السريع عبر الإنترنت، خاصّةً على منصّات مثل تويتر وفايسبوك، تأثّر الرأي العام العالميّ، واتّجه بعضه نحو دعم الرواية الإسرائيليّة وإدانة المقاومة الفلسطينيّة، بغضّ النظر عن صِحّة المعلومات التي روّجت لها أو زيفها.
* حسابات وهميّة
اللافت أنّ هذا التأثير لم يأتِ نتيجة دعم من مجموعة كبيرة من المستخدمين الحقيقيّين، بل بفضل حسابات وهميّة تمّ إنشاؤها وبرمجتها وإدارتها عبر مجموعة صغيرة من المستخدمين الحقيقيّين المدرّبين خصّيصاً لأداء هذه المهام. ومن هنا، جاء مصطلحا:
1. الجيوش الإلكترونيّة Cyber Armies: يعبّر عن مجموعات كبيرة من المستخدمين الحقيقيّين الذين يتمّ توظيفهم لإدارة الحملات الإعلاميّة والإعلانيّة بشكلٍ مباشر على الإنترنت مثل مجموعات منظّمة "مصنع ترول" (Troll Factory) الروسيّة، "جيش 50 سنت" (50 Cent Army) الصينيّ، و"جيوش تويتر" السعوديّة.
2. الذباب الإلكترونيّ Troll Bots: يعبّر عن الحسابات الإلكترونيّة الوهميّة التي تنشئها وتبرمجها وتديرها تلك الجيوش الإلكترونيّة لشنّ حملاتها ونشر دعاياتها بشكلٍ واسع وسريع، دون أن تكون هذه الحسابات حقيقيّة أساساً. وحيث إنّ هذه الحسابات كثيرة وتنتشر بسرعة وبشكلٍ مزعج ومشوّش تماماً مثل الذباب في الطبيعة، فلذلك وُصفت بالذباب الإلكترونيّ.
* لمحة تاريخيّة
حملات التأثير على الرأي العام ليست جديدة ولا تقتصر على العصر الرقميّ. فقد اعتمدت الحكومات والجماعات سابقاً على البروباغندا التقليديّة من خلال الإعلام والشخصيّات المؤثّرة لنشر رسائل دعائيّة. ومع ظهور الإنترنت، وتقدّم التكنولوجيا، لعب الذكاء الصناعيّ دوراً رئيساً في تطوير هذه الأدوات الدعائيّة وجعلها أكثر فعاليّة، من خلال:
1. أتمتة النشر: نشر الرسائل وتكرارها تلقائيّاً دون تدخّل بشريّ.
2. استهداف أدقّ: تحليل بيانات المستخدمين لتوجيه رسائل مخصّصة.
3. إنتاج محتوى مخصّص: توليد نصوص وصور وفيديوهات يصعب تمييزها عن المحتوى البشريّ.
4. إخفاء التدخّل: صعوبة كشف التدخّلات الدعائيّة بفضل تقنيّات الذكاء الصناعيّ.
* آليّة العمل
تعتمد الجيوش والذباب الإلكترونيّين تقنيّات رقميّة متقدّمة لتنفيذ حملات تأثير واسعة النطاق، وفق الآليّة الآتية:
1. إنشاء حسابات وهميّة: يُنشأ العديد من الحسابات الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعيّ، التي تبدو وكأنّها حسابات حقيقيّة باستخدام صور وأسماء وهميّة.
2. نشر المحتوى تلقائيّاً: تستخدم هذه الحسابات روبوتات مبرمجة (Bots) لنشر الرسائل والمحتويات الدعائيّة بشكلٍ تلقائيّ ومستمرّ.
3. التفاعل والتكرار: تتفاعل الحسابات الوهميّة مع المنشورات (إعجابات، تعليقات، مشاركات)، وتكرّر الرسائل نفسها لتظهر وكأنّها منتشرة على نطاق واسع.
4. استهداف دقيق: بفضل تحليل البيانات، توجَّه الرسائل بشكلٍ مخصّص إلى فئات معيّنة من الجمهور بناءً على اهتماماتهم وسلوكهم عبر الإنترنت، ما يزيد من فعاليّة الحملة.
5. السيطرة على النقاشات: تساهم هذه الحسابات في توجيه النقاشات عبر السيطرة على المواضيع الرائجة وتضخيم الروايات الدعائيّة، بينما تقمع الآراء المخالفة.
* الأهداف
تهدف الجيوش الإلكترونيّة إلى تحقيق مجموعة متنوّعة من الأهداف، من أهمها:
1. التأثير على الرأي العام: نشر رسائل دعائيّة متكرّرة لتوجيه الرأي العام نحو جهة معيّنة، ممّا يجعل الجمهور يعتقد أنّ هذا هو الرأي السائد.
2. تشويه سمعة المعارضين: استخدام المعلومات المغلوطة لتشويه صورة الشخصيّات المعارضة.
3. الترويج لأجندات سياسيّة أو اقتصاديّة: دعم سياسات معيّنة أو التأثير على نتائج الانتخابات من خلال نشر أخبار مضلّلة.
4. إلهاء الجمهور: نشر معلومات غير مهمّة لإلهاء الجمهور عن القضايا الحقيقيّة.
5. نشر الأخبار المزيّفة: تضليل الجمهور عبر نشر معلومات خاطئة لإبعاده عن الحقائق.
* المخاطر
رغم الفعاليّة التي تتمتّع بها الجيوش الإلكترونيّة في تحقيق أهدافها، فإنّها تشكّل خطراً كبيراً على المجتمعات، عن طريق:
1. تشويه الحقائق وإضعاف الثقة: انتشار الأخبار المضلّلة يضعف قدرة الجمهور على التمييز بين الحقائق والشائعات، ويقلّل من الثقة في وسائل الإعلام التقليديّة.
2. تعزيز الفتنة والانقسام: تُستخدم لنشر الكراهية واستهداف مجموعات معيّنة، ممّا يزيد من التوتّر والانقسام داخل المجتمعات.
3. التنمّر الإلكترونيّ: تستهدف أفراداً مثل الصحفيّين والناشطين في نشر الأكاذيب والتنمّر، ممّا يسبّب أضراراً نفسيّة لهم.
4. تهديد الأمن القوميّ: تُستخدم للتدخّل في شؤون الدول، كما حدث في الانتخابات الأمريكيّة 2016م.
5. إضعاف المؤسّسات: تهدف إلى نشر أخبار مزيّفة لزعزعة ثقة الجمهور في المؤسّسات الرسميّة.
* مواجهة المخاطر
يمكن اتّباع مجموعة من الإجراءات الوقائيّة التي تساعد في تجنّب الوقوع في فخّ التضليل والدعاية المضلّلة:
1. الاعتماد على مصادر موثوقة مثل المواقع الإخباريّة المعروفة، واستخدام أدوات مثل Snopes وFactCheck.org للتحقّق من صحّة الأخبار.
2. استخدام أدوات مثل Botometer لتحليل سلوك الحسابات وكشف ما إذا كانت وهميّة وروبوتيّة.
3. الحذر من الحسابات التي تحصل على تفاعلات ضخمة وغير منطقيّة في وقت قصير، فقد تكون موجّهة.
4. التريّث قبل النشر: أخذ الوقت الكافي للتحقّق من صحّة المعلومات قبل نشرها.
5. استخدام إضافات المتصفّح مثل NewsGuard للتحقّق من موثوقيّة الأخبار والمواقع.
6. مشاركة الآخرين بنصائح حول كيفيّة التمييز بين الأخبار الصحيحة والمضلّلة.
7. تجنّب الجدالات مع حسابات مشبوهة قد تكون مدارة من روبوتات تهدف لتشويه الحقائق.
* "النحل النافع"
في الوقت الذي تُستخدم فيه الجيوش والذباب الإلكترونيّين لنشر التضليل والدعاية الكاذبة، يمكن تطبيق التقنيات نفسها لحماية الحقيقة وتعزيز نشر المعلومات الموثوقة ودعم الشفافيّة ومكافحة الأخبار الزائفة، من خلال:
1. استخدام الذكاء الصناعيّ للكشف التلقائيّ السريع عن الأخبار الزائفة وتحليل النصوص، مثل أدوات Claim Buster وFull Fact.
2. تطوير روبوتات صحفيّة مدعومة بالذكاء الصناعيّ لكتابة تقارير مبنيّة على بيانات حقيقيّة، ممّا يساعد في محاربة التضليل.
3. دمج أدوات التحقّق من الحقائق في منصّات التواصل الاجتماعيّ لمراجعة المحتوى وتقديم تحذيرات عن الأخبار المضلّلة في الوقت الفعليّ.
4. استخدام الذكاء الصناعيّ لتحليل أنماط انتشار المحتوى ورصد الرسائل المضلّلة قبل أن تنتشر.
5. تطوير روبوتات لنشر الحقائق ومواجهة الحسابات الوهميّة بنشر محتوى موثوق.
6. استخدام الذكاء الصناعيّ لتطوير أدوات تعلّم الجمهور كيفيّة التمييز بين المعلومات الحقيقيّة والمضلّلة.
* مستقبل الجيوش والذباب الإلكترونيّين
في ما يأتي بعض الاتّجاهات المتوقّعة في المستقبل لهذه الظاهرة:
1. تعقيد أكبر في الأساليب: ستصبح الحملات أكثر تعقيداً باستخدام تقنيّات مثل Deepfakes لاستغلال الأحداث الكبرى والتلاعب بالمشاعر.
2. الانتقال إلى منصّات جديدة: الجيوش الإلكترونيّة ستتوسّع إلى "الميتافيرس" ومنصّات مثل TikTok، مع تركيز أكبر على المحتوى المرئيّ والتفاعلات الافتراضيّة.
3. تطوّر الذكاء الصناعيّ: سيتحسّن الذكاء الصناعيّ في محاكاة المحادثات البشريّة، ممّا يجعل من الصعب التمييز بين الإنسان والآلة.
4. الهجمات الرقميّة الموجّهة: ستعتمد الجيوش الإلكترونيّة على استهداف الأفراد بناءً على بياناتهم الشخصيّة وسلوكهم عبر الإنترنت.
5. التنظيم الحكوميّ: من المتوقّع أن تلعب الحكومات دوراً أكبر في تنظيم استخدام الذكاء الصناعيّ وتقنينه، ومكافحة الأخبار المضلّلة بالتعاون الدوليّ.
6. التلاعب بالخوارزميّات: ستعتمد الجيوش الإلكترونيّة على تحليل الخوارزميّات لضمان ظهور المحتوى المضلّل بشكل أولويّة على محرّكات البحث.
7. تقنيّات مكافحة التضليل: ستظهر تقنيّات جديدة مثل الذكاء الصناعيّ العكسيّ لرصد الأخبار المزيّفة والحسابات الوهميّة، مع تطوّر خوارزميّات على المنصّات الاجتماعيّة لمنع انتشار الحسابات الوهميّة.
في النهاية، القوّة الحقيقيّة لا تكمن في التكنولوجيا وحدها، بل في الوعي والالتزام الجماعيّ بتوجيه هذه الأدوات نحو بناء مجتمع رقميّ أكثر صحّة وإيجابيّة. لأنّنا في نهاية المطاف، نتحكم بمستقبل هذه الأدوات، ونستطيع تحويلها إلى "نحل نافع" بدلاً من ذباب مزعج.