السيّد عبّاس عليّ الموسويّ
عندما تولّى الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الإمامة، كان له من العمر خمس سنوات، فقد وُلد سنة 255هـ واستشهد والده سنة 260هـ، فانتقلت إليه الإمامة وتكلّف فعلاً بها وهو في سنّ الطفولة. ويطرح كثيرون سؤالاً: كيف لطفل صغير أن يتولّى إدارة البلاد وسياسة العباد، ويقضي بين الناس، ويفضّ النزاعات، ويعلن الحروب، ويعقد المعاهدات؟
* شواهد من واقع الحياة
للإجابة عن ذلك نقول: لو لم نؤمن بالإسلام وبالقرآن وبما جاء على لسان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، لم يكن لنا الحقّ في أن ننكر ذلك ونرفضه، أو نردّ على من ادّعى ذلك أو ادُّعي له ذلك لمجرّد أنّه طفل صغير. كيف والشواهد بين أيدينا؟ كم قرع سمعنا وتناهت إلينا الأخبار عن أطفال في عمر السنتين أو الثلاث أو أكثر بقليل صُنّفوا بـ”المميّزين”، فحيّروا العقول وأدهشوا الناس وجاؤوا بإعجاز يحكي عن قدرة الله ومواهبه وعطاياه؟ سمعنا عن ابن أربع سنوات يحفظ القرآن الكريم من أوّله إلى آخره، ويحفظ رقم الجزء الذي فيه الآية، ورقم الصفحة التي فيها الآية، وإذا ما كانت إلى اليمين أو الشمال، ويعرف أوّل آية من أيّ صفحة، وهو نفسه يحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر وكذا وكذا من الأحاديث الشريفة. وثمّة آخر تعطيه أيّ رقم مضروب برقم آخر مهما كان كبيراً، فيعطيك الجواب قبل الآلة الحاسبة، وكأنّ الجواب حاضر في ذهنه مذ نطقتَ بالأرقام. وثمّة ثالث مميّز تولّى التدريس في الجامعة وهو لم يبلغ العاشرة من عمره بعد، وهكذا دواليك. فإنّ المميّزين، كما يقولون، جملة من الأطفال الذين حيّروا العقول وخرقوا الأعراف وما اعتاد عليه الناس وما ألفوه، هم موجودون ولكنّهم نادرون أيضاً.
وإذا كنّا نشهد هذا الحال بأعيننا ونعيشه في واقعنا، فهل من غرابة إذا تولّى الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الإمامة وهو في سنّ الطفولة؟ أوَليس هؤلاء شواهد يمكن من خلالهم إثبات أن يكون الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف المميّز والأوّل بين الناس بحسب التصنيف البشريّ للمميّزين؟ فإذا أُوتي الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف جميع ما أُوتي المميّزون في الحقول والمجالات كلّها، كانت له القيادة وإن كان طفلاً صغيراً. هذا بحسب الواقع وبغضّ النظر عن رأي الدين، فلا يكون في تولّي المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف الإمامة طفلاً من عجب أو غرابة.
* شواهد من منهج الإسلام
أمّا في منهج الإسلام والدين والإيمان، فقضيّة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف أيسر وأسهل لتوفّر الشواهد الكثيرة على أنّه منذ ولادته إلى آخر يوم من حياته هو الإمام المقدّم الذي بيده أزمّة الأمور، عنه تصدر وإليه تعود، وليس في تولّيه الإمامة وهو في سنّ الطفولة من حيف أو مشكلة أو غرابة، ولنا على ذلك شواهد:
1. القرآن: نصّ القرآن نصّاً صريحاً فصيحاً غير قابل للتأويل على أنّ السيّدة مريم العذراء عليها السلام عندما جاءت بالنبيّ عيسى عليه السلام إلى قومها وهو ابن يومه تكلّم معهم وأثبت براءة أمّه، فكان الشاهد الوحيد المثبت لطهارتها، واستمع إلى كلام الله إذ يقول تعالى: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا* وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ (مريم: 29- 33).
وفي يحيى بن زكريا عليهما السلام يقول تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ (مريم: 12).
فأن يتكلّم طفلٌ وهو في المهد ويعلن براءة أمّه ويكشف عن مهمّته، وأن يُعطى آخر الحكم –بأيّ تفسير فسّرته- فهو معجزة، وهذا يكشف أنّ الله بيده الأمور وهو القادر وقدرته مطلقة في الأشياء، إذ يقول للشيء كُنْ فيكون. والإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف استثناء من جملة الاستثناءات كعيسى ويحيى عليهما السلام، بل هو معدّ لدور عالميّ بحيث يقيم الحكومة الإسلاميّة العالميّة التي تنشر العدل في عرض الدنيا وطولها، ولا يبقى إنسان إلّا ويعيش التوحيد ويدين بالإسلام ويقوم بمتطلّبات الإيمان؛ لذلك ما المانع أن يشمله عجل الله تعالى فرجه الشريف قانون الإعجاز أيضاً؟
2. الإمامان الجواد والهادي عليهما السلام: سبق الإمامَ المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف إلى الإمامة أبواه محمّد الجواد وعليّ الهادي عليهما السلام، بحيث تولّى كلّ منهما هذا المقام وهما دون العاشرة من عمرهما، وقد أثبتا جدارتهما لهذا المنصب بعدما تولّى المأمون العبّاسيّ امتحان الإمام الجواد عليه السلام في حلقات كانت تُعقد مع فقهاء زمانه الكبار الذين يهيّئون أصعب المسائل وأكثرها جدلاً ويطرحونها على الإمام عليه السلام في مجلس عام، وهو يردّ عليها ويجيب عن كلّ مسألة فلا يتوقّف أو يتردّد، بل كان يصيب بأجوبته كبد الحقيقة، ويجعل الجميع يقرّون بعلمه وفقهه ودرايته بالأمور.
وقد تولّى الإمام الهادي عليه السلام أيضاً الإمامة بعد أبيه وهو دون العاشرة من عمره، وأقام في بداية حياته في مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم قبل استدعائه إلى سامراء، فقاد شيعته بأحسن ما تكون القيادة، حيث تنوّعت حلقات مجلسه بين فقه وأخلاق وآداب وتربية وقضاء حاجات الناس، ممّا أثار خوف السلطة القائمة، فاستدعته إليها في سامراء ليكون تحت نظرها باستمرار.
هذان الإمامان، الجواد والهادي عليهما السلام، من أصدق الشواهد على أنّ الإمامة لا تخضع لسنّ معيّنة، بل هي مهمّة إلهيّة يختصّ بها الله من يشاء من عباده المخلصين، فلا يتولّى هذا المنصب الرفيع إلّا النادر، ولو كان صغيراً كما في النبيّين الكريمَين عيسى ويحيى عليهما السلام، وفي الإمامين الجواد والهادي عليهما السلام.
إذاً، إنّ مسألة تولّي الإمامة في سنّ مبكرة ليست بالأمر الجديد، ولم تكن سابقةً في قضية الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف فقط.
وبعد تقديم شواهد تثبت ذلك، هل يبقى أيّ مكان للشكّ؟
*مقتطف من كتاب «الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عدالة السماء»، ص 59-64.