د. علي كريّم
مذ كانت البداية، عاهدوا الله ورسوله، وعقدوا العزم فأسرجوا قلوبهم بسنا ضياء العشق واهتدوا إلى صراط الحق. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، لم يكترثوا يوماً لجرحهم، ولم يفت من عزيمتهم أسرهم، بل باتوا أكثر صلابةً وإيماناً واحتساباً...
مذ كانت البداية، لم يعرف التعب سبيلاً إلى شموخهم ولم يُدرك الوجعُ السرَّ في نفوسهم، حتّى بات الألم إيذاناً بنصر لا محالة آتٍ، ولو بعد طول السنين، فهذا وعد الله ووعد رسوله، وعهد البيعة لبقيّة الله في أرضه عجل الله تعالى فرجه الشريف...
حتى إذا انطلقوا، اختصّهم الله بإحدى نعمتين، إن لم يكن بالاثنتين معاً، إمّا التفرّغ لعبادته أو التصبّر على جراح الجسد... فألفوا الأسر وألفهم، وألفوا الجرح وألفهم، ورسموا معالم الدرب من جديد بعذابات السجن وآهات الوجع... وخطّوا للأحرار مسلكاً للوصول وطريقاً للعبور، وأعادوا الكرامة بعد سنيّ المهانة، وأعادوا العزة بعد سنيّ المذلّة...
هذا ما صنعوه لنا، فما الذي صنعناه نحن؟
هذا ما قدّموه لنا، فما الذي قدّمناه نحن؟
هل سألنا أنفسنا يوماً: أين نحن منهم؟ بل ماذا أدّينا من حقّ لهم؟
وهل نكمل ما بدأوه، ونتابع ما أرسوه، فنلحق بركب العناية الإلهية؟
هلّا تعلّمنا منهم الدروس، فنتحرق شوقاً لأداء الواجب؟
وهلّا اقتفينا من آثارهم العبر، فنسرع لصقل أفئدتنا بمعين صبرهم؟
حريٌّ بنا أن نقف، ولو للحظة، نستدرك فيها حالهم، ونستجمع آثارهم، ونغوص في أسرارهم، ولا بد وأن نتيه، فمن أين نبدأ؟ مِنْ صبر يمل منه الصبر!؟ أم من تضحية تتكسّر عند أعتابها كل التضحيات!؟ أم من إخلاص اختصّهم الباري به دون غيرهم!؟ أم من رفيع الدرجات في الطاعة والتوكّل والوصول؟ أم... أم...
حريٌّ بنا أن نقتفي أثر الشوق في صدورهم، ولوعة الحبّ في قلوبهم، وانكشاف النور وانجلاء الظلمة عن ضمائرهم وسرائرهم، بل والأنس بالقرب والفوز والفلاح... ولسان حالهم:
«إلهي... واجعلنا من أخصّ عارفيك، وأصلح عبادك وأصدق طائعيك، وأخلص عُبَّادك»(1).
لقد استجاب الله لهم دعاءهم، وارتضى لهم ذاك القرب، لصفاء نفوسهم وسلامة صدورهم، فباتوا أنواراً حيّة بيننا، تتلألأ بالبهاء، وبركات وافدة إلينا، استودعها الله برحمته، ليرحمنا بها...
* القائد الأسوة
إنّهم اليوم بيننا، خير مصداق لأداء الرسالة والحفاظ على الأمانة، وحسبهم في ذلك قائدهم، سماحة وليّ أمر المسلمين آية الله العظمى الإمام الخامنئي دام ظله، والذي اعتقل أكثر من مرة في السنوات التي سبقت انتصار الثورة الإسلامية المباركة، ومورست بحقه أبشع أنواع التعذيب، وتعرض لشتى ألوان الاضطهاد والإهانات وسائر المصاعب في سجون النظام الملكي آنذاك، والتي يُعبِّر عنها الشهيد رجائي بأنّ السجين فيها مصداق للآية الكريمة: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ (الأعلى: 13) لشدّة ما لقيَه. لكنّ سماحته بقي كالطود الشامخ الصلب، المحتسب لأجره، والراضي بقضاء ربّه.
وهو الجريح أيضاً، إثر اصابته في محاولة الاغتيال الفاشلة عام 1981، والتي لم تزل تظهر آثارها حتى اليوم على يده اليمنى. وقد أرسل الإمام الخميني الراحل قدس سره إليه كلمات يقول له فيها: «إننا نفتخر عند ساحة الباري تعالى ووليه بالحقّ بقية الله عجل الله تعالى فرجه الشريف بجنود لنا في الجبهة وخلفها، يقضون الليل في محراب العبادة والنهار بالجهاد في سبيل الله... إنني أهنئك أيها الخامنئي العزيز على خدمتك لهذا الشعب المظلوم في جبهات الحرب بملابس القتال، وخلف الجبهة بالزي العلمائي، وأسأل الله أن يعطيك السلامة لتمضي في خدمة الإسلام والمسلمين».
* روحي لك الفداء
وجاء جواب سماحة الإمام الخامنئي دام ظله على رسالة الإمامقدس سره بكلمات تختزن الكثير من الصدق والجد والاجتهاد في طاعة الله؛ إذ يقول: «سيدي ومقتداي سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني روحي لك الفداء، سلام الله وسلام عباده الصالحين عليك، لقد علمتنا أيها الإمام أن نعز الإسلام ونفديه بمهجنا حتى يتحقق ويُثمر، وتثمر معه شجرة النبي وآله الأطهار عليهم السلام، وحتى يختلط زلال الكوثر بدماء الشهداء والصديقين، فلا نبالي بالمصائب والويلات في هذا السبيل، وكل ما نخشاه أن نحرم فلا نوفق للحياة الأبدية ونعيمها الأزلي... وأنا الذي أعتبر نفسي جندياً بسيطاً من جند الله، بل وقطرة في بحر حزب الله الهائج، مستعد لأقارع الأعداء والمنافقين إلى آخر قطرة من دمي وسأعمل من ﴿إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162) شعاراً، بل أنشودة أنشدها في كل يوم، بل وفي كلّ لحظة».
لَكَم هي عظيمة هذه الكلمات! لقد أدركها حقّاً أمراء النصر، فارتسمت على وجوههم ملامحها، وأدركوا بعقولهم معانيها وانحفرت في قلوبهم مضامينها فكانوا خير المصداق لقوله تعالى: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ﴾ (الأحزاب: 23).
(1) من مناجاة العارفين للإمام زين العابدين عليه السلام.