نسرين إدريس قازان
ضجّ صوت لهاثهما متقطّعاً في المكان وهما يركضان بين الدمار تحت عيون طائرة استطلاع تلاحقهما، رامية خلفهما قذيفة، ألقيا بنفسيهما على إثرها في جلّ صغير، ولبثا حيثُ هما تحت أشعّة شمس الظهيرة الحارقة، وعلى التراب اليابس.
بقيا منبطحين بانتظار اللحظة المناسبة للانسحاب.. نظر إلى كفّيه المسوَدّين من حمل الصواريخ، ونادى رفيقه «سامر» الذي ما إن رفع وجهه ناحيته حتى علا صوته بالضحك عليه. استغربَ سامر الأمر، ولمّا سأله، أجابه أنّ وجهه صار مموهاً فالعرق حوّل التراب إلى وحلٍ. ردّ سامر: «ووجهك أيضاً لقد علق به بعضُ الحصى الصغيرة، ولكنك لا تشعر بها لسماكة الطين على وجهك».. ضحكا وسامر يخبره عن المرة الأولى التي موّه فيها وجهه، فقد وضع لوناً بُنياً عليه بطريقة متساوية، وظلّ يمسحه حتى صارَ كالقناع، والمُصيبة كانتْ عندما حان وقت الوضوء، فقد استغرق وقتاً لإزالته..
نظر إليه شزراً: ألستَ على وضوء؟
أجاب سامر بثقةٍ والبسمة تعلو وجهه: وهل تريدني أن استشهد دون وضوء؟
ـ وهل تظنُّ أنك ستستشهد في الحرب الأولى لك؟
ـ إذا لم أستشهد بالصاروخ، سأستشهد من العطش و الجوع، وضحك.
ألقى برأسه على التراب من جديد. اقتربتْ من وجهه نملة سوداء، كانتْ تجرّ كسرة خبزٍ أكبر منها، وهي تدفعها بهدوء ناحية الجبّ بين صخور الجدار المرصوص جيداً.. كان النمل يعمل بجدٍّ غير عابئ بالحرب، والنملة القريبة منه لم تتعب من «وعورة» طريقها، ذكّره ذلك كيف أن عليهما حمل الصواريخ الثقيلة والركض بها لرميها في ثوانٍ قليلة..
بعد أن اطمئنّ إلى ابتعاد طائرة الاستطلاع، وقف ونفض التراب عن ثيابه. ولكنّ سامر بقي منبطحاً حيث هو، ناداه فلم يردّ عليه، اقترب منه ومدّ يده ناحيته، فصرخ به سامر ممازحاً، ما جعله يتراجع بسرعة، فركض سامر ضاحكاً أمامه، وهو يتوعّده إلى أن وصلا إلى مركزهما..
استلقى سامر على الأرض واضعاً يديه خلف رأسه، ووقف هو عند النافذة ليلقي نظرةً سريعة. لم يكن هناك أحد بالقرب منهما، فالناس الذين لم يغادروا القرية، اجتمعوا في مكانٍ بعيدٍ وآمن.. اقترب من سامر وجلس بالقرب منه:
ـ سأخرج للبحث عن طعام..
ردّ سامر: انتظر حتى يهدأ القصفُ قليلاً..
استلقى بالقرب منه، والهواء العليلُ يتسلّلُ إليهما من النوافذ والأبواب المُشرعة. منذ يومين وهما يأكلان قطعة صغيرة من «الحلاوة»، قسماها إلى ثلاث وجبات، كل وجبة قضمة واحدة، وبعدها يرطبان شفاههما بالقليل من الماء..
يجبُ عليهما البقاءُ يومين آخرين قبل الانسحاب من هذه النقطة التي وصلا إليها منذ عشرة أيام. كان المشهدُ مريعاً عندما دخلا القرية، فالبيوت المهدّمة غيّرت ملامحها، ولم يعد هناك طريق واضح يوصلهما إلى كتف الوادي حيثُ هما الآن، فنقلا العتاد الثقيل بين الركام، وتحت وابل من القذائف وعيون الطائرات الحربية والاستطلاعية..
أخذَ التعب مأخذه منهما، وكلاهما يحدّق بالسقف، فغرقا في سكوتٍ تامٍّ، إلى أن سأله سامر:
ـ ماذا تحبّ أن تأكل قبل أن تستشهد؟
ابتسم وهو يجيب: القليل من «المجدّرة» مع حبّة بندورة.. وأنتَ؟
قال سامر: أريدُ القليل من مربّى التين!
ـ هل ستطعمني قليلاً؟
ـ إذا أطعمتني القليل من «المجدّرة»!
ـ أتعرف يا سامر أحبّ ممالحتك حتى آخر لحظة..
قام من مكانه ليرصد الطريق من جديد. ومن بعيد رآها وهي تركض وبين يدَيها صرّة صغيرة. همس لسامر، فاقترب منه وراقباها قليلاً، قبل أن ينطلقا ناحيتها. كانت في الرابعة عشرة من العمر، أخبرتهما أن جدها المريض بقي في منزله، فيما هي وأهلها يختبئون في مكانٍ بعيد، وفي كل يوم يأتي فرد من العائلة ليوصل له الطعام ويتفقّده.
نظر ناحية الأرض وبخجلٍ سألها إن كانت تستطيع أن تجلب لهما القليل من الطعام إن بقي عندهم منه. فتحت عينيها الدامعتين، وقالت لهما: «خذا هذه الصرة، وسأعود ركضاً إلى البيت لأجلب حصّةً أخرى لجدّي» فلم يقبلا منها، وبعد جدلٍ أقسمت عليهما بالإمام الحسين عليه السلام أن يأخذا الطعام..
ركضت بسرعة ناحية البيت، وعادا أدراجهما إلى نقطتهما. جلسا مبتسمين، وفتحا صرّة القماش. كان الطعامُ مغلّفاً برغيفي خبزٍ. فتح الرغيف الأول فوجد القليل من المجدرة مع حبة بندورة.. نظر إلى سامر باستغراب، وفتح الرغيف الثاني الذي كان فيه القليل من مربّى التين..
انحدرت الدموع ولامست الابتسامة، وبصمتٍ تقاسما الطعام.. لم يعد سامر من الحرب، فقد استشهد بعد أن استبسل في الدفاع عن الوطن.. أما هو فقد عاد من الجبهة، ولم يتذكّر أيّ شيء من تعب تلك الأيّام، سوى ذلك النهار، ووجهها البريء، وآخر أمنيّة في حرب المصير...