الشيخ موسى خشاب
تعرّض المؤمنون بالله تعالى عبر التاريخ إلى ضغوطات شديدة، تتنوّع ما بين عسكريّة تستهدف القتل واحتلال الأرض وتصفية الكادر، وأمنيّة تهدف إلى كشف الثغرات وتشخيص مكامن الضعف والقوة، واقتصاديّة تبغي تجويع الناس ليرفعوا راية الاستسلام، وإعلاميّة تهدف إلى تشويه صورة المجتمع المؤمن وتصويره كمجتمع إرهابيّ تمهيداً للقضاء عليه، ونفسية تعمل على بثّ اليأس بين الناس، وناعمة من خلال تبديل المعتقدات والأولويات وصولاً إلى التغيير في السلوك.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين بمواجهة تلك الضغوطات والتهديدات بمختلف أشكالها، وأوعد الخاضعين للطواغيت والجبابرة بخسارة الدنيا والآخرة.
* مواجهة الضغوطات: واجب كفائيّ
بشكلٍ عام، يسعى الأعداء من وراء مختلف أشكال الضغوطات التي يمارسونها إلى تهديد أمن الإنسان المعيشيّ، سواء على مستوى وطنه وأرضه ومسكنه وغذائه ودوائه وسائر احتياجاته، أو على مستوى أهله وأسرته وعشيرته. ويمكن تقسيم هذه الضغوطات إلى قسمين:
1. الضغوطات الجسميّة: كالجوع والعطش والحرّ والبرد والمرض والتشرّد.
2. الضغوطات النفسيّة: كالخوف، والحزن، والقلق والاضطراب، وفقدان الأمل.
وقد تعرّض المسلمون في بداية الدعوة لهذا النوع من الضغوطات بشكلٍ كبير، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلّا أن طلب منهم مقاومتها، فأمرهم بالهجرة من مكّة إلى المدينة المنوّرة، وآخى هناك بين أهل مكّة المهاجرين وأهل المدينة الأنصار، فتقاسموا معهم بيوتهم وأموالهم، وقد مدحهم الله سبحانه وتعالى على ذلك في قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9). في هذا العصر، كما في كلّ العصور المنصرمة، تعدّ مقاومة الضغوطات بأنواعها كافّة واجباً كفائيّاً على المسلمين، وهي تقع تحت عنوان فريضة عظيمة من الفرائض الإلهيّة، وهي الجهاد في سبيل الله تعالى.
* شروط الجهاد
الجهاد هو بذل الجهد في مواجهة العدوّ. وعليه، ينبغي توفر شرطين:
1. الأوّل: بذل الجهد.
2. الثاني: أن يكون الجهاد في مواجهة العدوّ.
وعليه، يمكن استنتاج بعض المسائل من هذا التعريف:
أ. الجهاد ليس محصوراً بالقتال، بل يشمل كلّ جهد يبذله الإنسان في مواجهة العدوّ.
ب. الجهاد ليس محصوراً بالرجال، بل يشمل الجهود التي تقوم بها النساء في مواجهة العدوّ.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الذين يقومون بهذه المقاومة على المستويات كافة القتاليّة أو الأمنيّة أو الثقافيّة أو الإعلاميّة أو الاجتماعيّة وغيرها، هم مجاهدون في سبيل الله تعالى. وفي مورد كلامنا، يعدّ المقاومون للضغوطات الجسميّة والنفسيّة مجاهدين في سبيل الله تعالى، إذ إنّهم يؤدّون فريضة إلهيّة عظيمة من الفرائض التي أوجبها الله تعالى على المؤمنين.
* خصائص الجهاد
للجهاد في سبيل الله تعالى بعض الخصائص التي لا بدّ من الالتفات إليها، ليكون موافقاً لما أراده الله عزَّ وجلَّ:
1. الجهاد تحت راية وليّ الأمر: لا بدّ من أن تكون الجهود المبذولة منسجمة مع توجيهات القيادة، وأن لا تخرج عن الخطوط العامّة التي رسمها الوليّ، وذلك أنّه هو المطّلع على كلّ تفاصيل المعركة ويعلم الخطوات المؤثّرة في هذا المجال. من هنا، على المجاهدين أن يحقّقوا أهداف الوليّ، ولا يفعلوا ما يؤدّي إلى مخالفة أهداف القيادة، فقد يقدّم الوليّ على المستوى الاجتماعيّ أولويّة على سائر الأولويّات، عندها، ما على المجاهدين إلّا أن يقوموا بما يحقّق هذه الأولويّة ويقدّموها على غيرها.
2. الإبداع: ينبغي أن تكون الخطوات والإجراءات التي يقوم بها المجاهدون على المستوى الاجتماعيّ وسائر المستويات، خطوات قويّة ومؤثّرة وتؤدّي إلى إفشال مخطّط العدوّ وتحقيق مخطّط الوليّ، وهذا ما يحتاج إلى الإبداع، وذلك أنّ الجهاد يختلف عن الصلاة والصوم والزكاة والحجّ، من جهة أنّ الكيفيّة في هذه الفرائض محدّدة، في حين أنّ ثمّة مساحة للمكلّف في اقتراح الأسلوب المناسب على أولي الأمر. بالتالي، فإنّ على المجاهد أن يكون مبدعاً في الإجراءات التي يقوم بها، سواء على المستوى الإعلاميّ أو الثقافيّ أو الاجتماعيّ أو العسكريّ أو الأمنيّ، فيحقّق الأهداف بفعاليّة عالية وشاملة وفي وقت سريع أو بتكاليف غير مرهقة لموازنة الحرب.
