السيّد عبّاس عليّ الموسويّ
كثيرة هي أسباب غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف حتّى الآن، وقد ذكرنا اثنين منها في العدد الماضي: الاختبار والتثبيت، والخوف من القتل. نطل ّفي هذا المقال على مزيد من هذه الأسباب.
* لئلّا يكون في عنقه بيعة لطاغية
يتمثّل السبب الثالث لغيبة مولانا عجل الله تعالى فرجه الشريف في أن لا يكون لطاغية بيعة في عنقه. وهذا الأمر صرّحت به الأحاديث على ألسنة المعصوم، ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: “يقوم القائم وليس لأحد في عنقه عقد ولا عهد ولا بيعة”(1). وكذلك ورد في التوقيع الصادر عن حجّة الله عجل الله تعالى فرجه الشريف كما ينقل ذلك إسحاق بن يعقوب: “وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي"(2). وعن عليّ بن الحسن بن فضال عن أبيه عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال: "كأنّي بالشيعة عند فقدانهم الثالث من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه. قلت له: ولم ذلك يا بن رسول الله؟ قال عليه السلام: لأنّ إمامهم يغيب عنهم. فقلت: ولم؟ قال: لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف"(3).
* لا يؤخذ منه بيعة
إنّ فلسفة هذا المعنى وعمقه يرجعان إلى أنّ البيعة عهد، وإن كانت بالقهر والغلبة، وحتّى لو لم تكن شرعيّة للاضطرار والإكراه، فإنّها بنظر الناس قد طوّقت عنق من أعطاها، وكان عليه الوفاء بها، وهذا الأمر يتنافى مع مهمّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الذي لو كان حيّاً لم يُترك حتّى يؤخذ منه البيعة. فلو خرج والحال كذلك، كانت نقطة ضعف في نظر الناس، فالإمام يخرج ودعوته كعين الشمس، يمتلك الحجّة البيانيّة كما يمتلك الحجّة الماديّة، فالحقّ والسيف معه، ووضوح الحقّ وظهوره أظهر من أن يخفى على أحد من الخلق؛ فلذا اختفى حتّى لا يكون لأحد من الطواغيت في عنقه عقد أو عهد أو بيعة، فيكون متحرّراً من كلّ الالتزامات التي تقيّده وتشلّ حركته، أو تشكّل أدنى الحواجز أمامه أو المعوّقات له. وهذا أمر يمكن أن يُعدّ من جملة الأسباب التي كانت وراء غيبته، وقد ورد عن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف نفسه هذا المعنى في التوقيع المرويّ عن إسحاق بن يعقوب حيث ورد فيه: "وأمّا علّة ما وقع من الغيبة، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ (المائدة: 101). إنّه لم يكن لأحد من آبائي إلّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي"(4).
* لتتغيّر الأجيال
من دواعي الغيبة أيضاً، أنّ المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف يخرج ليطهّر الأرض من الظالمين. وهؤلاء الظالمون يحملون في أصلابهم أناساً مؤمنين، فحفظاً لهؤلاء المؤمنين المتواجدين في أصلاب الكافرين وإلى أن تعقّم الأرحام والأصلاب عن قتل هؤلاء، يكون الظهور، وهذا منطق قرآنيّ أوضحه نوح عليه السلام مضمونه في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ (نوح: 26-27).
نوح عليه السلام يشرح واقع أمر هؤلاء الكفّار بأنّهم لا يلدون إلّا الفجّار الكفّار، يعني عقّمت أصلابهم وأرحام نسائهم عن كلّ مؤمن طاهر، وهم أصبحوا جراثيم مفسدة للحياة، فلذا، استحقّوا العقاب. والإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف مثله مثل نوح عليه السلام، وغيبته تكون حتّى تعقّم الأرحام والأصلاب، ففي الحديث عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "القائم لم يظهر أبداً حتّى يخرج ودائع الله عزَّ وجلَّ، فإذا خرجت ظهر على من ظهر من أعداء الله عزّ وجلّ فقتلهم"(5).
وفي حديث آخر يقول إبراهيم الكرخي: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام، أو قال له رجل: "أصلحك الله، ألم يكن عليّ قويّاً في دين الله عزّ وجلّ؟ قال: بلى. قال: فكيف ظهر عليه القوم؟ وكيف لم يدفعهم؟ وما يمنعه من ذلك؟ قال: آية في كتاب الله عزّ وجلّ منعته، قال: قلت: وأيّ آية؟ قال: قوله تعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (الفتح: 25) إنّه كان لله عزّ وجلّ ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين، فلم يكن عليّ عليه السلام ليقتل الآباء حتّى يُخرج الودائع، فلمّا خرجت الودائع ظهر عليّ على من ظهر فقاتله، وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتّى تظهر ودائع الله عزَّ وجلَّ، فإذا ظهرت ظهر على من يظهر فقتله"(6).
* لإقامة الحكومة الإلهيّة
هذه بعض الوجوه التي تناولتها الأحاديث في أسباب غيبة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهي وجوه وجيهة. وإن كانت الغيبة خوفاً من القتل، أوجهها وأقربها، فإنّه سبحانه وتعالى ادّخر الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف لإقامة الحكومة الإلهيّة العالميّة، فكان عليه أن يحفظ حياته حتّى حين الظهور، فيخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.
(*) مقتطف من كتاب "الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عدالة السماء"، ص 78- 80.
(1) الغيبة، الشيخ الطوسي، ص 61.
(2) الغيبة، النعماني، ص 46.
(3) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 52، ص 92.
(4) كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ص 485.
(5) المصدر نفسه، ص 641.
(6) علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 147.