مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها أذكار | شهر رمضان المبارك آخر الكلام | الأوراق المغلّفة الافتتاحية | ما أفضل أعمال شهر رمضان؟ القرآنُ مشروع حياة

كيف نثبت وجود الإمام المهـديّ عجل الله فرجه الشريف؟(2)

السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر قدس سره
 

تناول العدد الماضي الدليل "الإسلامي" في إثبات وجود إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وأنّه الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت المعصومين عليهم السلام، وأنّه وُلد وحيٌّ يرزق، لكنّه غاب عن أمّته غيبتين، صغرى وكبرى.
يعرض هذا المقال الدليل الثاني "العلمي"، الذي يتكوّن من تجربة عاشتها أمّةٌ من الناس، فترةً امتدت سبعين سنة تقريباً؛ وهي فترة الغيبة الصغرى.
لتوضيح ذلك، نمهّد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى.

•الغيبة الصغرى: تمهيدٌ وتدريجٌ للقواعد
إنّ الغيبة الصغرى تُعبّر عن المرحلة الأولى من إمامة القائد المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ فقد قُدّر لهذا الإمام منذ تسلّمه الإمامة أن يستتر عن المسرح العامّ، ويظلّ بعيداً باسمه عن الأحداث، وإن كان قريباً منها بقلبه وعقله.
وممّا لا شكّ فيه، أنّنا إذا افترضنا حصول الغيبة الممتدّة الكبرى بشكل مفاجئ، فإنّها ستحقّق صدمة كبيرة للقواعد الشعبيّة للإمامة في الأمّة الإسلاميّة؛ لأنّ هذه القواعد كانت معتادة على الاتّصال بالإمام في كلّ عصر، والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوّعة، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأةً، وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحيّة الفكريّة، سبّبت هذه الغيبة(1) المفاجئة الإحساس بفراغٍ دفعيّ هائل، قد يعصف بالكيان كلّه ويشتّت شمله، فكان لا بدّ من تمهيد لهذه الغيبة؛ لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها.
وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى، التي اختفى فيها الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف عن المسرح العامّ، غير أنّه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طرق وكلائه ونوّابه والثقات من أصحابه، الذين يشكلّون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطّه الإماميّ(2).

•سبعون عاماً: رسائل النوّاب بخطّ واحد
شغل مركز النيابة عن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف في هذه الفترة أربعة ممّن أجمعت تلك القواعد الشعبيّة على تقواهم وورعهم ونزاهتهم، وهم:
1. عثمان بن سعيد العمريّ.
2. محمد بن عثمان بن سعيد العمريّ.
3. أبو القاسم الحسين بن روح.
4. أبو الحسن علي بن محمّد السمريّ.
وقد مارس هؤلاء الأربعة مهام النيابة بالترتيب المذكور، وكلّما مات أحدهم خلفه الآخر الذي يليه، بتعيين من الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وكان النائب يتّصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، ويعرض مشاكلهم عليه، ويحمل إليهم أجوبته عجل الله تعالى فرجه الشريف شفهيّة أحياناً وتحريريّة(3) في كثير من الأحيان. وقد وجدت الجماهير، التي فقدت رؤية إمامها، العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتّصالات غير المباشرة، ولاحظت أنّ كلّ التوقيعات والرسائل كانت ترد من الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بخطّ واحد وسليقة واحدة(4)، طيلة نيابة النوّاب الأربعة، التي استمرّت نحو سبعين عاماً. وكان السمريّ هو آخر النوّاب، الذي أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغرى، التي تتميّز بنُوّاب معيّنين، وابتداء الغيبة الكبرى، التي لا يوجد فيها أشخاص معيّنون بالذات لوساطة بين الإمام القائد عجل الله تعالى فرجه الشريف والشيعة.

•التحوّل في النيابة
لقد عبّر التحوّل من الغيبة الصغرى إلى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافها وانتهاء مهمّتها؛ لأنّها:
1. حصّنت الشيعة بهذه العمليّة التدريجيّة من الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
2. استطاعت أن تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة، وتُعدّهم بالتدريج لتقبّل فكرة النيابة العامّة عن الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وبهذا، تحوّلت النيابة من أفراد منصوصين(5) إلى خطّ عامّ(6)؛ وهو خطّ المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين؛ تبعاً لتحوّل الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى.

• الغيبة الصغرى تجربة علميّة
والآن، بإمكانك أن تقدّر الموقف في ضوء ما تقدّم، لكي تدرك بوضوح أنّ المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف حقيقة عاشتها أمّة من الناس، حيث:
1. عبّر السفراء والنوّاب عن نيابتهم للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف طيلة سبعين عاماً (مدة طويلة) من خلال تعاملهم مع الآخرين: الزهد، التواضع، الورع، التقى..
2. لم يلحظ عليهم أحدٌ كلّ هذه المدّة تلاعباً في الكلام، أو تحايلاً في التصرّف، أو تهافتاً في النقل.
3. كلّ التوقيعات والرسائل كانت ترد من الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بخطّ واحد وسليقة واحدة.
فهل تتصوّر -بربّك- أنّ بإمكان أكذوبة أن تعيش سبعين عاماً، ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلّهم يتّفقون عليها، ويظلّون يتعاملون على أساسها وكأنّها قضيّة يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم، دون أن يبدر منهم أيّ شيء يثير الشكّ، ودون أن يكون بين الأربعة علاقة خاصّة متميّزة، تتيح لهم نحواً من التواطؤ، ويكسبون من خلال ما يتّصف به سلوكهم من واقعيّة ثقة الجميع، وإيمانهم بواقعيّة القضيّة التي يدّعون أنّهم يحسّونها ويعيشون معها؟!
لقد قيل قديماً: إنّ حبل الكذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أنّ من المستحيل عمليّاً، بحساب الاحتمالات، أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل، وكلّ هذه المدّة، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء، ثمّ تكسب ثقة جميع من حولها.

•التسليم المطلق
وهكذا، نعرف أنّ ظاهرة "الغيبة الصغرى" يمكن أن تعدّ بمثابة تجربة علميّة لإثبات ما لها من واقع موضوعيّ، والتسليم بولادة الإمام القائد المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وحياته وغيبته، وإعلانه العامّ عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح، ولم يكشف نفسه لأحد.
 
(*) مقتبس من كتاب: بحث حول المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ص 94- 112.
1. إشارة إلى الغيبة الكبرى.
2. راجع: السيّد ثامر العميدي، دفاع عن الكافي، ج 1، ص 568 وما بعدها.
3. وهذه تُعرف بالتوقيعات، وهي الأجوبة التحريريّة والشفويّة التي نُقلت عن الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف. راجع: الشيخ الطبرسي، ج 2، ص 523 وما بعدها.
4. رأينا وسمعنا أنّ كثيراً من الأدباء وقارئي الأدب يميّزون، بمجرّد قراءة النصّ شعريّاً كان أم نثريّاً، أنّه لفلان أو لفلان، وما ذلك إلاّ لأنّ لكلّ كاتبٍ سمةً وطابعاً خاصّاً في كتابته يمكن تمييزه من غيره، هذا فضلاً على تميّز خطّه الشريف عجل الله تعالى فرجه الشريف من غيره من الخطوط.
5. إشارة إلى النوّاب الأربعة المذكورين.
6. وهو ما اصطلح عليه بـ (المرجعيّة الدينيّة)، ويلاحظ هنا الصفات التي يرى الإمام الشهيد لزوم توفّرها في المرجعيّة.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع