نور روح الله | دور الشعب في انتصار الثورة* الشهيد على طريق القدس علي ناصر الدين بياناتنا هي التي تقتلنا! حديث الانتصار | شيفـرة المقاومة رحلة إخلاص تكلّلت بالشهادة "إنّا على العهد يا والدي" شيخ المجاهدين مجـاهدٌ فـي كـلّ الميـادين اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟

رحلة إخلاص تكلّلت بالشهادة

شذرات من حياة الشهيد القائد السيد سهيل الحسينيّ (السيّد أحمد)
هيئة التحرير


كان فتىً تعبويّاً، وصار مجاهداً تدرّج بالمسؤوليّات، حتّى جمعه لقاءٌ بالحاجّ عماد مغنيّة، استحوذ خلاله على إعجابه بعد أن لفتت شخصيّة السيّد نظر الحاج ووجد فيه صفاتٍ مميّزة، فأحبّ أن يكون مقرّباً منه في العمل، وهكذا وصل إلى هذه المسؤوليّة الرفيعة المستوى. ومن خلال الحاجّ عماد أيضاً، تعرّف بسماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) الذي رأى فيه مواصفاتٍ تميّزه، لذلك أولاه مهامٍ خاصّة ومسؤوليّاتٍ عدّة. إنّه الشهيد القائد السيّد سهيل الحسينيّ (السيّد أحمد) الذي تُطلعنا زوجته السيدة هنا الخليل على بعض خفايا شخصيّته وحياته.

* الكتمان إخلاصٌ للعمل
من الناحية الأمنيّة، لم يكن أولاد السيّد أحمد على علم بأنّ والدهم لديه مسؤوليّة مهمّة في المقاومة. كان هذا نمط الحياة الذي درّبني عليه، وأنا بدوري درّبت أولادي عليه. لدرجة أنّ أولاده لم يعرفوا طبيعة عمله لحين صدور التقرير الإسرائيليّ حوله.

بسبب عدم حديث السيّد عن تفاصيل عمله ومسؤوليّاته، فقد نجح في كتمان السرّ والحفاظ على الخصوصيّة داخل المنزل. كلّ ذلك كان سرّ الحفاظ على حياتنا وحياته طيلة تلك السنوات.

وهذا هو سبب عدم معرفة الناس بالسيّد أحمد أكان بالاسم أو بالشكل، ما شكلّ مفاجأة للجميع أنّه هو مسؤول أو قائد. جلّ أفراد العائلة حتّى المقرّبون وأنا من بينهم جهلنا طبيعة عمله. واليوم ما عرفناه وصلنا من الغرباء لا من السيّد.

حتّى في الجلسات العائليّة، كان يتهرّب من البوح بأيّ معلومةٍ تخصّ عمله مهما كانت بسيطة. وقد تعمّد في الفترة الأولى لزواجنا إشاعة أنّه يعمل في مؤسّسة الشهيد، فهذا الجواب كان يساعده في تجنّب الوقوع في العديد من الإشكاليّات. ولاحقاً، احترم الجميع خصوصيّة السيّد وكتمانه بعدم طرح أسئلة كهذه مجدّداً، إذ ظهر جليّاً أنّه لا يحبّ الخوض في هذه التفاصيل.

* الذوبان في العمل
إخلاص السيّد كان الطابع الأسمى والأبرز في شخصيّته. تفانيه في أدائه عمله كان ملفتاً للغاية، فهو لم ينظر إلى مسؤوليّته في حزب الله على أنّها وظيفة لها دوام معيّن أو جهد محدّد، بل كان يعتبر أنّ كلّ وقت لم يكرّس لخدمة هذا النهج هو وقتٌ ضائع، دون الاكتراث لاحتياجاته الشخصيّة، حتّى أثّر ذلك في الوقت الذي كان يمنحه لعائلته. فعمله في حزب الله يمثّل كلّ شيء بالنسبة إليه في هذه الحياة لأنّه مرتبط بصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو ما سيقرّبه من الله سبحانه وتعالى.

* في العمل لا محاباة
لم يلتفت السيّد أحمد إلى أيّ اعتبارات شخصيّة أو خاصّة في العمل، بل كان يعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه دون مراعاة أيّ قرابةٍ أو معرفة خارج نطاق العمل. واشتُهر بعدم مداراته لأحدٍ على حساب مصلحة العمل.

كما أنّ العديد من خواصّ الأقارب طلبوا عبرنا مساعدة السيّد لأبنائهم في موضوع العمل، لأنّه لم يكن يحمل هاتفاً بتاتاً، فكنت أسمع منه دائماً جوابه الوحيد: "إن ساعدتهم لأنّهم أقربائي، فمن سيساعد باقي الأفراد ممّن يمتلكون الكفاءة والخبرات العلميّة والعمليّة اللازمة؟". وكان يحرص على أن يكون بريء الذمّة في الصلاحيّات المخوّل بها.

