الشيخ محمود عبد الجليل
لقد عاصر الإمام الحسين عليه السلام ظروفاً بالغة التعقيد والصعوبة، بسبب السياسات التي كان الأمويّون يتّبعونها، من قتل العلويّين على التهمة والظّنة من جهة، وشراء الذمم والإغراءات للعديد من الوجوه في الأمصار بالمال والسلطان وعلى وجه الخصوص في الكوفة والبصرة من جهة أخرى، إضافة إلى ملاحظة الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والفكريّة والنزعات المذهبيّة في ذينك الولايتين، وهو ما يبرز أهميّة السفارة ويجعل المسؤوليّة عظيمة على شخص السفير.
* معايير اختيار السفير
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ”رَسُولُكَ تَرْجُمَانُ عَقْلِكَ، وكِتَابُكَ أَبْلَغُ مَا يَنْطِقُ عَنْكَ“(1). من هنا، تظهر ضرورة توفر جملة من الشروط والمواصفات في الرسول بناءً على المهمّة الموكلة إليه، منها: العلم، والحلم، والعقل، والحنكة، والحكمة، والصبر، والبصيرة، والنصيحة، والتسليم، والوفاء، والإخلاص، والشجاعة، والكتمان، والإيمان، والتجربة، والخبرة بأطوار الناس، والمعرفة بطرق المحاورات وفنون الجدال، والدراية بمصالح الناس، وأن يكون حسَن التصرف، حاضرَ البديهة قويَّ الحجّة، سليم المنطق يعرف ماذا يتكلّم ومتى.
بملاحظة هذه الشروط والموصفات، تظهر عظمة سفراء الإمام الحسين عليه السلام إلى كلٍّ من الكوفة والبصرة، وكذلك أولئك الذين انتدبهم لمحاورة القوم في كربلاء، بحيث يفصح ذلك عمّا لديهم من امتيازات روحيّة وعلميّة وشجاعة وكفاءة، أهّلتهم للقيام بهذا الدور الحسّاس والخطير.
وتبرز بعض الوجوه والشخصيّات الأمينة والمخلصة والناشطة التي أدّت دور الرسول والناقل لكلمات الإمام الحسين عليه السلام وتوجيهاته، والجدير بالذكر، أنّ جميع سفرائه عليه السلام شاركوه الشهادة.
* أول سفير شهيد: ابن رزين
أوّل شهيد من شهداء ثورة كربلاء(2) هو سليمان بن رزين، المكنّى بأبي رزين مولى الإمام الحسين عليه السلام، وقد أرسله حين كان في مكّة إلى رؤساء الأخماس في البصرة (وهم: العالية، وبكر بن وائل، وتميم، وعبد قيس، والأزد)، وإلى الأشراف كمالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس التميمي، والمنذر بن الجارود العبدي، ومسعود بن عمرو الأزدي، وقيس بن الهيثم، وعبيد الله بن معمر، فجاء الكتاب بنسخة واحدة إلى جميع أشرافها يدعوهم فيه الإمام عليه السلام إلى الالتزام بطاعته وأنّه هو الأحقّ بالأمر، فكلّ من قرأ ذلك من أشراف الناس كتمه غير المنذر بن الجارود فإنّه خشي بزعمه أن يكون دسيساً من عبيد الله، فأخذ الكتاب والرسول فقدّمهما إلى عبيد الله بن زياد في العشيّة التي عزم على السفر إلى الكوفة صبيحتها، فلمّا قرأ الكتاب ونظر إلى الرسول أمر بضرب عنقه، فقتله سليمان بن عوف الحضرمي (لعنه الله)، ثمّ صعد ابن زياد المنبر صباحاً وتوعّد الناس وتهدّدهم، ثمّ خرج إلى الكوفة ليسبق الإمام الحسين عليه السلام. وجاء ذكره في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على سليمان مولى الحسين بن أمير المؤمنين، ولعن الله قاتله سليمان بن عوف الحضرميّ»(3).
