لقاء مع فضيلة الشيخ إبراهيم بلوط
حوار: الشيخ موسى منصور
بين عبوديّة الإنسان ورحمة الله تلازم وارتباط، وبينهما علاقة الأثر بالمؤثّر: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا﴾ (الكهف: 65). فإذا كانت وظيفة الإنسان هي العبوديّة، فإن النتيجة الحتميّة هي الرحمة الإلهيّة بمقتضى قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود: 119). وكلّما اتّسعت دائرة العبوديّة، تتّسع معها دائرة الرحمة إلى أن تصل إلى أقصى درجاتها كما في كربلاء، حيث مشهديّة الطاعة والعشق ومظهر الخضوع للمولى بأبهى صوره، فتجلّت العبوديّة بأكمل تجليّاتها: "صبراً على قضائك، ولا معبود سواك"(1)، فكان الإمام الحسين عليه السلام "رحمة الله الواسعة".
وقد التقينا في مجلّة بقية الله بالخطيب الحسينيّ سماحة الشيخ إبراهيم بلوط للحديث عن هذا الموضوع.
* أوّلاً: ارتباط الإمام الحسين عليه السلام برسالة نبيّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم
1. الإسلام كما يقال "محمّديّ الوجود حسينيّ البقاء". استناداً إلى هذا القول، أين نلمح الرحمة المحمّديّة في الحركة الحسينيّة، خاصّة أنّ الله تعالى وصف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه رحمةٌ للعالمين؟
هذه العبارة هي للعلّامة المقدّس الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، وهي مستقاة من قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي رواه الفريقان: "حسينٌ منّي وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط"(2).
أمّا "حسين منّي"، فهي نسبة إلى حقيقة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا، لم يقل: حسين من جسدي، فالحسين عليه السلام من هذه الحقيقة. وتعني أيضاً أنّ تجلّي هذه الرحمة كان بعد فاطمة وعليّ عليهما السلام بالحسن عليه السلام، وبعده بالحسين عليه السلام. من هنا، فإنّ كمال هذه الرحمة واستمرارها كان مُجَسّداً في الإمام الحسين عليه السلام. وإنّ هذه الرحمة لا تقتصر على الجانب الماديّ، فرفع العذاب مثلاً، والمغفرة، والطمأنينة، وقبول التوبة، كلّها مصاديق للرحمة الإلهيّة.
2. لماذا سُمّي الإمام الحسين عليه السلام بالرحمة الواسعة كما ورد في زيارته؟
يجب أن نلحظ في مقام عطاء الإمام الحسين عليه السلام جوانب عدّة: المعطي، والعطاء نفسه، والعطيّة، والمُعطى إليه. ولكي نحيط علماً بهذا الأمر نعود إلى القاعدة القرآنيّة: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ (الرحمن: 60). حينما يطالبنا الله عزّ وجلّ بأن نقرضه قرضاً حسناً، هل ينحصر هذا الأمر بالقرض الماديّ أم ثمّة شيء أعظم من ذلك اسمه الإيثار؟
لا ينبغي أن نأخذ هذا العطاء بلحاظ ماديّته ومقداره مجرّداً عن الداعي، والعطاء، والحاجة إلى هذا العطاء، والمعطى إليه. فقد كان هدف الإمام عليه السلام أن يبقى دين الله ويستمرّ، وإنّ حفظ هذا الدين يقوم بهذا العطاء.
الحوراء زينب عليها السلام تقول: "أم عجبتم أن أمطرت السماء دماً؟". كانت تدرك بكاء السماء لأنّها تعرف مقام الإمام عليه السلام؛ فهو حجّة الله على خلقه.
لذلك، وردت في بعض زيارات الإمام الحسين عليه السلام: "أشهد أنَّ دمك سكن في الخُلْد، واقشعرت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق..."(3). هذا سببه العطاء الذي قدّمه الإمام الحسين عليه السلام لله تبارك وتعالى، إلى درجة قوله عليه السلام: "إن كان هذا يرضيك فخُذْ حتّى ترضى".
من هنا، نقول: يا رحمة الله الواسعة، فالرحمة الواسعة مظهرها الحسين عليه السلام على مستوى الانجذاب إليه والحزن عليه والبكاء لمصابه، وأيضاً على مستوى الثورة على الظلم.
* ثانياً: نيل الرحمة كرامةٌ للإمام الحسين عليه السلام
3. انطلاقاً من قول: "رحم الله من أحيا أمرنا"، ما هي مظاهر تلك الرحمة التي تنال محيي الأمر؟ ولماذا يستوجب إحياء عاشوراء الرحمة؟
إنّ إحياءنا لذكر أهل البيت عليهم السلام عبر عاشوراء ومجالس العزاء واللطم والحزن، وتسمية أولادنا بأسمائهم، من قبيل محمّد، فاطمة، علي، حسن، حسين، زينب، عباس،... كلّ هذا إحياء لأمرهم، واستمرار لوجودهم. وهذه المجالس تبثّ الوعي وتحرّك العقل إلى جانب العاطفة، وتساهم في التبليغ والإرشاد حتّى تقف مواقف الإمام الحسين عليه السلام في الوقت الذي يلتهب قلبك حزناً على مصابه عليه السلام، وبذلك تكون محيياً للشعيرة حقّاً.
أين تنالنا الرحمة في كلّ هذا؟ من يحضر مجلس العزاء يكون على استعداد تامّ للتعلّم والاكتساب والفهم بكل وجدانه، فيكون الحسين عليه السلام باباً لاستقاء هذه القيم والعلوم، لأنّ الحديث عنه عليه السلام يرتبط بوجداننا، فيحضر بذكره القلب والحواس كلّها. وبهذا، يكون الحسين عليه السلام قد غرس في كلّ منّا "الاستعداد والتنبّه"، وهو دور صعب يقوم به كلّ مربٍّ، أمّا الباقي فيصبح سهلاً. هذا أوّلاً. وثانياً، الأمّة التي تحيي قيم الإمام الحسين عليه السلام هي أمّة عزيزة قويّة، تعلّمت منه عليه السلام إباء الضيم، فيصعب حينها أن يذلّها مستكبر؛ فيصبح النصر الذي نعيشه واحداً من وجوه الرحمة الحسينيّة أيضاً.
4. ما هي خصوصيّة زوّار الحسين عليه السلام؟ وكيف تتجلّى رحمة الله بهم؟
إنّ مظاهر الرحمة كثيرة وعظيمة ينالها كل مُحِبّ: فأن يؤلمك قلبك لمصابه فذلك له أجر وثواب، ونَفَسك في هذه الحالة يكون عبارة عن عبادة وتسبيح. فكيف إذا بكيت أو دمعت عينك؟ قبل أن تجري الدمعة على خدّك تنال الأجر، وإذا جرت تلك الدمعة فذلك له أجر أيضاً، وإذا نزلت على خدك فهذا أجر آخر. وإذا مضيت إلى الحسين عليه السلام زائراً؛ فتنال في كلّ خطوة رفعة درجة ومغفرة سيّئة وكسب حسنة. هذه كلّها مظاهر رحمة، وفي الروايات ينقل أنّ من زار الحسين عليه السلام "كان كمن زار الله في عرشه"(4).
لقد كان الأئمّة عليهم السلام يدعون لزوّار قبر الحسين عليه السلام بالرحمة، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "فارحم تلك الوجوه التي قد غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلّبت على حفرة أبي عبد الله عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمةً لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا، وارحم الصرخة التي كانت لنا. اللهم إنّي أستودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتّى نوافيهم على الحوض يوم العطش"(5).
5. ثمّة خصوصيّات للإمام الحسين عليه السلام، منها أنّه قد جُعِل الشفاء في تربته. لماذا خُصّ الإمام عليه السلام بذلك؟
إنّ خصوصيّات الإمام الحسين عليه السلام كثيرة، منها:
أ. خصوصيّة تربة الإمام الحسين عليه السلام: إنّ السجود على تربة الإمام الحسين عليه السلام مظهر رحمة كذلك، وهو يخرق الحجب السبعة، وينعكس خشوعاً وانقياداً وطاعة وانجذاباً إلى الله تبارك وتعالى.
ب. بركة غبار زوّاره عليه السلام: حتّى الغبار الذي يُحدثه زوّار الحسين عليه السلام له خصوصيّة. يُنقل أنّ أحد مراجعنا العظام بلغ من العمر ستّاً وثمانين سنة وكان يشكو ألماً في عينه، فلم يستطع أن يداويها، فيقول: "أُلهمت أن آخذ غباراً من زوّار الحسين عليه السلام، مسحتها على عيني، انتهى الوجع..."، ولم يضع بعدها نظّارات.
ج. التداوي بتربته عليه السلام: في تربة الإمام الحسين عليه السلام الشفاء، لذا ورد في روايات يذكرها صاحب الوسائل(6): "من لا تداويه تربة الحسين عليه السلام، فلا دواء له".
هذه الخصوصيّات كانت بسبب العطاءات التي قدّمها الإمام الحسين عليه السلام في الظروف الصعبة التي عاشها، وطبعاً لو كان الإمام الحسن عليه السلام أو غيره من الأئمّة عليهم السلام مكانه، لكان قدّم كلّ واحد منهم ما قدّمه الإمام الحسين عليه السلام؛ إذ إنّه عليه السلام أعطى كلّ ما يمكن أن يعطيه إنسان، وقدّم كلّ ما يملك، فقوبل بهذه الرحمة الإلهيّة. وفي ذلك دلالة لنا على أنّ حركة الإمام الحسين عليه السلام مفصليّة في حياة الأمّة، فلم يكن ليستمرّ الدين لولا تلك الشهادة الخاصّة جدّاً.
* ثالثاً: الحسين عليه السلام يوم المحشر
6. كثير من الروايات يتحدّث عن حضور الإمام الحسين عليه السلام يوم المحشر. مَنْ الذين ينالون شفاعته؟ وما هي مواطن تلك الشفاعة؟
تقول بعض الروايات إنّ الإمام الحسين عليه السلام يأتي جثّةً بلا رأس يوم المحشر، وتحضر فاطمة عليها السلام "وإنّها لتشهق شهقة، فلا يبقى في السماوات مَلَك إلّا بكى رحمةً لصوتها"(7). كذلك ثمّة قميص ممزّق يُرفع، وغيرها من الأمور التي تحصل في ذلك الوقت. إنّ أبواب الشفاعة واسعة، لكن لا ينبغي أن يكون ثمّة مانع يحول دون حصولها: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ (الأنبياء: 28). من المقصود بـ "ارتضى"؟ هم الشهداء الذين لديهم وضع خاصّ مع الإمام الحسين عليه السلام يومها، والذي يطعم على حبّ الإمام الحسين عليه السلام، وذلك الذي يعينك، ويساعدك في العزاء، ويشارك في بعض المواكب، والذي دمعت عينه، وزار الإمام الحسين عليه السلام ولو عن بُعد،... كلّ هؤلاء يمكن أن ينالوا الشفاعة التي هي مظهر رحمة مفتوح وكبير، فكيف إذا كان الحديث عن شفاعة من سُمّي "رحمة الله الواسعة"؟!
جعلنا الله ممن ينالون شفاعته يوم القيامة.
(1) الشيخ الريشهري، أهل البيت في الكتاب والسنة، ص 290.
(2) ابن ماجة، السنن، ج 1، ص 51.
(3) الشيخ الكليني، الكافي، ج 4 ص 576.
(4) ابن قولويه، كامل الزيارات، ص 278.
(5) الشيخ الكليني، مصدر سابق، ج 4، ص 583.
(6) راجع: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج14، ص522.
(7) ابن قولويه، مصدر سابق، ص 178.