الشيخ د. أكرم بركات
أولى الإسلام عنايةً خاصّةً بالمساكين، وأوصى بهم حقّ وصيّة، وهو ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ (النساء: 36).
* معنى المسكين
في اللغة تعبيران متقاربان في المعنى، هما الفقير والمسكين، وقد اختلف العلماء أيٌّ من الفقير والمسكين هو أسوأ حالاً من الآخر، فقيل: الفقير هو أسوأ حالاً من المسكين؛ لأنّ المسكين يكون «عنده شيء، لكن لا يكفيه لحاجته ومؤونته، بينما الفقير لا شيء له، أو معه شيءٌ يسيرٌ لا يعتدّ به»(1).
* توجيهات الإسلام تجاه المساكين
ورد العديد من التوجيهات الإسلاميّة تجاه المساكين، نعرض منها:
1 . الرحمة بهم: ورد أنّ كليم الله موسى عليه السلام قال لله تعالى: «إلهي أريد رحمتك، فقال تعالى: رحمتي لمن رحم المساكين في ليلة القدر»(2).
إنَّ الرحمة تعني رقَّة القلب بسبب نقص يراه الراحم في المرحوم، وعليه، فإنّ الحديث يدعو إلى التعامل مع المساكين بقلبٍ رقيقٍ ليس فيه شعور بالاستعلاء نحوهم.
2 . التحبّب إليهم: تميَّزت وصايا الإسلام تُجاه المساكين بقيمةٍ إنسانيّةٍ تعلو على الرحمة، ألا وهي الحبّ. فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ”القربة إلى الله حبّ المساكين والدنوّ منهم“(3). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “”يا عليّ، إنّ الله زيّنك بزينة لم يزيّن العباد بزينة أحبّ إلى الله منها، زيّنك بالزهد في الدنيا.. ووهب لك حبّ المساكين...“(4). كما أوصى الإمام عليّ عليه السلام ولده الإمام الحسن عليه السلام: “إنّي أوصيك يا حسن، وكفى بك وصيّاً بما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... وحبّ المساكين...“(5).
* رسائل إنسانيّة راقية
والمتأمِّل في معنى الحبّ، يدرك الرقيَّ في هذه الأحاديث؛ فقد تقدَّم أنّ الرحمة هي رقَّة القلب بسبب نقص يراه الراحم في المرحوم، أمّا الحبّ، فهو انجذاب القلب بسبب كمال يراه المُحبّ في المحبوب؛ فالراحم ينطلق من النظرة إلى النقص، والمحبّ ينطلق من النظرة إلى الكمال، وفي هذا رسائل إنسانيّة راقية منها:
الأولى: أن لا ينظر الإنسان إلى جوانب النقص في المسكين، بل ينظر إلى كمالاته لينجذب إليه من خلالها.
الثانية: وهي تمثِّل تصاعداً في النظرة إلى الفقر، الذي يعدّ في سلّم الكمالات بلحاظ التعويض الإلهيّ عليه في الآخرة.
الثالثة: أن تكون النظرة إلى الإنسان بصفته إنساناً بغضّ النظر عمّا يعتريه من أحوال عرضيّة كالفقر والغنى. ولتوضيح هذه الفكرة، أعرض القصّة الآتية: ذكر أحد الخطباء قصّة رجلٍ مؤمنٍ يدعى صالحاً، كان يعيش حالة فقر في حياته، وكان كثير التفكُّر في أحوال الأغنياء، وموقفهم من الفقراء، متسائلاً لماذا لا يبذلون أموالهم في سبيل رفع الفقر عن المجتمع؟ وكان تفكيره يطال أيضاً المؤمنين الذين يمتثلون أمر الله في دفع الحقوق الشرعيّة عليهم، ويتصدّقون على الفقراء ببعض أموالهم، فيتساءل في نفسه: لماذا لا يوزِّعون جميع أموالهم للفقراء، ويُبقون منها مقدار حاجاتهم فقط؟ داعياً ربَّه أن يجعله غنيّاً ليقدم على هذه الخطوة.
نام صالحٌ وهو يفكّر في هذا الأمر. وفي اليوم التالي، استيقظ فوجد أمامه مقداراً كبيراً من المال، فحمد الله تعالى على استجابته دعوته، وحمل المال في حقيبته، وذهب ليوزّعه على الفقراء، وفيما هو ذاهب، فكَّر بينه وبين نفسه:”لو وزّعتُ هذا المال على الفقراء، فإنّهم سيفرحون أيّاماً، ثمّ يرجعون إلى حالتهم السابقة، أليس الأولى أنْ أستثمر المال في مشروعٍ تجاريٍّ أخمِّس ربحه، وأتصدّق منه على الفقراء، وهذا ما يفيد في استمراريّة العطاء؟!“.
بعدما روى الخطيب هذه القصّة الخياليّة، سأل الناس: أيّهما المحقّ منهما؟ صالحٌ الذي نام، أم صالحٌ الذي استيقظ؟ فأجاب قسمٌ من الناس أنّ المحقّ هو صالحٌ الذي نام، وهو يفكِّر في الفقراء ليدفع فقرهم، وأجاب آخرون أنّ المحقّ هو صالحٌ الذي استيقظ؛ لأنّه عاش الواقعيّة في تفكيره. هنا علّق الخطيب: إنّ صالحاً الذي نام هو صالحٌ ناقص ذلك المال. وإنّ صالحاً الذي استيقظ هو صالحٌ زائد ذلك المال. أمّا صالح الـ”الصحيح“ فهو نفسه وذاته دون زيادة مال ولا ناقصه.
3- مجاورة المساكين: من وصايا لقمان لولده: “يا بنيّ، جاور المساكين“(6). وفي وصيّة الإمام عليّ عليه السلام لولده الإمام الحسن عليه السلام: “... يا بنيّ، جاور المساكين”(7). فإنَّ الدعوة لمجاورة المساكين لها فوائد عديدة، منها:
أ . مكانيّة الاطّلاع على أحوالهم، بالتالي، مساعدتهم.
ب . الاعتبار بحالهم، لزيادة شكر الله تعالى على ما أنعم.
ج . عدم الفرز السكانيّ على أساس الطبقيّة الماليّة؛ فلا يصير للأغنياء أحياء، وللفقراء أحياء أخرى، كما هو الحال في العديد من مدن العالم وقراه.
4- مجالسة المساكين: في وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ الغفّاريّ: “صل قرابتك وإن قطعوك، وأَحِبَّ المساكين، وأكثر مجالستهم”(8).
5- زيارتهم أحياءً والصلاة عليهم أمواتاً: من وصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ: “جالس المساكين وعُدهم إذا مرضوا، وصلِّ عليهم إذا ماتوا، واجعل ذلك مخلصاً”(9).
6- معونة المساكين: قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ (الماعون: 4-6). حكم الله تعالى في هذه الآية بالويل للذين يمنعون الماعون. وقد ورد تفسير الماعون في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال فيها: “هو القرض تقرضه، والمعروف تصنعه، ومتاع البيت تعيره، ومنه الزكاة”(10).
إنّ من أهمّ المسؤوليّات الملقاة على الجميع تجاه المسكين هو مساعدته، ومعونته في حاجاته، وهذا يتحقّق من خلال تأمين عمل له، أو إقراضه ليتمكّن من تأمين رزقه من خلال التجارة ونحوها، وتأمين حاجاته، ولا سيَّما الطعام، الذي ورد فيه حثٌّ كبيرٌ في القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة. قال تعالى مستنكراً: ﴿وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ (الفجر: 18). واللافت هو استعمال القرآن الكريم لمفردة الحضّ الذي يعني الحثّ؛ ممّا يدلّ على أنّ المطلوب ليس الإطعام فقط؛ بل الحثّ عليه؛ أي التعاون مع الآخرين من أجل تأمين الطعام، فالتكليف لا يتعلَّق بفعل الإنسان وحده؛ بل بتفاعله الاجتماعيّ مع الآخرين من أجل تأمين قوت المساكين.
* إطعام المسكين في الأحكام
كما يظهر الاهتمام الكبير في الشرع الإسلاميّ في إطعام المساكين من خلال الأحكام الشرعيّة التي تصبُّ في مصلحة هذا الإطعام، نذكر منها:
1 - الإطعام الواجب: ويندرج تحت هذا العنوان عناوين عدّة، وهي:
أ. حنث اليمين: قال تعالى: ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ (المائدة: 89).
ب. حنث النذر: إذ يكفي في كفّارته إطعام عشرة مساكين(11).
ج. حنث العهد: ويكفي في كفّارته إطعام ستّين مسكيناً على تفصيل مذكور في محلّه.
د. كفارات متعلّقة بالحجّ: إنّ عنوان إطعام المساكين بارز في هذه الكفّارات.
هـ . كفارة الإفطار: الإطعام عنوان لتأدية كفارة الإفطار العمد، وتأخير القضاء، وفدية المريض العاجز عن الصيام الواجب.
2- الإطعام المستحبّ: ويشمل العناوين الآتية:
أ. إطعام الطعام بنفسه: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “من موجبات مغفرة الربّ إطعام الطعام”(12).
ب. الإطعام بعد بناء المنزل: عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “من بنى منزلاً، فليذبح كبشاً، وليُطعم لحمه المساكين، وليقل: (اللهمّ ادّخر عنّي وعن أهلي وولدي مردة الجنّ والشياطين، وبارك لي فيه بنزولي)، فإنّه يُعطى ما سأل إن شاء الله”(13).
ج. الإطعام بديلاً عن الصوم: ورد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سُئل عمّا يفعله العاجز عن صيام رجب، فأجاب: “تصدّق عن كلّ يوم برغيف عن المساكين”(14).
ويضاف إلى هذه الأمور ما يتعلّق بدفع الأموال للمساكين، بغضّ النظر عن كونه إطعاماً، ومن باب المثال نذكر: الخمس والزكاة ورد المظالم. كلّها عناوين لاحظت حاجة المسكين.
(1) الخلاف، الطوسيّ، ج 4، ص 229.
(2) إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 1، ص 345.
(3) مكارم الأخلاق، الطبرسيّ، ص 149.
(4) الأماني، الطوسيّ، ص 181.
(5) الأماني، المفيد، ص 221.
(6) الاختصاص، المفيد، ص 337.
(7) المصدر نفسه.
(8) الأمالي، مصدر سابق، ص 541.
(9) الدعوات، الراوندي، ص224.
(10) جوامع الجامع، الطبرسيّ، ج 3، ص 852.
(11) طبقاً لفتوى الإمام الخامنئيّ دام ظله.
(12) هداية الأمّة إلى أحكام الأئمّة، الحرّ العامليّ، ج 8، ص 49.
(13) مكارم الأخلاق، الطبرسيّ، ص 127.
(14) إقبال الأعمال، مصدر سابق، ص 284.