الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر قدس سره
إنّ طول عمر الإنسان وبقاءه قروناً متعدّدة أمر ممكن منطقيّاً وعلميّاً، ولكنّه لا يزال غير ممكن عمليّاً، إلّا أنّ اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل.
هي الخلاصة التي توصّلنا إليها في العدد السابق، ويبقى أن نربط هذه المسألة بالعمر الشريف للإمام المهديّ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي أحيط به الكثير من الاستفهام والاستغراب.
* إمكان عمليّ
بعد أن ثبت إمكان هذا العمر الطويل منطقيّاً وعلميّاً، وثبت أنّ العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظريّ إلى إمكان عمليّ تدريجاً، فلا يبقى للاستغراب محلّ، إلّا استبعاد أن يسبق المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف العلم نفسه، أي أن يستبعد المشكّكون أن يتحوّل الإمكان النظريّ إلى إمكان عمليّ في شخصه عجل الله تعالى فرجه الشريف قبل أن يصل العلم في تطوّره إلى مستوى القدرة الفعليّة على هذا التحويل؛ لكنّه أمرٌ ممكنٌ في الواقع وحاصل؛ فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف أدوية الأمراض المستعصية كالسرطان مثلاً.
ولكن كيف سبق الإسلام -الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف- حركة العلم في مجال هذا التحويل؟
* الإسلام سابق للعلم
الجواب: ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم. أوليست الشريعة الإسلاميّة ككلّ قد سبقت حركة العلم والتطوّر الطبيعيّ للفكر الإنسانيّ قروناً عديدة؟ أوَلم تنادِ بشعارات طرحت خططاً للتطبيق، والإنسان لم ينضج للتوصّل إليها في حركته المستقلّة إلّا بعد مئات السنين؟ أوَلم تأتِ بتشريعات في غاية الحكمة، لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكمة فيها إلّا قبل برهة وجيزة من الزمن؟ أوَلم تكشف رسالة السماء أسراراً من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان، ثمّ جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟
فإذا كنّا نؤمن بهذا كلّه، فلماذا نستكثر على مرسل هذه الرسالة -سبحانه وتعالى- أن يسبق العلم في تصميم عمر الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو -سبحانه- خالق الإنسان الذي يحاول أن يكتشف حقائق الكون متوسّلاً بالعلم؟
* مظاهر السبق
نحن هنا لا نتكلّم إلّا عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نلاحظها بصورة مباشرة، ويمكن أن نضيف إلى ذلك أيضاً مظاهر السبق التي تُحدّثنا بها رسالة السماء نفسها. ومثال ذلك أنّها تخبرنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أُسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وإذا أردنا أن نفهم هذا الإسراء في إطار القوانين الطبيعيّة، فهو يعبّر عن الاستفادة من القوانين الطبيعيّة بشكلٍ لم يُتح للعلم أن يُحقّقه إلّا بعد مئات السنين. فالقدرة الربّانيّة نفسها التي أتاحت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم التحرّك السريع قبل أن يُتاح للعلم تحقيق ذلك، أتاحت لآخر خلفائه المنصوصين العمر المديد، قبل أن يُتاح للعلم تحقيق ذلك.
* لماذا الاستغراب؟!
نعم، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف يبدو غريباً في حدود المألوف حتّى اليوم في حياة الناس، وفي ما أنجز فعلاً من تجارب العلماء. ولكن، أوَليس الدور التغييريّ الحاسم الذي أُعدّ له هذا المنقذ غريباً عن المألوف في حياة الناس؟ أوَليس قد أنيط به عجل الله تعالى فرجه الشريف تغيير العالم، وإعادة بنائه الحضاريّ من جديد على أساس الحقّ والعدل؟ فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإنّ غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديداً، لا يفوق بحال غرابة الدور العظيم نفسه الذي يجب في اليوم الموعود إنجازه.
فإذا كنّا نستسيغ ذلك الدور الفريد تاريخيّاً، على الرغم من أنّه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان، فلماذا لا نستسيغ ذلك العمر المديد الذي لا نجد عمراً مناظراً له في حياتنا المألوفة؟!
وهل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانيّة من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيكون لكلّ منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتياديّة أضعافاً مضاعفة؟ أحدهما مارس دوره في ماضي البشريّة، وهو النبيّ نوح عليه السلام، الذي نصّ القرآن الكريم على أنّه مكث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاماً، وقدّر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد، والآخر يمارس دوره في مستقبل البشريّة، وهو المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، الذي مكث في قومه حتّى الآن أكثر من ألف عام، وسيقدّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد. فلماذا نقبل نوحاً عليه السلام الذي ناهز عمره ألف عام على أقلّ تقدير، ولا نقبل المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؟
(*) مقتبس من كتاب: بحث حول المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ص 19-30.