مع الإمام الخامنئي | كلّنا مَدينون للنبيّ الأعظم* نور روح الله| هكذا كانت حياة الرسول* مع إمام زماننا | حين تزفّ السماء نبأ الظهور (2): في مكّة السيّد محسن شهيداً على طريق القدس مقاومتُنا بعينِ الله صُنعت حاجّ محسن! إلى اللقاء عند كلّ انتصار* أبو طالب: قائدٌ في الميدان والأخلاق المقاومة الإسلاميّة: ثقافتنا عين قوّتنا الشهيد على طريق القدس بلال عبد الله أيّوب تسابيح جراح | جراحاتي لا تثنيني عن العمل

أسطورة أرض الميعاد

مقابلة مع سماحة الشيخ شفيق جرادي
حوار: الإعلاميّ حسن سليم


كثيرةٌ هي معتقدات اليهود المتناقضة، والتي ينطلقون منها لتبرير احتلالهم لأرض فلسطين وقتلهم شعبها تحت مزاعم وادّعاءات كثيرة. للوقوف أكثر عند هذه المعتقدات وبعض مفاهيمها وحقيقتها، كان هذا الحوار مع سماحة الشيخ شفيق جرادي.

- سماحة الشيخ العزيز، ما هو أصل عقيدة أرض الميعاد في نصوص اليهود؟
إنّ أيّ نصّ أو كتاب مقدّس لأيّ أمّة أو ديانة، ينطوي على الكثير من الرمزيّات التي كان لها ظرفها الخاصّ، وحيثيّاتها الخاصّة. فحينما يريد المفسّر أو المؤوّل تفسير أيّ نصّ مقدّس، فإنّه يرجع إلى الذهنيّة التي تلقّت ذلك النصّ وكيفيّة فهمها له، وعندها، قد تظهر بعض التوظيفات الخاصّة وعمليّة اجتزاء النصوص لخدمة فكرة محدّدة.

أمّا بالنسبة إلى الصهاينة، فحينما يتحدّثون عن فلسطين بوصفها أرض ميعادهم، فإنّهم يستندون إلى نصوص تذكر النبيّ إبراهيم عليه السلام، أي إبرام بحسب التوراة، وأنّ الربّ أمره في بعض النصوص أن «اذهب من أرضك ومن عشيرتك» يعني بابل، «غادر بيت أبيك إلى الأرض التي سأريك إيّاها، فأجعلك أمّة عظيمة». بعض التفسيرات تقول: «أنت أمّة»، وبعضها الآخر يقول: «أمّة عظيمة»، أي سأكثر من الناس الذين ينتسبون إليك، فيصبحون شعباً ينبغي أن تكون لهم أرض، «وأباركك وأعظّم اسمك وتكون بركة». تقول النصوص التوراتيّة إنّ إبراهيم سلك هذا الطريق، وإنّ ثمّة مصدراً لم تذكره النصوص قد تحدّث معه، ثمّ بنى إبراهيم مذبحاً للربّ، الذي ظهر له وتجلّى بشكل أو بآخر كما حصل مع موسى عليه السلام عندما كلّمه الله. اعتبرت النصوص أنّ المكان الذي شهد هذا التجلّي للربّ هو المكان الذي جعله إبراهيم مذبحاً للقرابين، وربّما من هنا نبتت فكرة هيكل الصهاينة. وفي نصّ آخر يقول الربّ لإبراهيم: «لأنّ جميع الأرض التي أنت ترى، أعطيها لك ولنسلك إلى الأبد». لقد استوقفتهم عبارة (ولنسلك إلى الأبد)، وذلك لينفوا حصّة إسماعيل ونسله من العرب. ثمّة نصّ آخر يدلّل على ذلك: «وينتقل الوعد الأبديّ في سلالة إبراهيم إلى إسحاق قبل ولادته، ويُقصى إسماعيل الابن الأكبر، لا حقّ له بالإرث حتّى لا يكون حقّ الأرض لمن سواه. قال إبراهيم لله: ليت إسماعيل يعيش أمامك، فقال الله: بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحاق وأقيم عهدي معه عهداً أبديّاً لنسله من بعده». إذاً، لقد أخرجوا العرب نهائيّاً في هذا النصّ، أمّا المقصود من «ليعيش أمامك»، فقد استفادوا منها فيما بعد ليقولوا إنّ من يسكن هذه الأرض فإنّه ينعم بالبركة الأبديّة.

- لماذا يدّعون أنّ حدود هذه الأرض من النهر إلى النهر؟
يذكر سفر التكوين: «في ذلك اليوم، قطع الربّ مع إبراهيم ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات»، فهذه قصّة النهر إلى النهر محدّدة من قبل. وهم يعتبرون أنّ من يخرج من هذه الأرض أو لا يعيش فيها يسمّى كافراً، وهو أقلّ قيمة من الحيوان، والعياذ بالله، وتحلّ عليه لعنة الله. فضلاً عن أنّ النعمة تشمل الموجودين في هذه الأرض، ويجب أن يكونوا حصراً من نسل إسحاق ويعقوب وصولاً إلى سلالة نبيّ الله موسى. ولهذا السبب هي أرض العسل والمياه والوفرة والنعم. وهذا التفكير يفسّر نظرتهم إلى الفلسطينيّين على أنّهم «ليسوا بشراً».

ثمّ توسّع الوعد في عهد نبيّ الله موسى عليه السلام، فلم تبقَ الحدود من النهر إلى النهر، بل «كلّ ما يريك إيّاه الله في الأرض هو لك»، من هنا، بات المشروع هو الدولة العظمى وإسرائيل الكبرى. وطبعاً، هذا المعتقد غير صحيح؛ لأنّ النبيّ موسى عليه السلام عندما دخل تلك الأرض، فقد كان شعبها موجوداً قبل مجيء بني إسرائيل إليها. بناءً عليه، هم ليسوا أصحاب تلك الأرض ولا سكانها الأصلييّن.

- يرد في التعريفات أنّ التلمود هو جمعٌ للوصايا الشفهيّة، وقد ساهم في ترسيخ فكرة الأرض الموعودة. فهل يعتقد اليهود كافّة بالتلمود؟
إنّ أصل فكرة التلمود هي أنّ ثمّة تعاليم تحدّث بها النبيّ موسى عليه السلام ولم ترد في التوراة، وهي أحاديث كثيرة تشكّل تعاليمه، كذلك نقلوا أنّ ثمّة تعاليم ليوشع على سبيل المثال بعده، وقبلهما تعاليم ليعقوب وإسحاق، أي كان لكلّ هؤلاء الأنبياء تعاليمهم التي لم يتضمّنها التوراة، وهم بحاجة إليها، فجمعها أحد الحاخامات بعد مئات السنين، على أساس أنّها مصدر للتعليمات وليس للتشريعات الدينيّة. ثمّ أضيف عليه جزء الشرح. وعليه ينقسم التلمود إلى قسمين:

1. «المشناة»: هو عبارة عن مجموعة من المناظرات والتعاليم التي لم يشملها التوراة.

2. «الجمارة»: هو شرح التعاليم السابقة، أي التفاسير التي جرت في المدارس ذات المستويات العالية في اعتبارهم. وطالما أنّ ثمّة شرحًا، فهذا يعني أنّ أذهاناً متفرّقة قد صاغت التعاليم وشرحتها، وأدخلت عليها مصالحها من كلّ حدب وصوب. ويضمّ هذا القسم نوعين من التفاسير:

- الأوّل: يُعرف بتلمود «أورشليم»، وقد كتبه حُكّام طبريا بين القرنين الثالث والخامس.

- الثاني: يُعرف بتلمود «بابل»، وهذا تحديداً الذي تحدّث عن أرض الميعاد باعتبارها بمنزلة الإيمان، أي الشروحات التي قالت: «إذا كنت مؤمناً فيجب أن تكون في أورشليم، وإذا كنت خارجها فأنت لست بمؤمن». وتؤكّد هذه الشروحات بما لا يقبل الشك أنّ هذه الأرض «يجب أن نعيش فيها، وهذه الأرض يجب أن تكون لنا»، وأفترض أنّ معظم اليهود مؤمنون بالتلمود.

يبرز اليوم اتّجاه عريض لدى اليهود في العالم تحت عنوان «معاداة الصهيونيّة» والذي تختلف نظرته إلى احتلال فلسطين. من هم أصحاب هذا الاتّجاه؟ وهل هم معارضون لاحتلال أرض فلسطين؟

ثمّة قسمان رئيسان ممّن عارض الدولة الصهيونيّة:

1. الأرثوذوكسيّة اليهوديّة: هم الذين يؤمنون بالاستقامة، ويحافظون على التقاليد القديمة لليهوديّة، ولا يُدخلون عليها أيّ تجديد. وقد اعتبر الأرثوذوكس أنّه لا يوجد دليل على أنّ هذه النزعة القوميّة التي أتى بها الصهاينة هي التي يمكن أن تحقّق لهم الحضور المطلوب بالعهد مع الله، لأنّه إذا لم يأتِ المسيح، لن تقوم دولة اليهود المباركة، وأن تقوم دولة قبل ظهور المسيح فهذا يعدّ ضلالاً وتعارضاً مع أصل المعتقد والميعاد. وهم يعتقدون أيضاً أنّ عليهم أن يكونوا موجودين لا أن يحكموا أرض الميعاد، هذا أولاً، وثانياً، يجدون أنّ الحكم الصهيونيّ لا يقوم على أساس دينيّ، بل على أسس قوميّة علمانيّة تريد أن تقصي الدور الدينيّ عن حياة اليهود.

2. الحركة الإصلاحيّة اليهوديّة: الإصلاحيّون هم الذين يريدون أن يكونوا أكثر ليبراليّة في التفكير، لكن على قاعدة التجديد من الديانة اليهوديّة نفسها لا من خارجها. وقد رفض المنطلق الليبراليّ إقصاء الآخرين، ورفض دعاته سلبهم حقوقهم، ودعوا إلى ضرورة وجود دولتين وإيجاد تمازج بشكل أو بآخر بينهم وبين العرب في حكم هذه الدولة، لكن أيضاً على أساس أنّ العرق الأكثر قوّة وتأثيراً له اليد العليا في الحكم، أي اليهود.

- كيف يردّ مناهضو الصهيونيّة على الحجّة الدينيّة للصهاينة في خصوص أرض الميعاد؟
النقاش أو الردّ بخصوص الوعد والميثاق له شقّان:

1. دينيّ: الجزء الدينيّ يتعلّق بالسيّد المسيح، والدولة العلمانيّة المناهضة للدين. وبوضوح أكثر، فإنّ أصل فكرة اليهوديّة قبل قيام المسيح هي خاطئة بحسب فهمهم للنصوص، فحينما يظهر المسيح أو المخلّص يصبحون شعباً حقيقيّاً، أمّا قبل ذلك فهم أقلّيّة دينيّة. بناءً عليه، يجب أن يكونوا الآن في المكان الذي يصلح لأن يعيشوا فيه، وليس في المكان الذي سيحكمون فيه. أكثر من ذلك، كلّ حكم يقوم لليهود، سيؤخّر خروج المسيح، لذلك هم يرفضونه.

2. سياسيّ: في الجانب السياسيّ، يعتبر المناهضون للصهيونيّة أنّ ما يطرحه الصهاينة يشكّل عاملاً أساسيّاً في تراجع «إسرائيل»، بل سبباً في تشتّت الشعب، وتراجع صورة اليهود في العالم. وقد أقام بعض المناهضين مؤتمرات في الولايات المتّحدة الأمريكيّة للتحذير، وبعضهم اتّهم الصهيونيّة بأنّها تعاطفت مع النازيّة في قتل اليهود الشرقيّين، لأنّ اليهود الشرقيّين هم الذين جاء إليهم الوعد، فتخلّص الصهاينة منهم لأنّهم لا يريدون لهم أن يتحوّلوا إلى شعب مستقلّ (أصحاب الوعد) في دولة علمانيّة لها شعبها الذي يجب أن يذوب بها، فساهموا في إحداث المحرقة.

ثمّة تجاذبات عديدة فيما بينهم بخصوص هذا الموضوع. سياسيّاً، شكّل المناهضون حركات سياسيّة تحذّر من الصهيونيّة أو العلمانيّة اليهوديّة، مثل حركة «ناتوري كارتا» التي يفضح أعضاؤها الخرافات الصهيونيّة وتوظيفها النصوص بعيداً عن حقيقتها، وإدخالها العنصر العلمانيّ داخل تعاليم الدين، فضلاً عن أنّهم يتّهمونها بالتسبّب في إبادة اليهود عبر ممارساتهم العنصريّة اللادينيّة، منها احتلال فلسطين.

- هل ثبت أن يكون المحتلّون الصهاينة فعلاً بني إسرائيل؟
عندي اعتقاد بأنّهم من بني إسرائيل، وليس كلّهم. وليس هذا سبباً لكي يفخروا بأنفسهم، لأنّ هذا العزّ انقضى وانتهى، وقد لُعنوا بما قالوا. وحاليّاً، لم تعد ترتبط الصهيونيّة ببني إسرائيل، لأنّ الله عزّ وجلّ خاطب قوم بني إسرائيل، أي الجماعة تلك، ولم يخاطب الصهاينة، أي الجماعة الجديدة السياسيّة التي تتذرّع بجمع شعب على أساس عنصريّ قوميّ، وهذه النزعة القوميّة التي يحاولون انتزاعها اليوم تنسجم مع الطروحات الغربيّة، التي تعتبر أنّ العرق هو الأصل والأساس، والمصالح ذات الطابع السياسيّ والسيطرة هي التي تشكّل الهويّة لأيّ أمّة. نعم، هم يوظّفون صورة بني إسرائيل الدينيّة، لانتزاع السيادة العرقيّة. أمّا في الأصل، أي حينما راحوا يبحثون عن أرض يجمعون فيها اليهود كشعب مهجّر ومشرّد، فقد طرحوا أماكن عدّة مثل المجر وكندا وغيرهما، فلم تقبل أيّ دولة أن يستوطنوا فيها، لأنّها لم تُرد أن تتحمّل عبء اليهود على أرضها. إذاً عملية البحث لم تستند إلى الأرض المزعومة، خاصّةً أنّ فكرة الصهيونيّة تبلورت بشكلٍ كبير وعمليّ مع بداية نهايات الدولة العثمانيّة، حينما قرّر الغرب شنّ الغزو على العالم الإسلاميّ وتبديده، ليكون هو القوّة المهيمنة فيه، فبدأ بزرع جرثومة سرطانيّة قابلة للتمدّد، وهي استيطان اليهود في فلسطين تحديداً على أنّها أرض الميعاد، متذّرعين بكلّ ما ذكرناه من أفكار ومعتقدات، في حين أنّ بعض اليهود يقولون إنّ أرض الميعاد الفعليّة هي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وثمّة خريطة لنيويورك يتداولونها اليوم ليصحّحوا المفهوم لغيرهم. لذلك، ليس بالضرورة أن تكون أصول كلّ إسرائيليّ أو يهوديّ من بني إسرائيل، فهم بإمكانهم صناعة جنسيّات جديدة وهويّات مختلقة ليجمعوا شتات أقلّيّة ما.

- هل يمكن تلخيص كلّ ما ذُكر في أنّ حقيقة فكرة الميعاد هي أسطورة وفكرة مبتدعة ذات طابع سياسيّ؟
لا يوجد لدينا أيّ إثبات دينيّ أو تاريخيّ لمسألة الميعاد وأنّ أرض فلسطين هي أرض قوميّة لليهود، وهم بدورهم ليس لديهم إثبات بدليل اختلافهم في ذلك. الارتباط الدينيّ نفهمه كتعاليم لا كسكن واستيطان، فيمكن لأيّ إنسان أن يذهب لأداء طقوس ما للحجّ أو للزيارة في أيّ مكان يرغب، كما نقصد نحن مكّة لأداء الشعائر، فهي أرض الله المفتوحة للجميع، فتبقى فلسطين مكانًا يقصدونه للعبادة وللحجّ ثمّ يعودون إلى بلادهم، وعندما يظهر المسيح فحديث آخر، هذا مفاد أسطورتهم في أحسن الأحوال. لذلك، مهما بدت كهذه طروحات دينيّة، لكنّها ذات نزعة قوميّة، ولا يمكن إلّا أن يكون الجانب السياسيّ فيها هو الحاضر والحاكم.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع