لقاءٌ مع الجريح المجاهد حيدر وائل نون (أبو صالح)
حنان الموسويّ
وصلت الأنباء باحتمال قيام المسلّحين بهجومٍ على نقاطنا، رفعنا الجهوزيّة وانتظرنا. مرّ الليل دون أن تصلنا رسل التكفيريّين، فتابع كلّ منّا عمله بترقّبٍ وحذر. كان عليّ التجوال بين النقاط لتفقّد المجاهدين وملء الاستمارات الخاصّة. اجتزنا منطقة «البستان»، وفجأةً، صوتٌ صمّ أسماعنا، ورائحة دخان استولت على حواسنا!
* مهمّة أخيرة
انخرطت في صفوف التعبئة وخضعت لدورة عسكريّة عام 2012م مع بداية المعارك في سوريا، حيث كان الجوّ العامّ يدفع الشبّان للدفاع عن حرم السيّدة زينب عليها السلام، فقرّرت مع مجموعة من الإخوة الانخراط في العمل الجهاديّ، وقد خضعت لدورات عدّة، حتّى صرت مؤهلاً للعمل مع المجاهدين.
بعد معركة القصير، أولى مهامي كانت في «مطار الضبعة»، حيث تعرّضت لإصابة بسيطة، ثمّ تنقّلت بين جبهات عدّة في السلسلة الشرقيّة. كنت بديلاً لأحد الإخوة لأداء مهمّةٍ في عرسال. وصلت أوّلاً إلى بعلبك وبعدها إلى الحدود السوريّة. تطلّب عملي أن أحصي عدد المجاهدين وفرزهم، ثمّ نُقِلوا إلى مواقعهم، وبقيتُ مع المسعف ومسؤول الدفاع الجويّ حتى اليوم التالي في النقطة لعدم توفّر أماكن لنا في آليات النقل. حتى تأمّنت وسيلة نقل، اقتضت المهمة تفقّد أربعة مواقع آخرها «دبول».
* بين ألسنة النيران
عند وصولنا إلى موقع «البستان»، وهو الثالث، ترجّل مسؤول الدفاع الجويّ من السيّارة لتفقّد عناصره، وإذ بصاروخٍ داعشيّ موجّهٍ يستهدفنا، حرارته أذابت أركان السيّارة فأطبقت أجزاؤها عليّ وعلى المسعف. استغاثتي بالسيّدة الزهراء عليها السلام شدّت عزمي، فما بحوزتنا من أسلحة أخذ ينفجر لشدّة الحرارة، وتوجّب علينا الترجّل منها سريعاً. جسدانا المحترقان لم يساعدانا، كذلك الأبواب التي علقت نتيجة شدّة الانفجار، كما أنّ إصابة صديقي البليغة بقدميه لم تساعده على الحركة. أسدلت نفسي خارج النافذة كي أساعده غير آبهٍ بإصابتي، لكنّ بنيته الضخمة لم تسعفني لسحبه. شاهدت الرفاق يهرعون لنجدتنا، طلبت منهم مساعدة المسعف «حيدر» قبل أن أسقط مغشيّاً عليّ.
* عمليّات كثيرة
بدأ الإخوة بإجراء الإسعافات الأوليّة متّخذين من سيّارة الإسعاف ساتراً، ونقلوني صعوداً إلى الموقع الرابع رغم تعرّضهم للاستهداف. وضعوني تحت شجرةٍ وارفة الظلّ. استعدت رشدي حين سمعت صوت قريبي يخبرني أنّ «حيدر» مع المجاهدين في أمان، حينها فقط ارتاح قلبي، فرحت أتفقّد نفسي. حُروق جسدي ساعدتني في كيّ الجروح، ما أوقف النزف وحافظ على حياتي، لكنّ فرط الأوجاع أذهلني، ما دفع المسعف لِحَقْني بمسكنات قويّة.
وصلنا إلى مستشفى دار الحكمة في بعلبك لتزويدي بالدم. كان قريبي قد أخبر والديّ بإصابتي، وأكّد لهما أنّها طفيفة كي لا يقلقوا. فطلب والدي محادثتي وبادرني بأسئلة شخصيّة تثبت له أنّي لم أفقد ذاكرتي، فاطمأنّ باله ولحق ووالدتي بي إلى مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. عند وصولي، جهدت أن أسند نفسي كي لا يضطرب والديّ، واستقبلتهما ضاحكاً معصوب العينين كي لا تتأذّيا أكثر. في اليوم التالي، نُقِلت إلى مستشفى آخر حيث مكثت شهرين، خضعت خلالهما لثلاثين عمليّة جراحيّة: تنظيف جروح اليد، ترميم الجلد، إعادة تأهيل الرباط الصليبيّ وزرع عضل. طوال هذه الفترة فقدت إحساسي بيدي، وعانيت من خلعٍ في الكتف اليسرى، بالإضافة إلى تضرّر الأذن اليسرى، ووجود جروحٍ حادّة في الرقبة.
* عناية مثمرة
أبي كان أكبر داعمٍ لي في هذه المرحلة المهمّة، فلازمني طوال فترة العلاج. أمّا والدتي، التي كانت تتعثّر بحزنها لشهادة ابن اختها، فتجلّى وجعها بصمتٍ وصبر دون أن تُظهر لي ذلك، بل صمدت أمامي بجسارةٍ زينبيّة رغم جوّ الفقد والأسى الذي عشناه جميعاً لرحيل الشهيد.
استعدت القدرة على السير عبر «الووكر» بعد شهرين من عودتي إلى منزلي، حيث كان لمؤسّسة الجرحى اليد الطولى في إعادة تأهيلي. بدأت العلاج الفيزيائيّ في المنزل، بالإضافة إلى تخصيص ممّرض كان يعتني بجراحي بكلِّ محبّة وإتقان وإخلاص، وتابع علاجي لسنوات. زاولت عملي بشكلٍ جزئيٍّ بعد أشهرٍ معدودة من الإصابة. تابعني مسؤولي بشكلٍ حثيث، وقد ساندني وقوفه إلى جانبي، فلم يهمل مراعاتي مطلقاً، ولكنّه شدّد على عدم السماح لي في المشاركة بأيّ عملٍ جهاديّ ميدانيّ، رغم إلحاحي على العودة إلى الجبهة.
بعد سنة ونصف، خضعت لدورة جهادية تخصّصيّة، وكان والدي يصطحبني صباحاً إلى مركز التدريب ويعيدني مساءً. وفي ظلِّ متابعة التأهيل الذي استمرّ ما يفوق الثلاث سنوات، استطعت السير بمفردي بعد ستّة أشهر، كما حاولت قيادة السيّارة فلم أستطع التركيز بدايةً، إلّا أنّي تمكّنت من ذلك بعد سنة.
* ثمرة المودّة
خضعت لعمليّاتٍ جراحيّةٍ عديدة بشكلٍ مستمرّ حتّى عام 2020م، واقترنت بمن تكدّس فيها الوفاء، فصبرَت على البلاء منذ تكوّر الوجع في عينيّ المتعبتين، واحتضنت الوقت لسنواتٍ من جَلَدٍ وواستني، مدّخرةً مؤونة الأجر لآخرتها عبر احتساب خدمتها لي بفرح، فتزوّجنا عام 2021م، ورزقنا الله ثمرة المودّة ابنتنا «نايا».
* هواية وتحدٍّ
أحبّ هواياتي كرة القدم والرماية، أمارسهما بشكلٍ متقطّعٍ كلّما سنحت لي الفرصة. أجدُني أيضاً مكلّفاً بتأدية جهاد التبيين في المجتمع، وخادماً للناس ما استطعت. التحدّي الأكبر بالنسبة إليّ هو امتلاك قدرة التأثير على الأشخاص، وجذبهم للانخراط في صفوف حزب الله، فقد أعانني الله لمساعدة أربعة أشخاص من بيئة مختلفة على الانتساب إلى خطّ المقاومة. إصابتي كانت سبباً لتعلّقهم بهذا النهج المقدّس وخضوعهم لدورات عسكريّة. وأذكر أنّ أحدهم استشهد بعد انضمامه إلى صفوف المجاهدين بمدّة قصيرة، وأحمد ربّي أنّي كنت ممهّداً لنيله هذه الكرامة.
* نظرة مختلفة
أقول لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله): «يا أمين الأرواح، إنّ روحي غرس في ضواحي أيّامك، فاقبلها فداءً لسلامة أنفاسك الطاهرة. أطال الله في عمر سماحتك، لا أحياني الله دونك لحظة. لديّ كلمات كثيرة لن أبوح بها إلّا لشخصك الكريم، إن منّ الله عليّ بلقائك، وأطلب منه جلّ وعلا أن يعيننا على البقاء عند حسن ظنّك، وأن نبيّض وجهك دائماً، فأنا وكلّ عائلتي رهن إشارتك».
اسم الجريح: حيدر وائل نون.
الاسم الجهاديّ: أبو صالح.
تاريخ الولادة: 18/3/1996م.
تاريخ الإصابة: 28/6/2015م.
مكان الإصابة: جرود عرسال.
نوع الإصابة: حروق في كامل الجسد.