الشيخ محمود كرنيب
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ (المؤمنون: 1-3).
ذكر الله تعالى في هذه الآية أموراً لها علاقة بالاستفادة المثلى والكاملة من الوجود الدنيويّ للإنسان؛ أوّلها الخلفيّة العقديّة وهي الإيمان، وثانيها العبادة بشرط كمال مراتبها ومؤثريّتها المعبّر عنه بالخشوع: ﴿فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾، وثالثها ترك كلّ ما ليس بحقّ من كذب في العدل وباطل في العمل والمعتقد والأفكار: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾.
وممّا سبق، نستنتج أنّ فلاح الإنسان بعد الإيمان يكون بالصلاة، وتحديداً صلاة الخاشعين. فما هي هذه الصلاة؟ وما هي موانع حصولها؟ وهل ثمّة عوامل تساعد في تحقيقها؟
•الخشوع: إحضار القلب
أشارت الروايات إلى الخشوع بكونه إحضاراً للقلب في الصلاة في أفعالها وأقوالها، وجعلت ذلك ميزان قبولها وعلامته، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: "لا يقبل الله صلاة عبد لا يحضر قلبه مع بدنه"(1).
وعن الصادق عليه السلام: "إذا أحرمت في الصلاة فأقبل إليها، لأنَّك إن أقبلت أقبل الله إليك، وإذا أعرضت أعرض الله عنك، فربّما لا يُرفع من الصلاة إلّا ثلثها أو ربعها أو سدسها بقدر ما أقبل المصلّي إليها، وإنّ الله لا يعطي الغافل شيئاً"(2). بتعبير أوضح: إنّ قيمة الصلاة هي في مؤثريتها على نفس الإنسان في دنياه وآخرته، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لا صلاة له، وكذلك يفترض أن تُخرج الصلاة المصلّي من حالة الغفلة إلى حالة الانتباه والذكر والإحساس بحضوره تعالى ورقابته وألطافه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه: 14).
•موانع الخشوع في الصلاة
كثيراً ما يتبادر إلى أذهاننا سؤال يحيّرنا ويقلقنا وهو: لماذا لا نوفّق غالباً للخشوع في الصلاة؟ وإذا وُفّقنا إلى شيء منه، سرعان ما نفقد كلّ ذلك التوفيق أو جزءاً منه، فما هي أسباب ذلك؟
سنعرض بإيجاز بعض موانع الخشوع في الصلاة، وهي:
1. المعاصي والذنوب: روي أنّ رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال: "يا أمير المؤمنين، إنّي قد حُرمت الصلاة بالليل، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك"(3).
ومعنى ذلك أنّ المعصية تلوّث القلب وتشوّش بصيرته وتكدّر صفاءه. فإن كان للذنوب هذا الأثر الذي وصفه الكتاب بالرين في قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين: 14)، عندها، لن تخشع هذه الجوارح المتمرّدة الملوّثة بالمعاصي. وكذلك، فإنّ القلب لن يخشع بسبب تلوّثه وعدم صفائه، إذ إنّه محروم من رؤية عظمة الله ليخضع لهذه العظمة.
2. المال الحرام: إنّ كلّ ما يكتسبه الإنسان من مال يدخل في مسكنه ولباسه وطعامه وشرابه، فذلك له آثار في روحه وقلبه. أمّا إذا كان كسب المال عن طريق الحرام، فهذا سينعكس على علاقة الفرد بصلاته ويمنع حصول الخشوع فيها؛ إذ لا شكّ في أنّ ذلك سيؤثّر في إقبال القلب على العبادة، ويُثقل خُطى الإنسان العباديّة، ويترك ظلمته على القلب فيسلبه نقاءه ويفسح للشياطين أن تغزوه بوساوسها وتزيّناتها.
وفي المرويّ عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ما ينصّ على ذلك إذ قال عليه السلام: "إذا اكتسب الرجل مالاً من غير حلّه ثمّ حجّ فلبّى، نودي: لا لبّيك ولا سعديك، وإن كان من حلّه فلبّى نودي: لبّيك وسعديك"(4).
وجاء في حديث لأمير المؤمنين عليه السلام: "يا كميل، اللسان ينزح القلب، والقلب يقوم بالغذاء، فانظر في ما تغذّي قلبك وجسمك، فإن لم يكن حلالاً لم يقبل الله تسبيحك ولا شكرك"(5)؛ فالقوّة التي بها يقدر الإنسان على أيّ عمل -ومنه الصلاة- مستمدّة من غذائه وشرابه، فكيف يؤمّل من طاقة مسمومة ملوّثة أن توصل إلى الخشوع ويقظة القلب؟!
3. الهموم والانشغالات والمشتّتات: سواء كانت ناتجة عن أمور قلبيّة كحبّ الدنيا والمال والحسد والعداوة والهموم، أو بدنيّة كالجوع أو التخمة؛ لأنّ امتلاء البطن يُثقل همّة الفرد فيمنعه عن أداء الصلاة بتوجّه وخشوع، أو مشوّشات ومشتّتات خارجيّة تفتح للخيال باب التحليق خارج فضاء الصلاة وصريحها ومنها الصور والتماثيل والأصوات والألوان وغيرها، فكلّها قد تمنع الإنسان من الخشوع والتنعّم بنعمة الصلاة بين يدي الله تعالى، أضف إلى ذلك وجود أمور أخرى مثل النعاس والتعب والحزن والمرض وحديث النفس وغير ذلك، فيكون كلّ ذلك سبباً لشرود الذهن؛ فبمجرّد أن يكبّر للصلاة تتفتّح أمامه سوق الدنيا، وتتواتر إلى ذهنه الأفكار، وتتجاذبه المغريات والأحلام، وتلعب به الآمال والمخاوف، وتداعبه الخيالات والتصوّرات، فلا يلبث أن يكتشف أنّه لم يكن في الصلاة، بل كان سارحاً في سياحة بين آماله ومخاوفه ومطامعه.
•عوامل تساعد على الخشوع
في مقابل موانع الخشوع في الصلاة، ثمّة العديد من العوامل التي تساعد في تحقيق الخشوع فيها، نذكر منها:
1. إيقاظ القلب وإفهامه:
أ. أهميّة الصلاة: فالصلاة عمود الدين، ومن دونها لا يستقيم للدين بنيان، وهي مظهر دين الإنسان ووجهه. لذا، لا بدّ من إعطائها ما تستأهله من الأهميّة والتعظيم والأولويّة، ويجب أن نوليها حقّها من العناية، فلا نقدّم عليها أيّ أمر من أمور دنيانا يمكن أن يصرفنا عنها، وعلينا أيضاً الاهتمام بظاهر الصلاة والسعي إلى تحصيل أهدافها والمأمول منها وهو القرب من الله تعالى: "الصلاة قربان كلّ تقيّ"(6).
ب. بين يدي من نصلّي: فالصلاة على حدّ تعبير الإمام الخمينيّ قدس سره ثناء على المعبود بجميع صفاته وأسمائه، فالمصلّي واقف بين يدي ربّ الأرباب ملك الملوك يمدحه ويثني عليه بما علمه ممّا أنزله على قلب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مؤثّر في تعظيم قدر الصلاة والاهتمام بها وبمقدّماتها، فقد روي أنّ الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام كان إذا توضّأ اصفرّ لونه فيقول له أهله: ما الذي يغشاك؟ فيقول: "أتدرون لمن أتأهّب للقيام بين يديه؟"(7). وعنه عليه السلام أيضاً: "وحقّ الصلاة أن تعلم أنّها وفادة إلى الله عزّ وجلّ وأنت فيها قائم بين يدي الله عزّ وجلّ، فإذا علمت ذلك قمت مقام العبد الذليل الحقير الراغب الراهب الراجي الخائف المستكين المتضرّع المعظم لمن كان بين يديه بالسكون والوقار، وتقبل عليها بقلبك، وتقيمها بحدودها وحقوقها"(8).
2. أن تصلّي صلاة مودّع:
أرشد الكتاب العزيز إلى ذلك بقوله: ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ* الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة: 45-46). فالآية تشير إلى أنّ ما يهوّن ثقل المسؤوليّة بإقامة الصلاة هو الخشوع، ومن صفات الخاشعين تذكّر الموت والآخرة. عن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا صلّيت صلاة فريضة، فصلّها لوقتها صلاة مُودّع؛ يخاف أن لا يعود إليها أبداً، ثمّ اصرف ببصرك إلى موضع سجودك، فلو تعلم من عن يمينك وشمالك لأحسنت صلاتك، واعلم أنّك بين يدي من يراك ولا تراه"(9).
3. التأدّب بآداب الصلاة الظاهريّة:
إذا ما أراد المرء أن يؤدّي صلاته بخشوع، فلا بدّ من أن يتأدّب بآداب الصلاة الظاهريّة ومقدّماتها كالوضوء وتجهيز المكان، وإتيانها في أوّل وقتها، ثمّ القيام بالتعقيبات التي تفيد إن شاء الله في إحضار القلب.
4. التفكّر في أفعال الصلاة وأذكارها:
ينبغي تدبّر معاني آيات القرآن وتحويلها إلى حالة شعوريّة، وهذا ما جاء في صفة المتّقين في علاقتهم مع تلاوة القرآن: "يُحزّنون به أنفسهم..."(10).
5. إزالة المشتّتات:
ينبغي أن يفرّغ المرء نفسه من كلّ شاغل باطنيّ وهمّ وغمّ وأمل وغير ذلك من أمور الدنيا، ومعالجة كلّ ما يشوّش الذهن وذلك بانتخاب المكان المناسب الخالي من الضوضاء والصور ووسائل الإعلام والاتّصال كالتلفاز والهاتف، وأن لا يعتري الجسد حالات كالجوع والتعب والحزن والهمّ، فهذه كلّها من موجبات ضعف التركيز ومن أسباب شرود الذهن المانع من حضور القلب والخشوع.
•صلاح القلب
لأنّ القلوب بيد الله، فبه استعن وعليه توكّل لإحضار قلبك في الصلاة، فإنّ الخشوع هو ثمرة صلاح القلب، ومنها معرفة قيمة العبادة وسموّ مقام العبوديّة ومعرفة المعبود الذي هو الله والشعور بحضوره: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الحديد: 4)، وكذلك ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ (غافر: 19)، وهذا من شأنه أن ينعكس خشوعاً وخضوعاً وأنساً بالعبادة، وتحديداً الصلاة.
1.بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج81، ص 242.
2.جامع أحاديث الشيعة، السيّد البروجردي، ج5، ص36.
3.الكافي، الشيخ الكليني، ج 3، ص 450.
4.المصدر نفسه، ج 5، ص 124.
5.بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 74، ص 417.
6.الكافي، مصدر سابق، ج 3، ص 265.
7.بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 46، ص 74.
8.من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج2، ص619.
9.الأمالي، الشيخ الصدوق، ص329.
10.المصدر نفسه، ص767.