هلا ضاهر
قرية مارون الراس/ المجاهد الأول: على إثر طلب الإخوة القادة، خرجتُ من قرية مارون الرأس وبرفقتي مجاهدٌ واحد. الأمر كان واضحاً: “لا عمل لكم مع مشاة العدوّ، انسحِبوا”. ركبنا ستار الليل واحتمينا خلف الصخور، وطائرة الـ MK تلاحقنا، وسؤالٌ حارٌّ: ”“سيدخلون الضيعة، من يحميها غيرنا؟!”“.
بعد يومين طُلب منّا الرصد في القريّة. لم نجد فرداً من الصهاينة المشاة، ثمّة أشلاء وبقايا وآثار معركة شرسة خرج منها العدوّ مهزوماً. لم أعرف إلى الآن من هؤلاء الذين أخذوا الحمل عنّا، مكانهم خالٍ إلّا من علب عصير زجاجيّة لم يشربها أصحابها تحت شجرة باسقة ورصاصات فارغة. لم أعرفهم إلى الآن...
* غابة مارون/ مجاهد آخر
داخل نفير “أبو الفضل” في غابة مارون الرأس، كنتُ مع ثلاثة من الإخوة المجاهدين، وكانت قد مضت أيّام عدّة على عمليّة الأسر البطوليّة في 12 تموز. لم نتمكّن من التجوّل خارجاً بسبب طائرات الـ mk التي لم تغادر السماء. تلقّيتُ اتّصالاً عبر الجهاز من قائد المجموعة: “بلال... بلال...”، ثمّ استخدم شيفرة متّفقًا عليها، وأوكل إلينا مهمّة.
* تعطيل الكاميرا
طُلب منّا تعطيل كاميرا مراقبة معادية في “جلّ الدير”. علمت منه أنّ حسناً بانتظاري عند نقطة المربض، وكلّ ما عليّ فعله اللّحاق به لمساعدته في تنفيذ العمليّة. توجّهتُ إليه بكلّ طمأنينة، وحتّى الآن لا أدري كيف استطعتُ المرور تحت مرأى طائرة الاستطلاع!
ما إن وصلتُ إلى المكان حتّى تعاونتُ وحسن على حمل المدفع، واقتربنا به إلى الأمام. وبعد الانتهاء من تحديد نقطة الاستهداف بدقّة وتثبيت المدفع في الزاوية المناسبة، جهّزنا ستّ قذائف، ثمّ رميناها الواحدة تلو الأخرى. نجحنا في تعطيل الكاميرا. كنّا ننفّذ المهمّة تلو المهمّة ونعود إلى النفير حمايةً لأنفسنا؛ إنّه كرّ وفرّ.
* تعاون ومشاركة
علمنا أنّ مجموعة صغيرة من المجاهدين تعرّضت لسبع غارات متتالية بعدما تصدّت لآليّات العدوّ التي حاولت التقدّم برّاً، وكان على أفرادها ترك البقعة المحروقة والانكفاء إلى مكان آخر. كنت أعرف المنطقة جيّداً، أرشدتهم عبر الجهاز إلى أقرب نقطة، وبعد أقلّ من نصف ساعة وجدتهم هناك واصطحبتهم إلى النفير. بعضهم لم يستطع سحب جعبته فتركها عند المربض، لأنّه لو اقترب قيد أنملة لاستشهد على الفور. تقاسمنا الماء والطعام معهم، طعامنا كان بعض المعلّبات وخبزاً محمّصاً.
اتّفقنا كمجموعة أن نحرس مدخل النفير بالتناوب. أعددتُ لهم إبريق شاي قائلاً: “لا يوجد سوى ثلاثة أكواب، لذا، سوف نشرب الشاي تِباعاً”. وكنّا بانتظار دخول العدوّ بريّاً.
* يا وجيهاً عند الله
في ليلة الأربعاء، وكعادتنا بعد صلاتَي المغرب والعشاء، تحلّقنا لنقرأ دعاء التوسّل. كنّا نصغي إلى أصوات بعضنا بعضاً بخشوعٍ ونبكي، فالجبهة مكان صادق تتنزّل فيه السكينة، وتقرب المسافة من المعبود. وصلنا إلى المقطع الأخير، نهضنا جميعنا عفويّاً وتابعنا: “يا وصيّ الحسن والخلف الحجّة، أيّها القائم المنتظر المهديّ، يا بن رسول الله، يا حجّة الله على خلقه، يا سيّدنا ومولانا إنّا توجّهنا واستشفعنا وتوسّلنا بك إلى الله وقدّمناك بين يدَي حاجاتنا، يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله”. إنّه شعور مختلف أن ننادي صاحب الزمان ونحن في الثغور!
* أصوات فجائيّة
في تمام الساعة الثالثة فجراً من تلك الليلة كانت مناوبتي. فتحتُ باب النفير ورحت أتأمّل الظلام الذي يخيّم على الوديان. بقيتُ على تلك الحال حتّى بزغ الفجر، فأدّيتُ صلاة الصبح داخل النفير. عند نحو الساعة العاشرة، سمعتُ صوت ارتطام حادّ في الخارج أعقبه أصوات متتالية شبيهة بصوت الخطّاف، تبيّن أنّها قنابل عنقوديّة استقرّت على مقربةٍ من مكاننا بين الصخور والأشجار. بعد عشر دقائق، سمعتُ صوت انفجارَين متتاليين. رافقتُ حسناً إلى الخارج لمعرفة ما يحدث، فوجدنا الدخان الكثيف يغطّي الأجواء حاجباً الرؤية. وبينما استدرتُ عائداً، وجدت باب النفير الحديديّ قد أصيب بالشظايا وواحدة قد استقرت في ذراعي.
