السيّد الشهيد عبد الحسين دستغيب قدس سره
إنّ علامة سلامة قلب الإنسان أن يكون عالماً كلّ العلم ومطمئنّاً بثبوت الحقّ وصحّته. كما أنّ علامة مرض القلب التردّد والحيرة في حقّانيّة الحقّ وبطلان الباطل.
وإنّ من يشكّ في ما تشهد فطرته ووجدانه والبرهان وعقله على صحّته، هو حتماً أعمى القلب محروم من نعمة البصيرة، وأهمّ ما يجب عليه أن يفعله بحكم الشرع والعقل هو علاج مرض شكّه.
• خطورة مرض الشكّ
يقول تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ (التوبة: 125)؛ أي الذين في قلوبهم مرض تزيدهم آيات الله رجساً. أمّا الذين تكون قلوبهم سليمة، فإنّ هذه الآيات الإلهيّة تزيد نورَ معرفتهم وبصيرتهم، كالعطر الذي يبعث في الإنسان السليم النشاط والفرح ويقوّي الشمّ والإدراك عنده، بينما الشخص المبتلى بالزكام يستاء من هذا العطر ويزداد زكامه.
عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه سُئل عن قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 89)، فقال: "القلب السليم الذي يلقى ربّه وليس فيه أحد سواه (...)، وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط"(1).
• الشاكّ في الله
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ﴾؛ أي بعض المسلمين ليس إيمانهم بالله والرسول والقيامة إيماناً قلبيّاً واعتقاداً يقينيّاً وتصديقاً علميّاً، ﴿اطْمَأَنَّ بِهِ﴾؛ ثبت على الدّين، ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ كالفقر والمرض ﴿انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾؛ أي يترك إيمانه ويرجع إلى حالته الأولى، ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾؛ لأنّه في الدنيا ساقطٌ ومبتلى، وفي الآخرة يواجه العذاب، و﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (الحج: 11).
قيل في تفسير المنهج: ومن الناس من يعبد الله ويوحّده على حرف التوحيد وحافّته لا في وسطه؛ أي أنّه لا ثبات له على الإسلام، بل هو شاكّ متردّد، وبسبب عدم امتلاكه العلم بالتوحيد؛ فهو معرّضٌ للانحراف لدى مواجهة أقلّ شبهة، فيكون على الحافّة ولم يتقدّم إلى الوسط بقلب قويّ.
إنّه في تردّده وشكّه، وعدم سكون نفسه، وعدم اطمئنانها، كجنديّ يقف على طرف المعركة، منتظراً أن ينتصر الجيش؛ ليدخل ويشارك في الغنائم، وفي حال انهزم الجيش، يكون جاهزاً للفرار.
• نموذج
وفي تفسير أبي الفتوح: نزلت هذه الآية في جماعة من الأعراب قدموا إلى المدينة وآمنوا إيماناً مجازيّاً وظاهريّاً لا إيماناً أو اعتقاداً قلبيّاً علميّاً، وكانوا إذا لم تصبهم مصيبة أو مرض أو آفة وزاد مالهم ووضعت نساؤهم حمْلها بخير وكذلك خيلهم، قالوا: محمّد هذا رجلٌ مبارك ودينه هذا دينٌ حقّ واعتناقنا لهذا الدين صواب، وإذا حدث خلاف ذلك، مرضوا أو ماتت مواشيهم، قالوا: محمّدٌ هذا رجلٌ غير مبارك، ولا أصل لدينه، ونحن منذ دخلنا هذا الدين لم نرَ إلّا الضرر .
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الشكّ والمعصية في النار"(2) .و"من شكّ في الله بعد مولده على الفطرة، لم يفيء إلى خير أبداً"(3).
ويقول الإمام الباقر عليه السلام: "لا ينفع مع الشكّ والجحود عمل"(4).
• الشاكّ والهلاك الأبديّ
من المسلّم به أنّ الإنسان إذا مات على الشكّ والظنّ، أي إذا خرج من الدنيا بلا إيمان، ولم يأخذ معه علمه بالله، فهو هالكٌ تماماً، ولا نصيب له في النجاة أبداً، وإذا كانت طباعه سيّئة وأخلاقه رذيلة، وأفعاله طالحة، فلا خلاص له من عذابها. والعكس صحيح، إذا غادر الإنسان الدنيا عالماً بالله مؤمناً به، فلن يكون الهلاك الأبديّ نصيبه حتماً، فلن يبقى في النار إلّا غير المؤمنين. أمّا المؤمنون الذين يرتكبون أعمالاً سيّئة، فهم إمّا أن يوفّقوا للتوبة وإصلاح أنفسهم في الدنيا، أو تنقذهم شفاعة قادة الدين، أو أنّهم يتعذّبون في النار بمقدار ما يُطهّر ذنوبهم، والله أعلم بذلك، ثمّ ينجون من النار، ويدخلون الجنّة، ويلتحقون بالمؤمنين.
• الأعمى لا يرى الشمس
قد يسأل سائلٌ: إنّنا نرى أكثر بني البشر يشكّون في الله، بل إنّ أصحاب اليقين والاطمئنان في غاية القلّة، والقرآن المجيد يقول: ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا﴾ (الحج: 7)، ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ (البقرة: 2)؛ أي لا مجال للشكّ فيهما أبداً مع أنّ كثيراً من غير المؤمنين يشكّون في القيامة، وغير المسلمين كلّهم يشكّون في القرآن. كيف ذلك واليقين بالله فطريّ؛ فيجب أن يشمل جميع البشر؟
الجواب: إنّ الله تعالى، والقرآن والقيامة حقائقُ هي عين الحقّ والحقيقة، بحيث إنّ أصحاب الفطرة السليمة والعقل الصريح لا يسوّغون الشكّ فيها، تماماً كمن له عين يرى بها الشمس، فلا يسوّغ الشكّ فيها. أمّا الذين يشكّون في هذه الحقائق الثلاثة، فهم مبتلون بمرض نفسيّ، أي أنّهم فقدوا فطرتهم الأولى، وأعمى غبش الشهوات والهوى والنزوات عيون قلوبهم، بحيث لا يمكنهم رؤية الحقيقة؛ كالأعمى أو السجين في سجن مظلم، يشكّ في طلوع الشمس. نعم، إنّ ما يملأ كيان هؤلاء هو الشكّ والاضطراب، لا الحقّ.
إنّنا إذا تأمّلنا في أحوال أهل الشرك، لوجدنا أنَّ شكّهم ناتج عن أنّهم لا يريدون أن يعرفوا الحقّ؛ لأنّهم لو كانوا حقّاً يريدون ذلك، وتأمّلوا بعين الاعتبار في أجزاء عالم الوجود، ونظروا في دلائل الحكمة والقدرة فيه، لما ظلّوا على شكّهم أبداً.
• تأمّلوا جيّداً في كتاب الوجود
أهل الشكّ مثلهم كمثل قوم، وقع في يدهم كتاب قيّم، كُتبت مضامينه بخطّ جميل، وطُبع طباعة أنيقة، فانشغلوا بتأمّل الخطّ وجماله، وبالورق وطباعته. أمّا أهل اليقين، فمثلهم كمثل جماعة يدركون بقراءة مضامين هذا الكتاب عظمة مقام مؤلّفه العلميّ، ومدى قدرته على سبك المعاني العميقة في قوالب لفظيّة جميلة؛ لأنّ من كانت روحه متجلّية، فكلّ العوالم لديه كتاب الحقّ تعالى.
(*) مقتبس من كتاب: القلب السليم، ج1، ص171-179.
1. الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 16.
2. المصدر نفسه، ج 2، ص 400.
3. المصدر نفسه، ج 2، ص 400.
4. المصدر نفسه، ج 2، ص 400.