فمن عرف صدق السيّد أحمد ودأبه على نبذ المداراة في العمل، كان يقدّر موقفه ويحبّه لهذه الصفات. والمعروف عنه أيضاً أنّه رغم حساسيّة موقعه، لم يستفد من علاقاته أو يوظّفها مطلقاً لمآرب شخصيّة، كتحسين وضعه الماديّ أو افتتاحه لتجارةٍ ما. أمّا إعراضه عن استغلال موقعه في العمل فلأنّه توجّه دنيويّ، وهو ما ينفر منه ولا يقبله، وكان يعدّه تصرّفاً غير مبرئٍ للذمّة. كما أنّ زهده انعكس على مظاهر حياته كأثاث منزلنا البسيط والمتواضع، رغم أنّ التوسعة في بعض المواطن جائزة ومتاحة، إلّا أنّه كان يتشدّد في مراقبة نفسه.

* يحضر أغراض المنزل بنفسه أحياناً
حنوّ السيّد وكرم نفسه صفتان ملازمتان له؛ فقد كان سخيّاً في كلّ شيء، حتّى في إحضاره احتياجات المنزل. دائماً ما كنت أطالبه بالحدّ من الكمّ والنوع لأنّ عائلتنا صغيرة. رغم ندرة خروجه بين الناس تحديداً يوم الأحد، إلّا أنّه يتعمّد إحضار ما تشتهيه نفس كلّ فردٍ من العائلة المكوّنة من ثلاثة أبناء وابنةٍ دون تردّدٍ أو تقصير.

* أبٌ حاضر ولو كان غائباً
غياب السيّد فرض ضغطًا كبيراً عليّ في تحمّل مسؤوليّة تربية الأولاد، تحديداً بعد استشهاد الحاجّ عماد مغنيّة إذ تضاعفت مهامه. كما أنّ حساسيّة عمله فرضت علينا قيوداً كثيرة، فالأماكن التي زرناها كانت نادرة، كذلك النزهات. أمّا الزيارات العائليّة فكانت محدودة. وضعه الصحيّ لم يكن مساعداً، فكان حضوره في المنزل بهدف الراحة الجسديّة من مرضه فقط. لكن مؤخّراً، حين توفّر المساعدون تحسّن الوضع. نتيجةً لذلك، تحمّل الأولاد معنا وضعاً ضاغطاً، فقد حُرمنا رحلات الترفيه معه وما شابه ذلك. غير أنّ المميّز في ظلّ هذه الظروف، أنّه دائماً ما كان يستغلّ حضوره في المنزل ليؤهّل الأولاد ويربّيهم على التعاليم الدينيّة الأصيلة، مستعيناً بثقافة حصّلها من دراسته الحوزويّة، وهم بدورهم عشقوا محاضراته العقائديّة، وتطرّقه لمختلف الجوانب الحياتيّة وإحاطته بها ليستفيدوا دائماً.

لقد ترك في نفسي أثراً بالغاً، خاصّة حول هدف حياة الإنسان ووجوده، وكيف يجب أن يسخّر نفسه لرضى الله كي يتخطّى بلاءات الدنيا ويفوز بالآخرة. تعلّمت منه أيضاً كيف تهون مصائب الدنيا لقد كان مؤثراً جدّاً في هذا المجال. لقد قدّس خصوصيّة العائلة بشكلٍ كبير، وشدّد دائماً على الكتمان، تحديداً في ما يخصّ الخصوصيّات العائليّة أو المشاكل التي تعايشها كلّ العائلات.

* ينبذ الاستهلاك الترفيهيّ
حدّد السيّد ضوابط تربويّة. لم يُحرم أبناؤنا من شيء في طفولتهم، فكلّ ما كان في أيدي غيرهم من منتجات عالميّة كان لديهم منه بديلاً محليّاً، وقد تربّوا على العيش بمقدار الحاجة. فالهاتف مثلاً، يحصل عليه أحدهم بحسب حاجته الجديّة له، حتّى أنّ الإنترنت لم يتوفّر في المنزل إلّا عندما دعت الحاجة إليه للتعلّم عن بُعد في زمن الكورونا، وكلّ ذلك من باب الحرص عليهم. صحيح أنّ هذا الأمر كان مزعجاً لهم بدايةً، لكنّهم سرعان ما أدركوا أهميّة هكذا إجراءات.

وقد ربّى أبناءه على التواضع بعيداً عن التبضّع من المحال ذات الماركات التجاريّة العالميّة.

* مخازن "المرتضى" وبطاقة "السجّاد"
في بداية الأزمة الاقتصاديّة، أحسّ السيّد بضرورة إنشاء مشروع يخفّف الضغط الاقتصاديّ عن الناس، فكان الداعم الأساسي في تنفيذ مشروع "المرتضى" وبطاقة "السجّاد" في فترة زمانيّة قياسيّة، في تأمين البضائع، إلى تصدير البطاقات للناس، وضبط كيفيّة استعمالها. وقد بذل جهداً كبيراً من وقته وصحّته للتفكير في تفاصيله. كان جلّ همّه كيف يستطيع تخفيف العبء عن الناس. ودائماً ما يسألني بصفتي ربّة منزل عن أيّ شيء يمكن أن نضيفه ويمثل ضرورةً للمنازل؛ من أجل خدمة المجتمع بشكلٍ أفضل، وذلك لأنّ طبيعة المشروع سمحت له بإطلاعي عليه لأتمكّن من إعطائه تغذية راجعة فقط، وهو المشروع الوحيد الذي عرفته من عمله لهذا السبب.

وقد بذل كلّ طاقاته كي تشمل بطاقة "السجّاد" الخدمة الدوائيّة. ومع أنّ بعضهم عدّ هذه الخطوة مخاطرة، إلّا أنّه أصرّ على متابعة الأمر بنفسه.

كان دائماً يتابع نسبة الاستفادة من هذا المشروع، ومدى تغطيته لأكبر شريحة من المجتمع، وما إذا كان سيستطيع الناس الوصول إلى المراكز التجاريّة، ومدى استفادتهم من البطاقات الموجودة.

* المطالعة هوايته
كانت هوايته المفضّلة القراءة، فمنذ صغره كان يقرأ مجلّة العربيّ، وهو سريع القراءة ولديه مخزون ثقافيّ كبير. وكان السيّد قبل التزامه بالعمل الأمنيّ يحضر في كلّ معارض الكتاب.

أحبّ قراءة الكتب الدينيّة والفلسفيّة، فهو حائز على ماجستير باختصاص الفلسفة، بالإضافة إلى كتب السيرة والكتب المتنوّعة. وقد خصّص ساعة للقراءة يوميّاً على الأقلّ متحدّياً ضغط عمله. في حرب تمّوز، كان لديه مكتبة كبيرة، وكان يخشى أن يخسرها. أذكر عندما وجد في نفسه تعلّقاً بها أنّه قال: "يجب أن أزيل هذا التعلّق من نفسي، فهو نقطة ضعف تربط بالدنيا". وكان من قرّاء مجلّة بقيّة الله لما لها من فوائد متنوّعة ومواضيع شيّقة. كما أنّه نظّم برنامجاً لقراءة القرآن، ولديه بعض الإلمام بالتفسير إذ كنت أستعين به لتفسير بعض الآيات، كما كان يشجّع أطفاله على المواظبة على قراءة القرآن، أمّا عن برنامجه العبادي فقد لاحظت أنّه وضع برنامجاً مميزاً ما جعلني أشعر بأنّه اقترب من الشهادة.

* مهذّب نفسه
جاهد نفسه لتغيير أيّ صفة شخصيّة قد تزعج الآخرين، وخصوصاً في العام الأخير من حياته، وكان هذا الاختلاف واضحاً، فهو على مستوى عالٍ من الأخلاق. سألني ابني مرّة: «هل والدي يغضب؟»، كان الأولاد يستغربون كيف أنّه لا يغضب ولا يصرخ، وأنّه كثير الصبر، وقد ظهر ذلك جليّاً في آخر أيّام حياته.

كان حريصاً على عدم أذيّة أحد، وكان يتحلّى بالجرأة للاعتذار من أيّ شخص اشتبه بأنّه أساء إليه.

* مصلحة العمل أكبر منّي
رغم أنّ السيّد صاحب شخصيّة حاسمة وعزيز النفس، فقد كان يتخطّى أيّ أمر شخصيّ في سبيل مصلحة العمل. أخبرني سابقاً أنّه يقتدي بالشهيد الحاجّ عماد في أنّ على الإنسان أن يتجاوز الأمور الشخصيّة في سبيل مصلحة العمل لحزب الله، والذي يعني التمهيد للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهذه كانت أولويته، وقد استغرق فيه حتّى في أوقات راحته. عندما أجده شارد الذهن، كنت أعلم أنّه يفكر كعادته إمّا في إيجاد حلولٍ لمشاكل العمل أو لتطويره.

* الشهادة
منذ بداية الحرب، مكثنا نحن عائلته في مكان يعرفه، بينما توجّه هو إلى مكان ما ليتابع عمله. بعد مرور أيّام عدّة، طلب منّي مجموعة أغراض من المنزل فالتقينا هناك، ولكنّني لم أشعر حينها أنّه سيكون اللقاء الأخير بيننا! وعندما غادر أخبرني أنّه لا وسيلة مباشرة للتواصل بيننا حالياً، وقد سكنت الحسرة نفسي لأنّ ابنتي فاطمة لم تحظَ بفرصة لوداعه.

ثمّة أمر مهمّ وهو أنّ السيّد لم يكن يتردّد سابقاً إلى المكان الذي استشهد فيه لأسباب أمنيّة، ولشدّة كتمانه لم أكن على علمٍ بمكوثه هناك. وعندما شُنّت الغارة حيث استشهد فيه وابنه السيّد رضا وزوجته، تواصل الإخوة المعنيون معي لمعرفة ما إذا كان في ذلك المكان، فلم أستطع تحديد ذلك، ولم أعرف بشهادته حتّى صباح اليوم التالي.

لقد عشق السيّد أحمد سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليهما) بشكلٍ لا يوصف، وها هو قد التحق به وبرفقته فلذة كبده الذي لازمه حتّى رحلا معاً إلى الملكوت الأعلى.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع