الشيخ لبنان حسين الزين*
لمّا كان الله تعالى هو الخالق للإنسان، فهو الأعلم بما يصلح أمره وما يضرّه: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ (الملك: 14). ولأنّه تعالى منزّه عن النفع: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (الحج: 64)، فهو الأجدر بوضع المشروع والنظام الحياتيّ للإنسان.
ولذلك، أنزل الله تعالى الدين نظاماً ومشروعاً حياتيّاً للبشريّة فيه تفاصيل طريق السعادة والكمال، وما يحتاجه الأفراد لاستقامة حياتهم الدنيويّة الاجتماعيّة التي هي ظرف لتكاملهم. وكان القرآن الكريم آخر مشروع إلهيّ أنزله إلى البشريّة وأتمّه وأكمله.
* خصائص المشروع القرآنيّ
يحتوي القرآن الكريم على نظام الدين بأبعاده الثلاثة: العقديّة والقيميّة والتشريعيّة، التي دعا الله تعالى الإنسان إليها بفطرته: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30)، وأرشده إليها بعقله وحواسه: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت: 53)، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات: 21-20)؛ فكانت معرفته تعالى أساس منهج الحياة الحقيقيّة للإنسان، والدالّة على بعض الأصول الأساسيّة:
1. الأصول العقديّة
أ. التوحيد: إنّ الاعتقاد بوحدانيّة الله أوّل الأصول الدينيّة والاعتقاديّة: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ (الإخلاص: 4-1).
ب. المعاد: ومن طريق معرفته تعالى دلّه على المعاد، والاعتقاد بيوم القيامة، الذي يُجازى فيه المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وجعله أصلاً اعتقاديّاً ثانياً: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ (الحج: 6)، ﴿أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ (فصلت: 44).
ج. النبوّة: ثمّ من طريق الاعتقاد بالمعاد دلّه على معرفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّ الجزاء على الأعمال لا يمكن أن يحصل إلّا بعد معرفة الطاعة والمعصية والحسن والسيّئ. ولا تتأتّى هذه المعرفة إلّا من طريق الوحي والنبوّة، فجعل هذا أصلاً اعتقاديّاً ثالثاً: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ (البقرة: 213). وعدّ القرآن الكريم هذه الأصول الاعتقاديّة -الاعتقاد بالتوحيد، والنبوّة التي يتفرّع منها الإمامة، والمعاد الذي يتفرّع منه العدل- أصول الاعتقاد في الدين الإسلاميّ.
2. الأصول القيميّة: وبعد هذا، بيّن أصول القيم والأخلاق والصفات الحسنة، التي لا بدّ أن يتحلّى بها كلّ إنسان مؤمن كالصدق والبر والإحسان.
3. الأصول التشريعيّة: ثمّ شرّع له الأصول والقوانين والأنظمة العمليّة الّتي تضمن سعادته الحقيقيّة، وتنمّي فيه الأخلاق الطيّبة؛ كلزوم الطاعة واجتناب النواهي والكبائر.
وقد جعل الله تعالى الأصول القيميّة والتشريعيّة منسجمة مع الأصول الاعتقاديّة ومرتكزة عليها، ولا سيّما في مقام الالتزام العمليّ للمكلّف، سواء في امتثاله الأوامر الإلهيّة أو في ارتداعه عن النواهي الإلهيّة في ظرف التكليف الإلهيّ(1).
* حضور القرآن في حياة الإنسان
إنّ العمل بالقرآن وحضوره في حياة الإنسان كفيل بإيصاله إلى مقصوده ومبتغاه من السعادة والكمال، ومتى ما غفل الإنسان عنه وأهمله، ابتُلي بالسقوط والانحراف عن مقصده الفطريّ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى* وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى﴾ (طه: 127-124).
ومن هذا المنطلق، فإنّ المجتمع الذي يحضر فيه القرآن فكراً وعملاً، سوف يكتب له الفلاح والنجاح، ولا يتحقّق له ذلك إلا بأن يجعل القرآن مرجعاً له في حلّ مشكلات الحياة ومعضلاتها، ومعياراً في قبول أيّ قول أو رأي أو موقف، وفيصلاً فارقاً بين الحقّ والباطل ومصاديقهما في الحياة.
لقد سعت قوى الطغيان والاستكبار منذ زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى واقعنا المعاصر إلى محاولة سلب الأمّة الإسلاميّة هذه القيمة المهمّة وإلهائها عنها، لأنّها وجدت في القرآن مانعاً وحاجزاً منيعاً أمام مطامعها في استلاب الشعوب واستعبادها، فبذلت جهودها وسخّرت كلّ طاقاتها وإمكاناتها للحؤول دون انفعال الشعوب بتعاليم القرآن، تمهيداً لإقصائه من الحياة العمليّة، وجعله يقتصر على الطقوسيّة الشكليّة في حياة المسلمين. وهو ما أخبر عنه أهل بيت العصمة عليهم السلام فحذّروا الأمّة من الوقوع فيه، فعن الإمام عليّ عليه السلام: «إِلَى اللَّه أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالًا ويَمُوتُونَ ضُلَّالًا، لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِه، ولَا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً ولَا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِه»(2). وعن الإمام الباقر عليه السلام: «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية...»(3).
وعليه، لا بدّ من حضور القرآن الكريم اعتقاداً وعملاً في حياة الإنسان: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24)، حتّى يتمكّن من تحقيق رسالة القرآن وأهدافه العامّة على المستويين الفرديّ والاجتماعيّ؛ فيخرج من الظلمات إلى النور ويهتدي إلى الصراط المستقيم: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا﴾ (الأنعام: 122)، ﴿الَر كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ﴾ (إبراهيم: 1).
* طريق الاستفادة من القرآن الكريم
يلفت الإمام الخمينيّ قدس سره إلى طريق الاستفادة من القرآن الكريم، من خلال النظر إليه بوصفه كتابَ تهذيب للنفس، وإحياء للقلوب، وأعظم وسيلة لربط الإنسان بخالقه، وحبل نجاته،... إذ يقول: “لا بدّ لك أن تلفت النظر إلى مطلب مهمّ يُكشَفُ لكَ بالتوجّه إليه طريقُ الاستفادة من الكتاب الشريف، وتنفتح على قلبك أبواب المعارف والحكم؛ وهو أن يكون نظرك إلى الكتاب الشريف الإلهيّ نظر التعليم، وتراه كتاب التعليم والإفادة، وترى نفسك موظّفة على التعلّم والاستفادة (...). مقصودنا هو أنّه لا بدّ وأن يُفتَح للناس طريق الاستفادة من هذا الكتاب الشريف، الذي هو الكتاب الوحيد في السلوك إلى الله، والكتاب الأحديّ في تهذيب النفوس والآداب والسنن الإلهيّة، وأعظم وسيلة للربط بين الخالق والمخلوق، والعروة الوثقى، والحبل المتين للتمسّك بعزّ الربوبيّة. فعلى العلماء والمفسّرين أن يكتبوا التفاسير، وليكن مقصودهم بيان التعاليم والمقرّرات العرفانيّة والأخلاقيّة، وكيفيّة ربط المخلوق بالخالق والهجرة من دار الغرور إلى دار السرور والخلود؛ على نحو ما أُودِعَت في هذا الكتاب الشريف”(4).
* باحث وأستاذ في الحوزة العلميّة.
(1) انظر: القرآن في الإسلام، العلامة الطباطبائي، ص 13-23.
(2) نهج البلاغة، ص 60.
(3) الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 53.
(4) الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص 332-333.