تحقيق: نقاء شيت
قرية جنوبيّة تقع على الحدود مع فلسطين المحتلة، لا
يفصلها عنها سوى مترين وشريط شائك "كفركلا" الجنوبيّة، القرية التي أولدت شهداءَ،
وغاص أهلها في حبّ أهل البيت عليهم السلام، ولا سيّما إحياء ذكرى عاشوراء منذ ما
قبل الاحتلال حتى الآن، حتى أطلق أهل البلدة عليها لقب "مدينة الحسين عليه السلام".
فلماذا باتت مدينةً للحسين عليه السلام اليوم؟
عزيزي القارئ ستكون معنا في جولة قصيرة في ليالي عاشوراء.. هناك.
* تاريخ الإحياء في "كفركلا"
يتحدّث إمام بلدة "كفركلا" السيّد عبّاس فضل الله لمجلة "بقيّة الله" عن تاريخ
الإحياءات العاشورائيّة، ويذكر أنّها بدأت منذ ما يقارب الثمانين عاماً، وتطوّرت
الإحياءات في فترة الخمسينيّات من القرن الماضي. يذكر السيّد عبّاس أنّ الإحياءات
كانت قائمة أيّام الاحتلال الإسرائيليّ؛ لأنّ العدو لم يستطع منع الناس منها، وقد
اصطدم باندفاعهم الكبير إلى هذه المجالس، التي لم تكن مسموحةً بطبيعة الحال.
اعتادت البلدة منذ عام 1975م إقامة مجلس عزاء حسينيّ خاصّ بالنساء، في منزل إمام
البلدة، الذي كان وقتها جدّ السيّد عبّاس، السيّد محمد حسين فضل الله، مضافاً إلى
مجالس متفرّقة في المساجد والمنازل.
يقول السيّد عبّاس: "في السابق، كان توافد النساء إلى المجالس قليلاً؛ بسبب عدم
استحسان فكرة خروج المرأة من المنزل. أمّا اليوم، فنرى أنّ أعداد النساء تفوق أعداد
الرجال في المجالس النهاريّة؛ لانشغال الرجال بأعمالهم ووظائفهم".
* "كفركلا" تلبس الأسود حداداً
مع هلال محرم، تتّشح البلدة بالسواد. يخبرنا الحاج حسين خليل (متحدّث باسم لجنة
عاشوراء في البلدة) أنّه يتمّ تعليق حوالي 400 راية حسينيّة، و350 جداريّة، مضافاً
إلى 500 يافطة، فيما يتوسّط مجسّم لمقام السيّدة زينب عليها السلام "دوار المسيل"
وسط البلدة، ويطلّ مجسّمٌ لمقام الإمام الحسين عليه السلام من "بوابة فاطمة" على
الحدود مع فلسطين المحتلّة، وراية "الحسين" ترفرف على "تلّة الشخروب"؛ أعلى نقطة في
البلدة.
يقدّم أهالي القرية وأصحاب المؤسسات والمعامل هذه النفقات، مضافاً إلى دعم البلدية
عبر صندوق تبرّعات يخصّص لهذه المناسبة الخاصّة، لتكون "كفركلا" نقطة حدوديّة
تستلهم من الحسين عليه السلام الصمود في عصرنا.
* التلبية في مجالس عاشورائيّة
تبدأ المجالس، في "كفركلا"، يوميّاً منذ الساعة التاسعة صباحاً، وتنتهي الساعة 9
ليلاً، بمعدّل مجلس إلى مجلسين في الساعة الواحدة، أي من 12 مجلساً إلى 24 مجلساً
يوميّاً، بشكل متفرّق: في مقام الخضر عليه السلام، وفي قاعة سيّد الشهداء عليه
السلام، والحسينيّات. أمّا بعد صلاة المغرب والعشاء فيتوجّه أهالي القرية إلى مجلس
مركزيّ موحَّد لحزب الله وحركة أمل منذ العام 2002م، في قاعة سيد الشهداء عليه
السلام، ومجالس للفتية والفتيات تقيمها كشافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه
الشريف. ويشارك في المجلس المركزيّ حوالي 1500 مواسٍ، وفي مجالس الهيئات النسائيّة
حوالي 300 إلى 400 مواسية، أمّا المجالس المنزليّة النسائيّة المتفرّقة فتتفاوت
فيها نسب الحضور من 50 إلى 150 مواسية.
* الإحياء مستمرّ ومتنوّع
أمّا يوم التاسع، فيتأهّب الأهالي للسير في مسيرة عاشورائيّة من نوع خاصّ تُسمّى "مسيرة
التهيئة"، التي استمرّت رغم الاحتلال الإسرائيليّ. وهي مستوحاة من مسيرة الأربعين
للمشّاية بين النجف وكربلاء. تُقام الآن لمدّة ساعتين، يجوب خلالها المُلَبّون كامل
البلدة، فيما يوحّدهم اللباس الأسود وترتفع شعارات العزاء الحسينيّة، وتقسّم
المسيرة إلى مجموعات، تتقدمها فرسان الخيول بلباسٍ قديم، يرمز لمرحلة واقعة الطفّ،
فيما ترتفع الشعارات الحسينيّة ومجسّمات مختلفة، صنعتها أيادي عناصر كشافة الإمام
المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فيما ترتفع الأيادي على الصدور في إيقاع حسينيّ
في مواكب لطم مختلفة، ويصل عدد المشاركين إلى 3000 مواسٍ.