* الجهاد بالمال والنفس أولويّة
قسّم الله تعالى الجهاد في سبيله إلى قسمين: الجهاد بالمال والجهاد بالنفس، قال تعالى: ﴿انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ (التوبة: 41). والجهاد بالمال والنفس يعني وضع كلّ الموارد الماليّة والبشريّة بتصرّف الوليّ، أو بذلها في تحقيق أهدافه، وذلك أنّ الجهاد قائم على التضحية، ولا معنى له من دون ذلك، وهذا ما نخاطب به أئمّتنا عليهم السلام في الزيارة الجامعة: «بِأَبِي أَنْتُمْ وَأُمِّي وَأَهْلِي وَمالِي وَأُسْرَتِي»(1)، وكذلك نخاطب إمام زماننا عجل الله تعالى فرجه الشريف في دعاء الندبة: «بِأَبِي أَنْتَ وَاُمِّي وَنَفْسِي لَكَ الوِقاءُ وَالحِمى»(2). والخلاصة أنّه ينبغي أن يقدّم المجاهدون كلّ الإمكانات في معركة الحقّ ضدّ الباطل.
وقد حذّر الله تعالى من تفضيل الأهل والمال والتجارة والمسكن على الجهاد، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24).
وذكر الله تعالى بعض النماذج عن الذين يحثّون على عدم بذل المال، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا﴾ (النساء: 37)، وكذلك على منع الجهاد بالنفس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ (آل عمران: 156)، وكما في قوله تعالى: ﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ (آل عمران: 154).
وقد أطلق الله تعالى على بعض هؤلاء اسم (المنافقين)، وعلى بعضهم الآخر (الذين في قلوبهم مرض). والسمة الأبرز لهاتين الفئتين أنّهما تعملان على خلاف أهداف وليّ الأمر، سواء عن قصد كما هو حال المنافقين، أو من دون قصد كالذين في قلوبهم مرض، علماً أنّ النتيجة واحدة؛ فيصدر منهم التشكيك والاعتراض والاستهزاء والسخرية والأذى، ويصبحون منبر الأعداء في قلب المجتمع الإسلاميّ، وقد أمر الله تعالى بمواجهتهم كما هو الحال مع الأعداء.
أمّا إذا أردنا إسقاط هذا الحال على واقعنا المليء بالمشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فكيف ينبغي مواجهته؟
* الجهاد الاجتماعيّ
كما مرّ معنا آنفاً، فالجهاد ليس محصوراً بذاك العسكريّ فحسب، وإنّما لكلّ مشكلة وأزمة نوع جهاد خاصّ بها. وللتصدّي للضغوطات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ينبغي:
1. مواجهة حركة المنافقين: إنّ المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض يزيدون من حدّة المآسي الاجتماعيّة من خلال الاحتكار مثلاً، أو استغلال ظروف الناس الصعبة، أو التشكيك بقيمة التضحيات وتأثيرها، أو عدم القدرة على الصمود في مواجهة العدوّ، أو عدم التعاطف قلبيّاً وإنسانيّاً مع الناس.
وعلى المجاهدين في الميدان الاجتماعيّ، كما في سائر الميادين، أن يواجهوا حركة المنافقين والذين في قلوبهم مرض من خلال نهيهم عن ذلك، وخصوصاً أولئك الذين لا يقف طمعهم واحتكارهم عند حدّ، فيستغلّون الأزمات لمراكمة ثرواتهم وأرباحهم على حساب الطبقة الفقيرة. وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام في وصف الطمع: «لا شيمة أذلّ من الطمع»(3)، والاحتكار: «الاحتكار شيمة الفجّار»(4) للدلالة على مدى قبحهما وخطورتهما.
2. التكافل الاجتماعيّ: وقد حثّ الله تعالى على دعم حركة المؤمنين ومؤازرتهم من خلال اقتراح الحلول للمشكلات المختلفة والعمل بها. لذلك، لا بدّ للمجاهدين في الميدان الاجتماعيّ من أن يحثّوا على إحياء مجموعة من القيم، وهي من أسمى أنواع الجهاد التي تساعد بشكل كبير في تجاوز الأزمات الاجتماعيّة، من قبيل:
أ. المواساة: أي أن يساعد المرء أخاه على الخروج من شدّته وضيقته فيواسيه بماله، ويعطيه ما يرفع به حاجته. عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «المواساة أفضل الأعمال»(5). وفي الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من كان له قميصان فليلبس أحدهما وليُلبس الآخر أخاه»(6).
ب. الإيثار: أي أن يقدّم الانسان حاجة أخيه على حاجته، قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر: 9). والإيثار أرفع درجة من المواساة، وذلك أنّ المؤثر يقدّر أنّ حاجة أخيه أشدّ من حاجته فيقدّم له ما يملكه ويؤثره به على نفسه، وفي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: «غاية المكارم الإيثار»(7).
إنّ المجتمع الذي تسود فيه قيم المواساة والإيثار هو مجتمع متماسك، وهو منتصر في كلّ الشدائد والأزمات لا محالة.
1- مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمّي، ص 787.
2- المصدر نفسه، ص 771.
3- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 537.
4- المصدر نفسه، ص 23.
5- المصدر نفسه، ص 47.
6- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 5، ص 54.
7- عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 237.