الشيخ موسى خشّاب
"بينما كان (شيخ ناسك من بني إسرائيل) يصلّي وهو في عبادته، إذ بصر بغلامَين صبيّين، قد أخذا ديكاً وهما ينتفان ريشه، فأقبل على ما هو فيه من العبادة، ولم ينههما عن ذلك، فأوحى الله إلى الأرض أن سيخي بعبدي، فساخت به الأرض"(1).
إنّ في هذه القصة عبرة، وهي أنّ الصلاة لا تنفع الذين لا يشعرون بآلام الآخرين، قال تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ* الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ* وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ (الماعون: 4-7)، والسبب كما يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّ "القلب القاسي بعيد من الله"(2)، ولا يستجيب الله دعاءه، كما عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يستجيب دعاء بظهر قلب قاس"(3).
* اغتنم شبابك قبل هرمك
لا تتحقّق قسوة القلب بين ليلة وضحاها، بل تتكوّن شيئاً فشيئاً مع الأيّام، قال تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (الحديد: 16)؛ فمع تقدّم العمر يزداد قلب الإنسان قسوة، وتقلّ نسبة التأثّر عمّا كان عليه في سنّ الشباب، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم"(4). فلا شكّ ولا ريب أنّ من أهمل قلبه سيصاب بقسوة القلب، وممّا يؤكّد هذه المسألة ما ورد في وصيّة الإمام عليّ لابنه الإمام الحسن عليه السلام: "فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك"(5)، فالقلب كجبلة الطين التي إن تُركت ولم تُستخدم في موضعها جفّت ويبست، وقد ورد في دعاء يوم عرفة في الصحيفة السجّاديّة: "ولا تمدد لي مدّاً يقسو معه قلبي".
وتكمن خطورة مرض قسوة القلب في أنّه يمكن أن يحوّل حامله إلى جبّار في الأرض، ففي الرواية أنّ امرأة كانت تلتقط الأرواث من الطريق، فطلب منها أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إفساح الطريق ليمرّوا، فأبت، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "دعوها فإنّها جبّارة"(6).
* ثلاث خطوات لقلب رحيم
يحتاج الإنسان أن يحقّق الانسجام بين عمله ونيّته وفكره، أي أن ينسجم عمله مع نيّته، وينسجم عمله ونيّته مع فكره ونظرته للأمور. وعلى هذا الأساس، فإنّ السعي لامتلاك قلب رحيم لا بدّ أن يكون على مستويات ثلاثة:
1. النظرة الرحيمة: إنّ نظرة المؤمنين إلى الوجود نظرة تفاؤليّة، ولذلك فقد سمّى الله أصحاب اليمين "أصحاب الميمنة"، أي اليُمن، فيما أطلق على أصحاب الشمال "أصحاب المشأمة"، أي الشؤم. ونظرة اليُمن هي نظرة رحمة، تدفع إلى التواصي بالرحمة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ* أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ (البلد: 17-18). وفي هذا المجال، يقول الإمام الخمينيّ قدس سره في وصيّته لابنه السيّد أحمد: "بنيّ: إذا استطعت، بالتفكّر والتلقين، فاجعل نظرتك إلى جميع الموجودات، وخصوصاً البشر، نظرة رحمة ومحبّة". ويضيف الإمام قدس سره: "لِمَ لا يكون من شملته العنايات والألطاف والمحبّة الإلهيّة موضعاً لمحبّتنا؟!"(7).
2. النية الرحيمة: قد يقوم بعض الناس بإظهار المودّة والرحمة للآخرين من دون أن يصاحبها تفاعل باطنيّ، فيبذلون التودّد والاحترام من باب المجاملات، إلا أنّه لا قيمة لهذه الأفعال ما لم تكن نابعة من القلب ومن نيّة رحيمة، فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "نيّة المؤمن خير من عمله"(8). وقد يقوم بعض الناس بأفعال رحيمة كالكدّ على العيال وخدمة المنزل مثلاً، ولكنّها تكون مصحوبة بالتأفّف والتذمّر والشكوى، والله تعالى يقول: ﴿قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى﴾ (البقرة: 263).
يقول السيّد المسيح عليه السلام: "ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم، كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة معطلة، فأسرعوا إلى بيوتكم المظلمة فأنيروا فيها، كذلك أسرعوا إلى قلوبكم القاسية بالحكمة قبل أن ترين عليها الخطايا فتكون أقسى من الحجارة"(9).
3. الأفعال الرحيمة: من خلال اتّباع أحكام الشريعة الإلهيّة التي بُنيت على الرحمة في كلّ مجالات الحياة، مثل إكرام الأولاد، وبرّ الوالدين، وإكرام الضيف، وحُسن الجوار، وصلة الأرحام، وإعانة الضعفاء،... فهذه الأعمال تجعل القلب رحيماً، وتصنع مجتمعاً متراحماً. وفي هذا المجال، نشير إلى أمرين أساسيّين يؤثّران بشكلٍ كبير على قساوة قلوبنا وليونتها:
أ. نمط الحياة: ولنضرب لذلك مثلين، عن نمط الحياة الغربيّ ونمط الحياة الإسلاميّ، فنرى أنّ نمط الحياة الغربيّ يميل إلى الاستقلاليّة والفرديّة، فيما يميل نمط الحياة الإسلاميّ إلى الاجتماع والتعاون. وقد ترك نمط الحياة الغربيّ المبنيّ على الإعراض أثره السلبيّ على تواصل أفراد العائلة واجتماعهم واهتمامهم، ممّا أدّى إلى ضعف الارتباط العائليّ، وانعدام التعاطف بين أفراد الأسرة، فيما نمط الحياة الإسلاميّ مبنيّ على الإقبال والرحمة والتراحم، وقد نهى الإسلام عن الحياة الفرديّة وحارب حياة العزوبيّة، كما نهى أن يأكل الإنسان زاده وحده أو ينام في بيت وحده، كما شدّد على تماسك الأسرة، وحذّر من خسارتها في الدنيا والآخرة: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ (الزمر: 15).