* حركة مريبة
تسمّرتُ في مكاني. ثمّة شيء مريب استوقفني. تقدّمتُ بخطوات إضافيّة إلى الأمام فتأكّدت شكوكي، حين سمعتُ كلاماً بالعبريّة. كان الصهاينة يحيطون بالمكان. لقد اختلفت الظروف، إذ بتنا أمام مواجهة حتميّة وجهاً لوجه، من مسافة متر واحد وحتّى ربع متر، وأحياناً من مسافة صفر.
كنّا نتوقّع وصول آليّات العدوّ، وإذ بقوّات مشاة تتقدّم، ما يعني اختلاف طريقة المواجهة. عدتُ إلى الداخل. كان ممرّ النفير مليئاً بعبوات الماء والجعب والحقائب، فنقلتها كلّها إلى الغرفة الصغيرة استعداداً للمواجهة القادمة. وبطبيعة الحال، سيكون مجال مرورنا ضيقاً لصيقاً بالمدخل، ولا يفصلنا عن مشاة العدوّ سوى الباب الحديديّ. جمعتُ الإخوة وقلت لهم: “لا تُحْدثوا ضجيجاً. الإسرائيليّون في الخارج”. ارتدينا الدروع واعتمرنا الخوذات، وكلّ منّا معه مخزن رصاص في سلاحه ومخازن عدّة في الجعبة. تقدّمتُ الإخوة بحذر، ورحنا نخطو ببطء شديد. بعد لحظات عدّة، رأيتُ جنديّاً إسرائيليّاً في الزاوية المقابلة لجهة اليمين، وعدداً كبيراً من رفاقه تحت الأشجار. عرفت أنّها الفرقة المنشودة! شددتُ ذراعي الجريحة، فقد حان وقت النزال.
* «نحن استشهاديّون»
بنداء “يا صاحب الزمان” بدأنا إطلاق النار، ورميتُ قنابل عدّة. سمعنا صراخ الجنود وعويلهم. وسرعان ما تصاعدت استغاثتهم بعد المباغتة التي تعرّضوا لها، فلم يعرفوا من أين أتينا وما يحصل حولهم.
بعد ساعة من المواجهات بدأت الذخيرة تنفد ولم يبقَ معنا سوى مخزن رصاص واحد، واحتفظتُ بآخر قنبلتين، فقلت للإخوة: “سوف نتابع المواجهة بنداء يا أبا عبد الله. نحن استشهاديّون ولن نتراجع!”. ما إن أعادوا النداء خلفي: “يا أبا عبد الله” حتّى أجهزنا على المجموعة بما تبقّى معنا من رصاص.
لم تكد شمس الصباح ترتفع في السماء حتّى كانت ساحة المعركة قد خلت من جنود العدوّ، ولم يتبقَّ إلّا أكوام الجثث خلّفوها وراءهم بعدما انسحبوا متجرّعين مرارة الذلّ. لقد رأيناهم كيف كانوا يركضون الواحد تلو الآخر وهم يلوذون بالفرار بكلّ عتادهم، فيما نحن صمدنا رغم شحّ العتاد متمسّكين بآخر رصاصة.
* استراحة محارب
عدنا إلى النفير وأخذنا استراحة محارب. فجأةً، سمعتُ صوتاً في الخارج. عدتُ لأستطلع الأمر، فتحت الباب الحديدي قليلاً لأجد نفسي أمام جنديّ من الأعداء، كان جانبه الأيمن نحوي، متخذاً وضعيّة قتال. بدون أيّ تردّد، رميته فوراً بطلقات في رأسه، فهوى إلى الصخرة ونزف دمه فوقها. لحظات وفتحتُ الباب وشاهدت جندياً آخر يستطلع حال زميله، عاجلته برصاصة حاسمة، فسقط بجانبه.
عندما لم أرَ أحداً لفترة، تواصلتُ مع القيادة، عرفنا أنّ اجتياحهم الأوّل باء بالفشل، فطُلب منّا الانسحاب، فقد حان دور الصواريخ لتحرق آلياتهم التي في طريقها لدخول مارون. انتهزنا الوقت الميّت، وهو ما يُعرف بلغة العسكر بوقت غروب الشمس، ثمّ انحدرنا نزولاً سالكين دروب الوادي.
بعد نحو ساعة، وصلنا إلى حقل زيتون في عيترون، استلقينا تحت ظلال الأشجار والتعب قد نال منّا، إلى أن شاهدنا صواريخ المقاومة تنقضّ عالياً عليهم، وتحسم المعركة وتحرق الأرض تحت آليات العدوّ.
تنفّسنا الصعداء وحمدنا الله على نجاح المهمّة. لم نكن وحدنا في المعركة، فثمّة إخوة آخرون في نقاط مثل نفيرنا، ونحن لم يعلم بنا غير الله، وقادتنا الذين أداروا المعركة ببصيرة.