السيّد حسين أمين السيّد
قد يتصوّر الإنسان أنّه حرّ في حياته وتصرّفاته، أو على الأقلّ حرّ في مقدّراته وماله. وبما أنّه يصعب على الإنسان الانضباط فيما بين يديه، فكان لا بدّ من الإرشاد الإلهيّ والتشريع الواضح للعباد، حول كيفيّة التعاطي مع ما خوّله الله سبحانه في استعماله والاستفادة من نتائجه. من هنا، ظهر مفهوم الإسراف الذي اندكّ فيه التشريع الفقهيّ مع السلوك التربويّ والبُعد الأخلاقيّ والاجتماعيّ. فما هو الإسراف من وجهة نظر الإسلام؟ وكيف يريدنا الله أن نتعاطى مع ما سخّر لنا من نِعَم؟
•ما المقصود من الإسراف؟
1. الإسراف في اللغة: "تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر"(1). ويُفهم من ذلك أنّ الإسراف، وإن استُعمل عادةً وعرفاً في الأمور الماليّة، إلّا أنّه في الحقيقة يشمل الكثير من شؤون حياة الإنسان. وعرّف الإسراف أنّه: "تجاوز في الكميّة، فهو جهل بمقادير الحقوق"(2).
2. في القرآن الكريم: قدّم القرآن الكريم هذا التعبير في آيات عدّة، منها: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31). ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ (الإسراء: 33). ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: 53).
وعليه، تُعلم القاعدة الشرعيّة العامّة في الإسراف: فإن كان ما يقدّمه الإنسان في سبيل الله تعالى وفيه مرضاة لله عزّ وجلّ، فلا إسراف فيه ولا تبذير، لأنّ ما قدّمه ذهب في محلّه وصُرف في وجهته الصحيحة ولا يعدّ تضييعاً للحقّ والمال، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا خير في السرف ولا سرف في الخير"(3). وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "الإسراف مذموم في كلّ شيء إلّا في أفعال البرّ"(4).
•الاقتصاد أصلٌ إسلاميّ
سأل أحد الأشخاص الإمام الصادق عليه السلام عن أدنى الإسراف فقال: "إنّ القصد أمر يحبّه الله عزّ وجلّ وإن السرف يبغضه، حتّى طرحك النواة فإنّها تصلح لشيء، وحتّى صبّك فضل شرابك"(5). واللطيف في الرواية ذكره عليه السلام نواة التمر؛ فكلّنا يرميها ولا يعيرها اهتماماً، ولكن الإمام عليه السلام يدعونا إلى النظر فيها قبل رميها، فإن كان لها وجه استفادة فلا يحقّ لنا إهدار هكذا فائدة. وكذلك عند شربنا الماء، يبقى في القدح شيء قليل فنرميه، ولكن هذا من الإسراف؛ فيمكن لنا إن أردنا التخلّص من فضول شرابنا أن نسقي به شجرة أو نبتة أو حيواناً، فحتّى هذا المقدار سنُسأل عنه ونُحاسب عليه. ومن أسوأ ما يراه المرء عند الاحتفالات العامّة حيث توزّع قوارير الماء على الناس، فترى من يأخذ العديد منها فيشرب القليل ويرمي القارورة بما بقي فيها من ماء؛ فبعد أن ينال ثواب المشاركة في إحياء الأمر، يحمل وزر هدر الماء وإسرافه!
•موارد الإسراف الماديّ
ثمّة مجموعة من موارد الإسراف في حياتنا اليوميّة التي نبّه الإسلام إلى تجنّبها أو ترشيدها كي لا تعدّ إسرافاً، وهي:
1. الإسراف في الطعام: من أهمّ المستحبّات الواردة في الشرع إطعام الطعام، وبحمد الله ما زالت هذه السنّة جارية في مجتمعنا، لكنّها قد تخرج عن الحدّ المطلوب، فتتحوّل من عنوان الكرم إلى عنوان السرف، مثلما عندما تصبح النيّة نيل رضى الناس واستحسانهم، وانطلاق ألسنتهم بالمدح والثناء، أو إطعام الطعام لفئة معيّنة من الناس، فلا يحضر إلّا الوجهاء، ويُبعَد الفقراء وأهل الحاجات والأيتام، أو إقامة الولائم تزلّفاً لتحصيل منصب أو مكانة.
كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاريّ وهو عامله على البصرة: "ما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعوّ فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه"(6).
2. الإسراف في الماء: الماء من الموارد الأساسيّة في الحياة، وهو ضروريّ لبقاء الإنسان، وهو شرط في صحّة عدد من العبادات، كالوضوء والغسل، وقد نبّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "في الوضوء إسراف وفي كلّ شيء إسراف"(7). ومن الخطأ هدر مياه الحنفيّة المفتوحة ونحن منشغلون في إيصال الماء إلى تمام الوجه واليدين، وكذلك في الغسل، فقد ورد أنّ وضوء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمقدار مدّ من الماء وغسله بمقدار صاع فقط. لذلك، ينبغي التنبّه إلى أنّ الوضوء والغسل من أبواب التقرّب إلى الله، ومع الإسراف يصبحان من أبواب البُعد عنه تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام: 141). وكذلك نبّه الإسلام من الإسراف في ماء الاستعمال والخدمة، فعدم صيانة هذه النعمة قد يكون سبباً في زوالها والحرمان منها.
3. الإسراف في نمط الحياة: قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31). ينبغي أن لا يتحوّل الإسراف إلى نمط حياة المؤمن، كأن تكدّس الألبسة وتفيض عن الحاجة، ولا تسعها الخزائن، فهذا من نتائج "إدمان التسوّق"، فنشتري الكثير من الأشياء والملابس للترويح فقط عن النفس، واكتساب رضى الناس والتباهي بما نملك وما لدينا، ونظهر ممّن يراعي أمور الموضة وصرعات مصنّعي الألبسة، وبعضنا قد يلبس الثوب لمرّة واحدة خوفاً من الانتقاد.
وقد نملك العديد من الألبسة، ولكنّها كلّها مورد حاجة واستعمال، فلا ضير في ذلك، فعن الإمام الكاظم عليه السلام، وقد سُئل عن عشرة أقمصة يملكها الفرد: أهي من الإسراف؟ فقال عليه السلام: "لا، ولكن ذلك أبقى لثيابه. ولكن السرف أن تلبس ثوب صونك في المكان القذر"(8).
•موارد إسراف معنويّ
ليس كلّ الإسراف في موارد الحياة والمادّيات، فقد تكون أفعالنا مصداقاً للإسراف أيضاً حين تخرج عن حدّها المطلوب، مثل:
1. الإسراف في أخذ الحقّ: كلّنا قد نتعرّض للظلم، وكلّنا يحبّ أن يأخذ حقّه ممّن ظلمه، إلّا أنّه عندما يُفتح لنا ذلك الباب فلا يجوز لنا أن نتعدّى حقّنا نتيجة العصبيّة وحبّ الثأر، فالله سبحانه حدّد لنا حدوداً، وجعل علينا ضوابط شرعيّة، فلا يجوز أن نتعدّاها. وقد يبرّر من قُتل له أحد أن يثأر له ممّن قتله، ولكن لا يشفي غليله قتل القاتل، بل يستهدف كلّ من ظفر به من عائلته فيقتل العديد من أفرادها، والأنكى أنّ القاتل قد يبقى حيّاً، وتجرى المصالحات فيُعفى عنه، ففي أيّ شرع هذا؟! فيما يقول الله تعالى: ﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ (الإسراء: 33).
2. العطاء في غير مكانه: أن يعطي الإنسان شيئاً يتنافى مع ما يريده الله، فيحوّل المستحبّ إلى ضروريّ، فيما يترك الواجب. فلا صدقة وذو رحم محتاج، ولا صدقة وأولادنا في حالة عوز أو حاجة، فنضيّق على العيال لأجل صرف في غير موضعه، فنرى بعض الناس يصرفون في الاحتفالات العامّة مبالغ طائلة، ويتركون أهاليهم في ضيق، فأين الأولويّات الدينيّة؟!
•آفات الإسراف
للإسراف آثار سلبيّة على المؤمن، وعلى علاقته بالله تعالى، وعلى نفسه ومجتمعه، نذكر بعضها:
1. خسران محبّة الله تعالى: قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام: 141).
2. يشمل المسرف مع أخوّة الشيطان: قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ (الإسراء: 27).
3. يورث الفقر: عن أبي عبد الله عليه السلام: "يا عبيد، إنّ السرف يورث الفقر"(9).
4. يمحق البركة: عن أبي عبد الله عليه السلام : "إنّ مع الإسراف قلّة البركة"(10).
5. يُفني المال: عن الإمام عليّ عليه السلام: "الإسراف يفني الجزيل"(11).
6. يُغفل عن صلاح النفس: عن أبي عبد الله عليه السلام: "ويح المسرف ما أبعده عن صلاح نفسه واستدراك أمره"(12).
•كيف نعالج آفة الإسراف؟
من الواضح أنّ الحلّ يحتاج إلى العديد من المسائل تتضافر فيما بينها لتحقّق للإنسان مخرجاً من هذه الآفة القاتلة للخير والإحسان وحرماننا منهما، منها:
1. البحث بصدق وشفافيّة في أعمالنا لنرى إذا كنّا من أهل الإسراف والتبذير أم لا، لأنّ إنكار المرض يمنع من الدخول في العلاج. ولا نغترّ بالتبريرات النفسيّة والشيطانيّة، التي تحاول تزيين أعمالنا الباطلة لنبقى في دائرة الحرمان والخسران.
2. اعتماد الميزان القرآنيّ في الصرف والإنفاق، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ (الفرقان: 67)؛ فنعتمد الحدّ الوسط فلا إفراط ولا تفريط، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ (الإسراء: 29).
3. النظر في آثار الإسراف والتبذير.
4. عدم مجالسة المسرفين والمبذّرين؛ لأنّ المرء على دين خليله، فمن جالسهم أخذ منهم، ويكفيك غفلة أنّنا نترك معهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كسباً لودّهم وخوفاً من الحرمان من مجالسهم.
5. مطالعة سيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام وأهل الإيمان الخالص، والاقتداء بهم والسير على نهجهم.
6. تذكّر الموت والآخرة؛ لنعلم أنّ ما نسرف فيه ونبذّره هو خسران يوم القيامة.
ختاماً: الدنيا مزرعة الآخرة، وكلّ ما نبذره في حياتنا الدنيا، سوف نحصده في تلك الحياة الأبديّة. فلماذا نحرم أنفسنا من ذلك المقام الرفيع ابتغاء لذّة زائلة؟!
1.الأصفهاني، المفردات، ص 407.
2.الجرجاني، التعريفات، ص 51.
3.العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 165.
4.الشيخ الريشهري، ميزان الحكمة، ج2، ص 1296.
5.المصدر نفسه، ج 2، ص 1296.
6.نهج البلاغة، ج 3، ص 70.
7.الشيخ الريشهري، مصدر سابق، ج 2، ص 1296.
8.العلّامة المجلسي، مصدر سابق، ج 77، ص 165.
9.الشيخ الكليني، الكافي، ج 4، ص 53.
10.الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 21، ص 556.
11.الشيخ الريشهري، مصدر سابق، ج 2، ص 1295.
12.الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 15، ص 266.