رؤبال ناصيف
«الحرب على الحقيقة مستعرة، ولكن لا يدرك الجميع أنّنا فيها»(1). هي ليست نوعاً جديداً من الحروب، ولكن المختلف اليوم، مع العالم الرقميّ، هو مدى سهولة صناعة معلومات ملوّثة ومشاركة محتواها، لأنّه أصبح بإمكان أيّ شخص أن يخلق محتوى ملوّثاً ومضلّلاً، وأن يشاركه بشكلٍ سريع على مستوى العالم، وبشكلٍ خارج نطاق السيطرة، بما يؤثّر كثيراً في المشهد السياسيّ والاجتماعيّ والإنسانيّ.
* الجمهور جزء من الحرب
في الحرب على الحقيقة، يسعى كلّ الفرقاء إلى حيازة كافّة العوامل المؤثّرة على معرفة الناس واستخدامها، مثل: العامل الدينيّ والعرفيّ، علم النفس والاجتماع، الاقتصاد والبنى التحتيّة، السياسة والإعلام. وكلّ منهم يستخدمها لتحقيق أهدافه: إمّا لتعمية المعرفة وتغييبها وكيّها وإفسادها، أو لتنميتها وإيقاظها وتصحيح الفاسد منها.
المشكلة الأهمّ في الحرب على الحقيقة، هي أنّ الناس لا يدركون غالباً أنّهم هدفها الأساسيّ، وأنّها تُخاض ضدّهم مباشرة، وأنّهم واقعون تحت تأثير أدواتها وتجلّياتها في معظم ما يفكّرون به أو يتبنّونه من قناعات أو يتّخذونه من قرارات. والأخطر من ذلك هو أنّهم لا يدركون أيضاً أنّهم جزء من أدوات هذه الحرب، ومشاركون في صنعها واستعار نارها وانتشارها، كما في تحديد تداعياتها ونتائجها، والتعايش مع هذه النتائج التي شاركوا في صنعها. وحيث إنّهم غائبون عن كلّ هذا، فهم لا يشعرون أصلاً أنّهم عرضة لتهديد هذه الحرب، ولذلك، لن يستطيعوا التعرّف على هذا التهديد أو مكافحته.
* أشكال الحرب على الحقيقة
تتضمن فوضى المعلومات أشكالاً عدّة؛ لتربك القارئ بأساليب متنوّعة، نعرضها لنوضّح مستوى التعقيد في بيئة المعلومات الملوّثة، منها:
1. السخرية أو التهكّم: إنّ الكثير من الجهات التي تضفي سمة التهكّم والسخرية على ما تنشئه وتنشره من محتوى حقيقيّ، لا تفعل ذلك بقصد التضليل، بل من أجل الكشف عن السخيف والمتناقض والمخادع في أقوال من ينتقدونهم وأفعالهم، ولضمان ألّا يخضع محتواهم لضوابط «التحقّق من المحتوى»، وكوسيلة استباقيّة للتّنصّل من أيّ ضرر قد ينجم عن نشر هذا المحتوى. ومع ذلك، ثمّة جهات أخرى، تتعمّد تقديم محتواها الكاذب والمضلّل بشكل ساخر ومتهكّم، لتخفي رسائل حذفتها من سياقات محددّة كان يتوقّعها القارئ أو المتابع، لإرباكه وخداعه وتوجيهه نفسيّاً في الوجهة الأخرى.
2. محتوى مضلّل: هو الذي يروّج عادةً لمزاعم غير محدّدة وخادعة وبشكلٍ موجّه ضدّ شخص أو جهة أو قضيّة ما. نجد هذا النوع من المحتوى عند اقتطاع اقتباس مجتزَأ من تصريح لشخصيّة ما ووضعه خارج سياقه، أو عند اختلاق إحصاءات تدعم ادّعاء ما، دون الأخذ بالاعتبار الطريقة التي جُمعت بها البيانات، أو عند قصّ صورة لتأطير القصّة وفق طريقة معيّنة مخالفة لما تدلّ عليه الصورة الأصلية. مثال على ذلك: التغريدات التي زعمت أنّ جماعات معيّنة هي أكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا، وأنّ بيل غيتس لعب دوراً في خلق الفيروس.