* شهيدٌ ثانٍ: ابن يقطر
هو عبد الله بن يقطر الحميريّ، ثاني شهداء الثورة الحسينيّة ومن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وممّا يُذكر أنّه بعدما أخذ مسلم بن عقيل البيعة من أهل الكوفة وأرسل إلى الإمام للقدوم إليها، أرسل الإمام عليه السلام إليه جواباً مع عبد الله بن يقطر، لكنّ الحصين بن تميم اعتقله في القادسيّة وأرسله إلى عبيد الله بن زياد. وكان ابن يقطر من أهل اليقين والشجاعة الفائقة إذ لمّا أمره ابن مرجانة قائلاً: «اصعد القصر والعن الكذّاب ابن الكذّاب، ثمّ انزل حتّى أرى فيك رأيي»، صعد هذا البطل القصر فلمّا أشرف على الناس قال: «أيّها الناس، أنا رسول الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليكم لتنصروه وتؤازروه على ابن مرجانة وابن سمية الدعيّ ابن الدعيّ»... فرُميَ من فوق القصر إلى الأرض مكتوفاً، فتكسّرت عظامه، وبقيَ فيه رمق، فأتاه عبد الملك بن عُمَير اللّخميّ فذبحه، فقضى عبد الله شهيداً... ولمّا وصل خبر شهادته إلى الحسين عليه السلام، تأسّف الإمام عليه كثيراً وأخبر أصحابه بمقتله(4).
* شهيد الكوفة: مسلم بن عقيل
أرسله الإمام عليه السلام في منتصف شهر رمضان من مكّة سفيراً إلى الكوفة بعدما وصلته رسائل أهلها يستنجدون به عليه السلام، وأوصاه الإمام عليه السلام بالتقوى وكتمان أمره واللطف بالناس، وقال له: «إن رأيت الناس مجتمعين مستوثقين فعجِّل إليَّ بذلك»، وحمل الكتاب إلى أهل الكوفة وفيه أنّ الإمام عليه السلام ينتظر ما يجيء به مسلم من خبر أهل الكوفة وجهوزيّتهم لنصرته، ثمّ أوصاه قائلاً: «إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي الله من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامضِ على بركة الله... فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها»(5).
وثمّة أسباب عدّة دعت الإمام عليه السلام لإرسال مبعوثه إلى الكوفة:
1. هي أكبر حواضر المسلمين من جهة عدد سكانها.
2. كانت معقل شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وفيها يقطن أصحابه وحورايّوه.
3. هو البلد الوحيد الذي دُعيَ الإمام الحسين عليه السلام للقدوم إليه من خلال الكتب التي وصلته من أهله.
ولذلك، سارعت الكوفة إلى مبايعة مسلم بن عقيل، فكتب إلى الإمام الحسين عليه السلام يخبره ببيعة أهلها ويستعجله في القدوم إليها(6).
ولكن سرعان ما تبدّلت الأمور بين ليلة وضحاها، بعدما وصل ابن زياد إلى الكوفة، انقلب أهلها على مسلم بن عقيل حتّى صار وحيداً لا يجد لنفسه مكاناً آمناً يأوي إليه. وبعد كرٍّ وفرٍّ، أُخذ مسلم إلى ابن زياد مقيّداً وجرى عليه ما جرى (رضوان الله تعالى عليه).
* السفير الشجاع: قيس بن مسهّر
كان قيس بن مسهّر الصيداوي رجلاً شريفاً شجاعاً موالياً لأهل البيت عليهم السلام ومخلصاً لهم، وهو من قبيلة بني أسد وممّن حمل رسائل أهل الكوفة إلى الإمام عليه السلام، وعلى إثر ذلك صار رسولاً بين الإمام الحسين عليه السلام ومسلم بن عقيل إلى الكوفة. وعندما وصل الإمام عليه السلام إلى الحاجر من بطن الرمّة، كتب إلى مسلم وإلى الشيعة بالكوفة كتاباً يخبرهم فيه بأنّه قادم إليهم في أيّامه هذه، وبعثه مع قيس، فقبض عليه الحصين بن تميم، وبعث به إلى عبيد الله بن زياد، الذي أمره كما أمر عبد الله بن يقطر، فامتنع، فأُصعد القصر ورُمي به من أعلاه، فاستشهد. ولمّا بلغ الحسين عليه السلام منطقة عذيب الهجانات، التقاه أربعة رجال ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي الطائيّ، فسألهم الحسين عليه السلام عن الناس وعن رسوله، فأجابوه عن الناس، وقالوا له: رسولك من هو؟ قال: قيس. فقال مجمع العائذي: أخذه الحصين فبعث به إلى ابن زياد فأمره أن يلعنك وأباك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعانا إلى نصرتك وأخبرنا بقدومك، فأمر به ابن زياد فألقي من طمار القصر، فمات (رضي الله عنه). فترقرقت عينا الإمام الحسين عليه السلام، وتلا قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ﴾ (الأحزاب:23)، ثمّ قال: «اللهم اجعل لنا ولهم الجنّة منزلاً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك»(7).
