سيّد شهداء الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)
أود أن أتحدث عن المقاومة الإسلامية، عن هذه المسيرة، بوصفها إحدى نتائج كربلاء العظيمة بعد مئات السنين. وهذه المقاومة بما عانته وما أنجزته وما زالت فيه اليوم، هي شاهدٌ تاريخيٌّ معاصرٌ على حياة كربلاء وقوة الحياة والتأثير في كربلاء وفي شهادة الإمام الحسين عليه السلام، وفي انتصار الدم على السيف.
* مقاومتنا أسّست على التقوى
لقد أسّست المقاومة الإسلامية على التقوى من أول يوم، منذ الأيام الأولى، في اجتياح عام 1982م، التقى رجالٌ مؤمنون علماء وأساتذة للتعامل مع مستجد كبير وخطير وتاريخي في بلدنا؛ الاجتياح الإسرائيليّ للجنوب، وخلال أيام قليلة بات العدوّ على مشارف العاصمة والضواحي في سياق مشروع سياسي أميركي، إلى حدّ أن روّجت حينها بعض الصحف عنوان "دخول لبنان في العصر الإسرائيليّ". السؤال المركزي: ما هي المسؤوليّة الشرعيّة علينا بوصفنا مؤمنين بالله تعالى، والقيام بها وفيه رضى الله سبحانه وتعالى وطاعته، وفي تركها معصية الله عز وجل وغضبه؟ وهو ما نعبّر عنه الآن بالتكليف الشرعيّ.
انطلقت المقاومة الإسلاميّة من هذا السؤال أمام هذا الطارئ العسكري والأمنيّ والسياسيّ والاستراتيجيّ والتاريخيّ.
من واجب أي إنسان يؤمن بالله سبحانه وتعالى ويؤمن باليوم الآخر، يعلم أنّ الدنيا فانية، وأنَّ الحياة الأبدية هي الآخرة، وأنّ ثمّة حساباً بين يدي الله سبحانه وتعالى ويوم القيامة، كما ورد في الآيات وكما فسّر بشكل واضح ودقيق الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه): ثمّة نوعان من الحساب: الأوّل حساب أفراد، كلّ فرد يحاسب ويُسأل عن حقوق الآخرين عليه من أمّه وأبيه وزوجته وأبنائه وجيرانه وحلاله وحرامه وطعامه وشرابه. والثاني حساب الجماعات؛ الأمم، الأقوام؛ أي أنّنا يوم القيامة نحاسب جماعةً، مثلاً نحاسب عن الشؤون العامّة التي هيّ مسؤولية الشعب، أو الذين ينتمون إلى جماعة معيّنة سيُسألون عن سلوكهم وعن أدائهم وعن أقوالهم وعن أفعالهم، عن حربهم وعن سلمهم.
* التكليف الشرعيّ ثقافة كربلاء
بدأنا بهذه الخلفية الفكرية، وهذا أحد أهمّ دروس كربلاء، فالإمام الحسين عليه السلام انطلق من خلال تشخيصه تكليفه الإلهي والشرعي تُجاه الإسلام وتُجاه الحاضر والمستقبل، وأنّه لا يستطيع أن يسكت على يزيد، وأن يواجهه ولو أدى ذلك إلى القتال وإلى الشهادة. من الخطأ ربط كربلاء فقط بالصفات الشخصية للإمام الحسين عليه السلام، بمعنى أنّه نهض لأنه كان شجاعاً أبيّ الضيم، لأنّ الإمام الحسن عليه السلام كان كذك أيضاً، إذاً المسألة لا ترتبط بالصفات الشخصية، بل بالتكليف والمسؤولية الملقاة على عاتق المُكلّف على ضوء الظروف والتهديدات والفرص والأوضاع وما شاكل. المسألة الرئيسية إذاً في فهم كربلاء تبدأ من أنَّ الحسين عليه السلام نهض على ضوء الأحداث والظروف والمخاطر والتهديدات والفرص. في مسيرتنا المباركة يجب أن يبقى الأصل دائماً هو أن نبحث عن تكليفنا الشرعيّ لنؤديه، وبالطبع تحديده يتم بعملية تُلاحظ المبادئ والقواعد والأصول الإسلامية والإيمانية، والظروف والمعطيات والفرص والتهديدات والمصالح والمفاسد. وهذه الأمور يرُجع فيها إلى أهل الاختصاص الفقهيّ والعلميّ والمهنيّ والفنيّ والتقنيّ.