يضيف السيّد عباس: "إنّ كفركلا من القرى التي تهتمّ بتجسيد واقعة الطفّ في العاشر
من محرّم، وحتى الأربعين، حيث تُعدّ مسرحيّة تجسّد سبي النساء وموقف السيّدة زينب
عليها السلام في قصر يزيد". وتستمرّ المواساة في إعداد مسرحيات عاشورائيّة متفرّقة
لأنصار الإمام الحسين عليه السلام (مسلم بن عقيل، حبيب بن مظاهر، هانئ بن عروة)،
ويتوافد لحضور هذه الأعمال الصغار والكبار النساء والرجال، حتّى من البلدات
المجاورة.
وللإطعام على حبّ الحسين عليه السلام خصوصيّة، فضلاً عن ثوابه وأجره، وأثره في
إنبات الحبّ والولاء في القلوب، فهو يمثّل حالة احتضان للمواسين الذين يشتغلون طيلة
النهار في إحياء السيرة الحسينيّة؛ لذلك يساهم الأهالي في إحياء شعيرة الإطعام على
حبّ الحسين عليه السلام. فهناك 400 عائلة تقريباً تستفيد من هذه الشعيرة في يوم
السابع مثلاً.
أمّا يوم العاشر من محرم وبعد قراءة المصرع الحسينيّ وانتهاء مسرحيّة واقعة الطفّ،
فتقوم بعض العائلات بفرش الموائد على الطرقات حبّاً بالحسين وخدمة للمعزّين.
* لجنة عاشوراء: تاريخها ونشاطاتها
للحديث عن لجنة عاشوراء والتعرّف إليها وإلى أبرز مهامها، قال المتحدّث باسمها،
الحاج حسين خليل: "إنّ العمل على إنشاء اللجنة بدأ بعد التحرير من عموم أهالي
القرية. ومن أهمّ وأبرز نشاطات اللّجنة العمل على جمع التبرّعات لإحياء المجالس
العاشورائيّة، وتمويل التمثيليّات التي تُقام ضمن شهرَي محرّم وصفر، ولا سيّما
واقعة الطفّ والأربعين". ويذكر الحاج حسين، أنّ التمثيليّات العاشورائيّة تكون على
مستوى عالٍ من الإتقان، ويرافق العمل التمثيليّ تغطية إعلاميّة كبيرة.
يكمل الحاج حسين حديثه ليشير إلى أنّ مسيرةً تتخطّى الـ30 سيارة، تنطلق نهار التاسع
من محرّم، وتجوب كل مناطق الجنوب؛ لتدعو الناس إلى حضور تمثيليّة واقعة الطفّ صباح
العاشر من محرَّم، وكلّ عام تشهد "كفركلا" توافداً من القرى المجاورة لمشاهدة هذا
العمل. وهنا يضيف الحاج حسين: "في السنوات الأخيرة، وتحديداً بعد حرب سوريا، صار
يُعمد إلى جمع المقاومة بواقعة كربلاء في المشهد الأخير بعد مصرع الإمام الحسين
عليه السلام، وإلقاء القَسَم للسيّدة زينب عليها السلام ، وتجديد العهد بإكمال
المسيرة حتى الظهور المبارك للمولى صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف".
وبالنسبة للتعاون البشريّ، يؤكّد الحاج حسين التعاون الكبير من قِبل الدفاع المدنيّ،
فريق الإنقاذ (خاصّ بالبلديّة)، والهيئة الصحيّة الإسلاميّة والصليب الأحمر
اللبنانيّ، الذين يواكبون البلدة طيلة أيّام عاشوراء للمساعدة عند أيّ طارئ.
* عاشوراء راسخة في قلوب الكبار والصغار
"عرفنا الحسين عليه السلام أكثر خلال التمثيل"، هكذا قالها إبراهيم شيت (24 عاماً)
بشغف، مختصراً أثر تجربته ومشاركته في مسرحيّة "واقعة الطفّ". ويضيف: "إنّ حبّ
الحسين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام، هو ما دفعني إلى المشاركة، مضافاً إلى
ما تحمله هذه المشاركة من خدمة للبلدة". ويضيف: "الأمر ليس سهلاً، حتّى وإن كان
الدور عن أحد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، فعند التمثيل تشعر بالمسؤوليّة
الكبيرة التي أُلقيت على عاتقك أمام هذا الحشد الغفير من الناس". أمّا عن الأثر
الذي تتركه المشاركة فيه وفي زملائه فيقول: "أثناء التدريب يجري تبادل الحديث عن
شخصيّة الإمام عليه السلام وتظهر محاسنه جليّة، من تسامح وورع وعدم تعلّق بالدنيا،
مضافاً إلى ذوبانه في حبّ الله وطاعة أمره، فهو الذي ذهب إلى الموت دون تردّد
لتلبية أمر الله عزَّ وجلّ". يخبرنا إبراهيم أنّ هذه الخصال في الحسين عليه السلام
غيَّرت كثيراً في حياته ورفاقه، وشخصيّاتهم؛ إذ جعلتهم يعرفون جوهر الدين أكثر،
ويحرصون على تطبيق أحكامه.
من هنا نقول، إنّ "كفركلا" هي مثال واحد، عن كثير من القرى والبقاع التي تُحيي ذكرى
شهادة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، حيث تتعاون الجهات الرسميّة والأهالي
والمُحبّون يداً بيد.
وسيبقى الحسين عليه السلام مصباح هدى لا ينطفئ أبداً في قلوب شيعته؛ ليستنيروا
بنور إيمانه وعظيم عطاءاته.