3. السياق المغلوط: يحتلّ النسبة الأكبر من محتوى فوضى المعلومات، وذلك حين يحرّف المحتوى الحقيقيّ عن سياقه الأصليّ. وهو ما يحدث كثيراً عند استخدام صور أو مقالات حقيقيّة قديمة وإعادة نشرها على أنّها جديدة، وخاصّة إن كان عنوانها متقاطعاً مع أحداث راهنة، أو عند نشر محتوى أصليّ حقيقيّ مع معلومات سياقيّة مغلوطة.
4. المحتوى الكاذب: يحصل ذلك حين يُنسب محتوى ما إلى غير صاحبه، مثل استخدام شعار مؤسّسة معروفة أو جهة ما أو اسم شخص معيّن، مع محتوى ليس من إنتاجه، لتضليل الناس ودفعهم للثقة بالمحتوى. فالناس عادةً يحكمون على المحتوى استناداً إلى مقدار ثقتهم بالمصدر، أي الجهة المنسوب إليها. مثال: انتحال حساب تويتر لإعلاميّ نزيه يثق به الناس مع تغريدة كاتبها الأصليّ سياسيّ فاسد.
5. محتوى مُفبرك: أي المحتوى المختلق بشكلٍ كامل بهدف التضليل والأذى، كأن ينشئ شخص حسابات وهميّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ لينشر محتوى جديد عبرها، أو تصنيع مقاطع فيديو لشخص ما يتحدّث عن موضوع معيّن ليتبيّن لاحقاً أنّ الحديث لم يصدر عن الشخص. مثال: نشر موقع القوّات اللبنانيّة الإلكترونيّ خبراً منسوباً إلى موقع رصد بحريّ يفيد أنّ سفن المحروقات الإيرانيّة المتوجّهة إلى لبنان لم تنطلق من الموانئ الإيرانيّة، وهو ما ينسف تصريحات حزب الله التي تؤكد أنّها انطلقت، ليتبيّن لاحقاً أنّ الخبر لم يصدر عن أيّ موقع رصد بحريّ.
6. محتوى مُتلاعَب به: يحصل ذلك حين يتمّ التلاعب والعبث بمحتوى أصليّ وصحيح بطريقة معيّنة لأغراض التضليل. مثال: عرض الكيان المحتلّ في معركة طوفان الأقصى للرأي العام صورة طفل إسرائيليّ متفحّم، زاعماً أنّ المقاومين في حماس فعلوا ذلك به، ليتبيّن أنّ الصورة الأصليّة تعود لكلب كان يتلقّى العلاج في أحد المراكز الاستشفائيّة، وقد تمّ التلاعب بها بتقنيّة الذكاء الصناعيّ.
* البروباغندا المتقدّمة
نتيجة لفوضى الفضاء الرقميّ، انبثقت أشكال متقدّمة من البروباغندا التي ليس من أهدافها العمل على كسب الرأي العام، وإنّما تشويشه وجعل الناس يعتقدون أنّه في هذا العالم المليء بالأضاليل وفوضى المعلومات، فإنّه من غير الممكن لهم معرفة الحقيقة فعلاً، وإنّ ما يعتبرونه حقيقة هو في الواقع وجهة نظر منحازة. وهدف هذا الشكل من البروباغندا هو إسقاط المجال القيميّ والمبدئيّ لدى الناس بحيث لا يعودون بعدها قادرين على التمسّك بأيّ قيمة. مثال على ذلك: بروباغندا أنّ كل ما يحصل في فلسطين من مذابح ومجازر هو وجهة نظر المتطرّفين، أمّا من جهة العدوّ الإسرائيليّ فهو «حقّ مزعوم» بالدفاع عن نفسه، فيستبقون عبر البروباغندا أيّ عنف وقتل بالذريعة نفسها.
* منظومة أبواق التضخيم
عادةً، يصادف الناس محتوى مضلّلًا أو خبيثًا في مكان ما، فيعتقدون أنّ هذا المكان هو مصدره الأصليّ. هذا الاعتقاد الساذج والمبسّط للموضوع هو في الحقيقة ما تستغلّه وتنتظره الجهات المضلّلة كي تنجح في توظيف الناس في عمليّة ترويج ذاك المحتوى، لأنّه لو لم يجرِ نشره ومشاركته على نطاق واسع ومضخّم، فإنّه لن يرتّب أضراراً كبيرة، لأنّ الضرر يكمن في عمليّة ترويجه وليس في أصل إنشائه. وهنا، يساهم الوعي في عدم التفاعل مع هذا النوع من المحتوى.