ب. بين الرحمة والغضب: كما أنّ إظهار الغضب مع الأعداء في ميدان القتال يحتاج إلى شجاعة، فإنّ إظهار الرحمة في البيت يحتاج أيضاً إلى شجاعة، كالتعبير عن مشاعر الحبّ بين الزوجين، ومساعدة الرجل زوجته في أعمال المنزل، وتقدير جهود كلّ من الزوجين للآخر. وقد أمر الله تعالى بإكرام الأولاد والعطف عليهم، من خلال تقبيلهم، واحتضانهم، والتصابي لهم، وملاعبتهم، وتعليمهم الأدب، وإعانتهم، وقبول ميسورهم، والعفو عن معسورهم، واتّباع منهج التسامح معهم، والمغفرة لهم حين يفعلون ما يثير الغضب، وذلك أنّ من عوامل قسوة القلب كثرة الغضب؛ فالوجه العبوس، وضيق الصدر، والتذمّر والتأفّف، وصولاً إلى الصراخ والضرب، كلّها عوامل تقسي قلب الإنسان. وقد يوسوس الشيطان أنّ هذا الأسلوب ضروريّ لتربية الأولاد تربية صالحة، وفي المرّة التالية، يتمّ إعطاء جرعة غضب زائدة، فيعلو الصراخ ويشتدّ الضرب أكثر، ويصبح هذا الأمر عادة، وشيئاً فشيئاً يُصاب الإنسان بمرض قسوة القلب، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لا يَرحم لا يُرحم"(10).
* يا مقلّب القلوب
لقد وهب الله تعالى لنا قلباً، وقد سُمّي كذلك لكثرة تقلّبه؛ فهو شديد الحساسيّة والتأثّر. وكلّ فعل من أفعالنا يترك أثره في القلب، ولذلك، يجب أن ننتبه إليه دائماً، ونبعد عنه كلّ ما يؤذيه.
وثمّة مجموعة أمور تجنّب قسوة القلب، منها:
1. قصر الأمل: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من يأمل أن يعيش غداً فإنّه يأمل أن يعيش أبداً، ومن يأمل أن يعيش أبداً يقسو قلبه"(11).
إنّ معنى طول الأمل عدم توقّع الموت في القريب، ومعنى قصر الأمل أن لا نعدّ أنفسنا بغدٍ جديد. وفي الحقيقة، نحن لا نملك دليلاً واحداً على أنّنا سنكون يوم غد من الأحياء، وهذا لا يعني أن نعدّ أنفسنا من الذين سيموتون حتماً فيه، بل يعني أن نضع احتمالاً في كلّ يوم أن لا نكون من الأحياء في اليوم التالي، وهو احتمال واقعيّ.
2. الخواطر: وهي التي تأتي عن طريق النظر (كتصفّح الهاتف) أو السمع (كالاستماع إلى اللهو، مثل الغناء واللغو)، فيما يؤدّي استماع الكلام النورانيّ إلى ليونة القلب، قال تعالى: ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ (الزمر: 23).
3. الفضول: وهي ما زاد عن حاجاتنا كالأكل الزائد، والكلام الزائد، والصيد من غير حاجة، وادّخار ما لا نحتاجه، خصوصاً مع وجود من هو أكثر حاجة إلى ذلك.
4. الأفعال القاسية: كذبح الحيوانات، وكما ورد حال الدفن من كراهة إهالة التراب من ذي رحم على المتوفى، ويقابلها المسح على رأس اليتيم، وإعانة الضعفاء، والتباكي على مصائب العترة الطاهرة، وغيرها.
5. زاد الجسم: كلّ ما يدخل الجسم يؤثّر في الروح والقلب، كأكل الإنسان وشربه وملبسه، فهناك أطعمة تقسّي القلب، كإدمان أكل اللحم وأكل النيء منه. وفي المقابل، ثمّة أطعمة تؤدّي إلى تليين القلب كالعدس، والسلق، والخسّ، وغيرها. كما ورد أنّ لبس الحرير يقسّي القلب، إضافة إلى أنّ المرء ينبغي أن يتنبّه إلى مصدر ما يتناوله من طعام وشراب، بأن يكون حلالاً طيّباً، فلا يتناول ما كان فيه شبهة.
بعد ما تقدّم، وللتدليل على أثر الرحمة وأهميّتها، وأنّ أهمّ ما يحققها لدينا هو ممارستها فعلاً، ما ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن"(12)، و"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"(13).
(1) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 14، ص 502.
(2) العلامة البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج 13، ص 527.
(3) الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 474.
(4) بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 10، ص 100.
(5) نهج البلاغة، ج 3، ص 40.
(6) المصدر نفسه، ص 309.
(7) نفحات ملكوتيّة، جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، ص 45.
(8) العلّامة المجلسي، مصدر سابق، ج 67، ص 206.
(9) ابن شعبة الحراني، تحف العقول، ص 506.
(10) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، ج 21، ص 485.
(11)العلّامة الريشهري، ميزان الحكمة، ج 1، ص 104.
(12) المصدر نفسه، ج 2، ص 1044.
(13) المصدر نفسه، ج 2، ص 1044.