نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: زينب أمهز.
محلّ الولادة وتاريخها: مقراق 27/5/1988م.
الوضع الاجتماعيّ: متأهّل وله ولد.
مكان الاستشهاد وتاريخه: فليطة 17/12/2015م.
من بلدة "مقراق" النائية، التي تغفو بين أحضان النسيان والإهمال في البقاع الشماليّ، ولد مهدي، الابن التاسع لعائلة من عشرة أبناء، روحها مجبولة بحبّ أهل البيت عليهم السلام، وعقيدة المقاومة، أمّا خبزها فمغمّس بالتعب والكدّ؛ فالوالد مزارع تارةً، وبنّاء تارة أخرى، فانطلق معه أبناؤه إلى العمل بعمرٍ مبكر، ومنهم ولده الصغير مهدي.
•شقاوة الطفولة
تميّز مهدي في طفولته بكثرة حركته وجرأته اللافتة؛ فقد أحبّ يوماً أن يقلّد أحد الأبطال الخارقين، فصعد إلى سطح المنزل وقفز على تلٍّ من الحصى، ولكنّه وبحمد الله لم يتعرّض لأيّ كسور! وكلّما كبر زادت جرأته. وعُرف عنه منذ صغره بأنّه يأخذ حقّه بيده إذا ما اعتُدي عليه، كما أنّه ألزم نفسه بعدم تجاوز حدود الأدب واللياقة مع الآخرين.
•طفولة حافلة
لم يكن في القرية من مدرسة سوى ابتدائيّة فقيرة، لا تُغني ولا تُسمن إلّا من فكِّ الأحرف والقراءة، وهذا ما ناله مهدي من العلم؛ فالحالة الاقتصاديّة الصعبة، وبُعد المدارس الخاصّة، فرضا عليه الاكتفاء بالقراءة والكتابة، ليبدأ العمل بيديه الصغيرتين بالزراعة والبناء، شأنه شأن إخوته الكبار.
ومن يرافق الكبار يكبر قبل أوانه، وتنحت الصعاب روحه كما جسده. وقد ولّدت هذه المرافقة إلى العمل علاقة قويّة بين الإخوة، فشدّوا إزر بعضهم بعضاً، واهتمّوا بأخيهم مهدي وكأنّه ولدهم؛ فعلّمه أخوه الكبير الصلاة والأحكام الشرعيّة قبل بلوغه سنّ التكليف، فهم من بيتٍ ملتزمٍ ومجاهد وبيئة تربّت على فكر الشهيد السيّد عبّاس الموسوي (رضوان الله عليه) الثقافيّ والجهاديّ.
لم يختصر العمل حياة الفتى مهدي، ولم يؤخّره التعب عن المشاركة في إحياء المناسبات الدينيّة أو الذهاب إلى المسجد للصلاة، وقد التحق بكشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، حيث بدأ ببناء ثقافته الدينيّة، وكان انضمامه إليها نقلة نوعيّة على الصعيدين الثقافيّ والفكريّ، خصوصاً وأنّه شخص مبادرٌ ومبتكر ونشطٌ جدّاً، فتدرّج من شبلٍ إلى قائدٍ، ثمّ إلى مساعدٍ لعميد الفوج لاحقاً.
وكما كان لافتاً تديّنه الفطريّ، كان لافتاً أيضاً مواظبته الدائمة على كلّ ما ألزم به نفسه؛ فتسلم لفترة من الزمن مسؤوليّة رفع الأذان في مسجد البلدة، وقراءة دعائَي التوسّل وكميل في المسجد بصوته الحسن الذي كان يترك أثراً في القلب، وكذلك قراءة القرآن خلال الاحتفالات وإحياء المناسبات.
•شابّ لا يتعب
لم يكد مهدي يخطو أولى خطواته في عمر الشباب، حتّى التحق بأولى الدورات العسكريّة، ليبدأ بالمشاركة في بعض المرابطات والمهام الجهاديّة. وقد تأثّر كثيراً بالنصر الإلهيّ الكبير في حرب تمّوز2006م، وكان دافعاً له للالتحاق رسميّاً بصفوف المجاهدين، فعمل تحت إمرة الشهيد القائد ناصر العيتاوي "أبو الفضل"، وقد لفت نظر الجميع بشجاعته، وسرعة بديهته، وفطنته، وقدرته على الابتكار لتخطّي الصعاب. وقد اهتمّ كثيراً بتثقيف نفسه، حتّى أصبح على دراية عالية بالشؤون العسكريّة.
كان مهدي يُشبهُ كثيراً النبات البعليّ، الذي نما في ظروف قاسية، فصار طعمه أطيب وفائدته أكبر؛ فتراه صلب العود قويّاً، دائم الحركة لا يهدأ، فإذا عاد من المحور، لا يلقي بجنبه على فراش الراحة، بل يلتحق مباشرة بالعمل في الورشة، أو يساعد أحد الجيران في بعض الأعمال، أو يحمل بندقيّة صيده ليمشي باتّجاه الجرود، ولم يمنعه عن ذلك قيظ صيفٍ أو قرّ شتاء، مجتازاً المسافات الطويلة، ليس لأجل الصيد فحسب، بل حبّاً بالاستكشاف؛ ففضوله الكبير ساعده على معرفة الكثير من الأشياء، كما زاد من شجاعته وجرأته.
•كتمان شديد
تزوّج مهدي ورُزق بطفل تعلّق به أيّما تعلّق، وفرح لأنّه سيترك في هذه الدنيا قطعة منه، تذكّر به. وكان في حياته الزوجيّة متعاوناً ومحبّاً وودوداً، وكلّما عاد من الجبهة، حاول تعويض عائلته عن أيّام غيابه.
كان مهدي رقيقاً على والديه وإخوته، وسعى في خدمتهم حتّى آخر لحظات حياته. وعلى الرغم من علاقته الوطيدة بأفراد عائلته، إلّا أنّه بقي ذلك الشابّ الكتوم بالنسبة إليهم، لا يعرفون شيئاً عن عمله سوى لحظات الوداع والعودة. وكذلك الأمر لمّا تزوّج، فقد أحاط عمله بسرّيّة وكتمان شديدين، وخصوصاً بعد أن بدأت حرب الدفاع عن المقدّسات في سوريا، والتي انطلقت من القرى الحدوديّة بعد أن سيطرت عليها جبهة النصرة.
عُرف مهدي بكرمه الشديد، على قلّة ذات يده، فلو لم يكن معه إلّا الذي في جيبه، ما بخل به على من يحتاج، فهو الودود الحنون على الجميع، صاحب الابتسامة الدافئة، الخدوم في الميادين الشخصيّة والجهاديّة، إذ كان يحضّر الطعام لرفاقه في المحور، وخصوصاً في شهر رمضان المبارك.
•حصار صعب
عند بدء حرب الدفاع عن المقدّسات، كان مهدي قد أنهى دورات عسكريّة بمستويات عالية، فالتحق بالجبهة مدافعاً عن حرم العقيلة عليها السلام في الشام، ومن ثمّ انتقل إلى محاور عديدة، كان خلالها رجلاً شديد البأس، ومقداماً لا يعرف الخوف. وقد حوصر ومجموعة من المجاهدين في الغوطة الشرقيّة، بمئات من الدواعش الذين بدأوا بهدم البيوت بحثاً عن المجاهدين، وكان من القلّة الذين استطاعوا الخروج من ذلك الحصار القاسي.
عاش مهدي أيّاماً من التعب والجوع والحصار خلال حرب الدفاع عن المقدّسات، ولكن ذلك لم يزده إلّا عزيمة على مواجهة التكفيريّين. ولم تجبره الليالي الصعبة على تفويت صلاة الليل التي واظب عليها دائماً. وكان في اللحظات الصعبة والمواجهات القاسية يقاتل وهو ينادي بأسماء أهل البيتعليهم السلام ويطلب منهم المدد والنصر. وكم كان مشهد استشهاد الكثير من رفاقه أمامه قاسياً عليه! وفي إحدى المواجهات التي أصيب خلالها، استشهد جميع من كان معه، باستثنائه ومقاوم آخر. وعندما استشهد رفيق دربه الشهيد محمّد علي علاء الدين، أخبرهم مهدي أنّه أوّل اللاحقين به من البلدة، وأوصى أن يُدفن إلى جواره.
•منية الشهادة
حان الوداع الأخير، فقام مهدي بزيارة جميع إخوته وتفقّد أحوالهم، كما اتّصل برفاقه وجيرانه. وقبل أن ينطلق إلى عمله، زار والدته وسلّم عليها، وأخبرها أنّه لن يعود من سوريا هذه المرّة، فخفق قلبُها قلقاً وشعرت بصدق قوله، وما لبث أن وجّه وجهه نحو القبلة ورفع يديه نحو السماء سائلاً الله تعالى أن يمنّ عليه ويرزقه الشهادة ليلتحق برفاقه الشهداء.
وكان له ما سأل، فقد استشهد مهدي في مواجهة قاسية مع العدوّ التكفيريّ في جرود فليطة، لينهي مسيرة الجهاد، تاركاً الكثير من الذكريات الجميلة في قلوب أهله وعائلته، ودُفن بالقرب من مرقد صديقه كما طلب.
•حيّ عند ربّه
قبل استشهاده، كان مهدي قد أعطى والدته كلفة زيارة مرقد الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام. وبعد شهادته، رأت في المنام أنّها في حضرة الإمام عليه السلام، وقد التقت هناك بحبيبها مهدي، فسألته إن كان لا يزال حيّاً، فردّ بالإيجاب، فكان جوابه كبلسمٍ لقلبها المشتاق لرؤيته دوماً.