* عمرو بن قرظة: مهجتيّ فداءٌ للحسين عليه السلام
عمرو بن قرظة الأنصاريّ، أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، التحق بالإمام الحسين عليه السلام في كربلاء قبل بدء القتال، فأرسله الإمام بكتاب إلى عمر بن سعد وأحضر جوابه، وكانت سفارته في نقل الرسائل المتبادلة بينهما، حتّى وصل شمر بن ذي الجوشن يوم التاسع عصراً، عندها انقطعت الرسائل. وفي يوم عاشوراء، طلب عمرو بن قرظة من الإمام عليه السلام الإذن في المبارزة فأذن له، وعندما برز إلى القتال كان يرتجز ويقول في شعره:
قَد عَلِمَتْ كَتِيْبَةُ الأَنْصَارِ
أَنْ سَوْفَ أَحْمِي حَوْزَةَ الذِّمَارِ
ضَرْبَ غُلَامٍ لَيْسَ بِالْفَرَّارِ
دُونَ حُسَيْنٍ مُهْجَتِي وَدَارِي(8)
ثمّ قاتل مدّة من الزمن ورجع نحو الحسين عليه السلام، فوقف دونه ليقيه من العدوّ، فجعل يتلقّى السهام بجبهته وصدره فلم يصل إلى الحسين سوء حتّى أُثخن بالجراح، فالتفت إلى الإمام عليه السلام وقال له: «أوفيت يا بن رسول الله؟ قال: نعم، أنت أمامي في الجنّة، فأقرئ رسول الله السلام وأعلمه أنّي في الأثر». وهو على تلك الحال، خرّ عمرو بن قرظة إلى الأرض صريعاً واستشهد (رضوان الله عليه)(9).
* السلام على حنظلة بن أسعد
هو حَنْظَلَة بن أسعد بن شِبام الهَمْدانيّ الشِّباميّ، وهَمْدان قبيلة معروفة بولائها. كان حنظلة وجهاً من وجوه الشيعة في الكوفة، ذا فصاحةٍ وبلاغة، شجاعاً، قارئاً، التحق بالإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وبسبب صفاته صار سفير الإمام عليه السلام ورسوله، حيث كان يرسله أيّامَ الهدنة إلى عمر بن سعد بالمكاتَبة. وفي يوم عاشوراء، تقدّم حنظلة يطلب الإذن من الإمام عليه السلام بالقتال، فأذن له فتقدّم وهو ينادي: «يا قوم، إنّي أخافُ عليكم مِثْلَ يومِ الأحزاب، مِثْل دَأْبِ قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ والذين مِن بَعدِهم،... يا قوم، لا تَقتُلوا حُسيناً فيُسْحِتَكمُ اللهُ بعذابٍ وقد خابَ مَن افترى»، فقال له الحسينُ عليه السلام: «رَحِمَك الله يا بن أسعد، قد استوجبوا العذابَ حين رَدُّوا عليك ما دَعَوتَهم إليه من الحقّ، ونَهَضوا إليك ليستبيحوك وأصحابَك، فكيف بِهمُ الآنَ وقد قَتَلوا إخوانَك الصالحين؟!»(10)، فتقدّم حنظلة إلى القوم شاهراً سيفه يضرب فيهم قدماً حتّى استشهد (رضوان الله عليه)، وقد ورد اسمه في زيارتَي الناحية المقدسة والرجبيّة(11).
هؤلاء هم سفراء الإمام الحسين عليه السلام الذين ما توانَوا لحظة عن القيام بمهامهم ولم يتراجعوا رغم عظيم التهديدات والمخاوف، فواصلوا جهادهم حتّى الرمق الأخير، باذلين مهجهم وأرواحهم فداءً للإمام عليه السلام ونهجه، رضوان الله عليهم جميعاً.
(1) نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 528.
(2) موسوعة مع الركب الحسيني، مجموعة مؤلفين، ج 2، ص 37.
(3) إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس، ج 3، ص 76.
(4) راجع: موسوعة مع الركب الحسينيّ، مصدر سابق، ج 2، ص 166.
(5) الفتوح، الكوفي، ج 5، ص 31.
(6) وقعة الطفّ، أبو مخنف، ص 97.
(7) أبصار العين في أنصار الحسين، الشيخ محمد السماوي، ص 114.
(8) مثير الأحزان، ابن نما الحلّي، ص45.
(9) راجع: أبصار العين، مصدر سابق، ص155.
(10) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 105.
(11) راجع: المصدر نفسه.