* مكافحة المعلومات الملوّثة
إنّ جلّ ما نطمح إليه في هذا الصدد، هو توعية الناس في معرفة بعض الحقائق التي تقلل من مخاطر هذا التهديد:
1. الحرب على الحقيقة موجودة ومنتشرة على نطاق واسع، وقد تبدو خفيّة غير واضحة، لأنّها تخاض في ميدان المعلومات والإعلام.
2. الجهات التي تشنّ هذه الحرب مختلفة، ولكلّ منها مقاصدها وأهدافها التي قد تكون سياسيّة أو ماليّة أو اجتماعيّة أو كلّها معاً.
3. هذه الحرب خطرة جدّاً، لأنّها تستهدف معارف الناس ووعيهم وعواطفهم التي تؤثّر على قناعاتهم وقراراتهم المتعلّقة بأمنهم ومستقبلهم ومصيرهم وطموحاتهم كأفراد وجماعات.
4. خطر هذه الحرب أصبح أكبر بسبب توسّع الفضاء الرقميّ وانتشار الوسائط الرقميّة، ما سمح لعدد كبير من الناس ببثّ ومشاركة وإعادة مشاركة ما يحوزونه من معلومات بعضها أو أغلبها ملوّث.
5. أشكال هذه الحرب كثيرة وكثيفة ومتشابكة، ولكنّها كلّها تعمل على تضليل وعي الناس وتشكيكهم وإرباكهم وكيّ وعيهم وخداعهم واستثارة عواطفهم العميقة لتوجيهها نحو ما يخدم أهداف الحرب.
6. الناس معرّضون لهذه المعلومات الملوّثة في كلّ وقت وفي كلّ مكان، خاصة عند استخدامهم وسائط التواصل الرقميّة، وحتّى لو افترضوا أنّهم على دراية بها وبتهديدها، لأنّ عواطفهم تلعب دوراً كبيراً في مدى تأثّرهم بتلك المعلومات.
7. الناس جزء من أدوات هذه الحرب، لأنّهم يشاركون عن علم أو عن جهل في انتشار التلوّث المعرفيّ الذي تنتجه هذه الحرب، وهم جزء مساهم في استعار نارها وفي صنع نتائجها.
* كيف نكسب هذه الحرب؟
ينبغي مواجهة هذه الحرب اعتماداً على أمور عدّة:
1. الحذر من كلّ ما نتلقّاه من معلومات.
2. عدم افتراض الثقة خاصّة أثناء التعامل مع البيئة الرقميّة.
3. الارتكاز على الشكّ الأوّليّ والقدرة على تعقّب وتوقّع أنماط سلوك المضلّلين، انطلاقاً من إدراك أنّ أيّ شيء في البيئة الرقميّة قابل لأن يكون مادة للتلاعب والتضليل.
4. عدم مشاركة المعلومات في حال عدم التأكّد من سلامتها، بل ودقّتها، وتنبيه الآخرين إلى خطورة ذلك.
5. تعقّب المصدر الأساسيّ للخبر وعدم افتراض صحّته تلقائيّاً حتّى لو صدر عن ناقل موثوق.
6. عدم منح الفرصة لإثارة الجدل والنقاشات الداعمة للمعلومات المضلّلة، لأنّ ذلك يعمّق رسوخها في وعي الناس.
7. تصحيح الوعي عبر تقديم معلومات وأدلّة جديدة لمواجهة المعلومات المضلّلة، وعدم الاكتفاء بوصمها بـ «عدم الصحّة».
8. إشراك الجمهور في عمليّة توليد الحجج المضادّة للتضليل، وتشجيعه على الانخراط في «مشاركة مفعمة بالأفكار»، مثل كتابة التعقيبات وتوجيه الأسئلة وإدارة المحادثات.
الحرب على الحقيقة لن تنتهي، ولا يمكن إيقافها، وإنّما يمكن تخفيف حدّة تأثيرها وتطويق تهديدها وخطرها، بل يمكن الانتصار فيها عبر التحلّي بالوعي والمسؤوليّة في التعامل مع المعلومات، خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعيّ.
(1) The Washington Post, opinions, an article: THE WAR ON TRUTH IS RAGING, by: Lee McIntyre and Jonathan Rouch, 2021.