* إخلاص المسيرة حسينيّ
ثانياً عندما نذهب إلى أداء التكليف، يجب أيضاً أن نكون صادقين مع الله سبحانه وتعالى مخلصين في عملنا لله سبحانه وتعالى، وأن نؤمن بأنّ هذا الجهاد هو في سبيل الله، هو جهدٌ وتعبٌ وسهرٌ وخدمةٌ وعناءٌ وتحملٌ واحتسابٌ وتضحيةٌ في عين الله وفي سبيل الله سبحانه وتعالى، عندها يكون لمقاومتنا الكثير من النتائج الدنيوية فضلاً عن النتائج الأخروية. وهذا ما تعلّمناه من الإمام الحسين عليه السلام، الذي كان حريصاً أن يصحب معه إلى كربلاء الصادقين المخلِصين المخلَصين، وكان صريحاً جداً معهم، عندما جاء نبأ استشهاد مسلم بن عقيل وهاني بن عروة صارحهم الحسين عليه السلام؛ ليميّز الخبيث من الطيب، ليبقى الصادق وينسحب من جاء من أجل شيءٍ من حطام هذه الدنيا الفانية. حتى ليلة العاشر عندما أحلَّ أصحابه من البيعة وقال لهم: "ألا إنَّ هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً" أراد أن يرتقي بهم إلى أعلى مستوى من الصدق والنقاء والصفاء والإخلاص لله سبحانه وتعالى، في قتالهم وفي ثباتهم وفي جهادهم. هذه ميزة في مسيرتنا أيضاً، نحن شهدنا الكثير من هذا الإخلاص لدى المجاهدين وعوائل الشهداء والجرحى وعوائلهم والأسرى، ولدى المسؤولين الإخوة والأخوات، ولدى الناس في بيئتنا، ولدى جمهور المقاومة، الذين احتضنوا وصبروا وضحّوا.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منا منافسةً في سلطان ولا التماس شيءٍ من فضول الحطام، ولكن لنردَّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك؛ فيأمن المظلومون من عبادك". لأنّك يا ربّنا هذه إرادتك ومشيئتك، فنحن لا نبحث عن حطام في هذه الدنيا، لا نبحث عن حطام هذه الدنيا.
* تحمّل التضحيات حسينيّ
هذه المقاومة منذ البداية كان صدقها وإخلاصها لله عزّ وجل من البدايات من الخطاب إلى التبليغ إلى الدعوة إلى هذا الخيار إلى الاستقطاب إلى التنظيم إلى التشكيل إلى التدريب إلى معسكرات التدريب متدرِّبين ومدرَّبين، إلى الالتحاق بمجموعات العمليّات إلى تنفيذ الكمائن إلى العمليات الاستشهادية، إلى الشهداء، إلى تحمل الجراح إلى الأسرى في السجون، إلى التبعات إلى الهدم إلى الدمار إلى كلّ ما حصل حتّى اليوم، خلال أكثر من أربعين عاماً لم يكن منافسةً في سلطان، إنّما أداءً لتكليفنا الإلهيّ الشرعيّ؛ ليأمن عباد الله، ولتتحرر الأرض التي احتلت ظلماً وعدواناً؛ ليكون للناس كرامتهم وسعادتهم وهناءة عيشهم. هذا لله عزّ وجل.
بكل صدق وصراحة، أوّل عشرين سنة، عندما كنّا نتحدّث عن نصر عسكريّ وسياسيّ، كنّا نراه بعيداً، لكنّنا كنا على يقين به لثقتنا بالله، وأنَّ النصر بيده، وسيأتي، لكن لم نكن نعلم متى سيأتي.
كثيرون من تلك الحقبة ارتفعوا شهداءً وهم في ريعان الشباب، ولم نكن نأمل أن نعيش إلى اليوم، وأن تشيب لحانا، فقد كنّا نتوقع الشهادة والكمائن والغارات والعبوات والاغتيالات والمؤامرات والحروب على طول الطريق، لكنّ الله نصرنا.
*من خطاب لسماحة شهيد الأمّة السيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، بتاريخ: 31/7/2022م.