اعلم أيّها العزيز، أن أمامنا رحلة خطرة لا مناص منها، وأن ما يلزمها من عدّة وعدد وزاد وراحلة هو العلم والعمل الصالح. فرحلة كل إنسان ليس لها موعد محدّد، وقد يكون الوقت ضيقاً جداً، فتفوت الفرصة.
إن الإنسان لا يعلم متى يُقرع ناقوس الرحيل ليعلن الانطلاق فوراً. ذلك أن طول الأمل المعشش عندي وعندك الناجم عن حب النفس ومكائد الشيطان الملعون ومغرياته، يمنعنا من الاهتمام بعالم الآخرة ومن القيام بما يجب علينا. وإذا كانت هناك مخاطر وعوائق في الطريق، فلا نسعى لإزالتها من خلال التوبة والإنابة والرّجوع إلى طريق الله، ولا نعمل على تهيئة الزاد والراحلة، حتى إذا ما أزِف الوعد الموعود اضطررنا إلى الرحيل دون زاد ولا راحلة.
إننا من دون العمل الصالح، والعلم النافع، اللذين تدور عليهما مؤونة ذلك العالم، لن نكون قد هيأنا أنفسنا لا في الزاد ولا في المؤونة. فحتى لو كنا عملنا عملاً صالحاً، فلا بد له من أن يكون خالصاً غير مشوبٍ بالغش مثلاً أو بغيره من موانع القبول الكثيرة، أو إذا كنا قد نلنا بعض العلم، فهو لا ينفعنا إذا كان علماً بلا عمل أو علماً يخالطه اللّغو والباطل، أو أنه من الموانع الكبيرة في طريق الآخرة. ذلك أن العلم والعمل لو كانا صالحين، لكان لهما تأثيرٌ حتمي وواضح فينا، نحن الذين صرفنا عليهما سنوات طوالاً، ولكانا سبباً في تغيير أخلاقنا وحالاتنا.
*قلوب أقسى من الصخر
لذلك لا بد لنا أن نسأل أنفسنا: ما الذي حصل حتى كان لعملنا وعلمنا مدة أربعين أو خمسين سنة من الزمن تأثير عكسي في قلوبنا التي صارت أقسى من الصخر؟ ما الذي جنيناه من الصلاة التي هي معراج المؤمنين؟ وأين ذلك الخوف وتلك الخشية الملازمة للعلم؟ إننا لو أُجبرنا على الرحيل ونحن على هذه الحال - لا سمح الله - لكان علينا أن نتحمل الكثير من الحسرات والخسائر العظيمة في الطريق، مما لا يمكن إزالته!
لذلك، فإن نسيان الآخرة من الأمور التي يخافها علينا وليّ الله الأعظم، أمير المؤمنين عليه السلام، ويخاف علينا من الباعث على هذا النسيان الذي هو طول الأمل، لأنه عليه السلام يعرف مدى خطورة هذه الرحلة، ويعلم ما يجري على الإنسان الذي يجب أن لا يهدأ لحظة واحدة عن التهيؤ للرحيل وإعداد الزاد اللازم، عندما ينسى العالم الآخر، أو عندما يستهويه الغفلة والنوم من دون أن يعلم أن هناك عالماً آخر، وأن عليه أن يسير إليه حثيثاً. وماذا سيحصل له وما هي المشاكل التي يواجهها.
*ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى
يحسن بنا أن نفكر قليلاً في سيرة أمير المؤمنين عليه السلام والنبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وهما من أشرف خلق الله ومن المعصومين عن الخطأ والنسيان والزلل والطغيان، لكي نقارن بين حالنا وحالهم. إنّ معرفتهما بطول السفر ومخاطره قد سلبت الراحة منهما، وإن جهلنا أوجد النسيان والغفلة فينا. إن نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم قد روّض نفسه كثيراً في عبادة الله، وقام على قدميه في طاعة الله حتى ورمت رجلاه، فنزلت الآية الكريمة تقول له: ﴿طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ (طه:1-2). وعبادات علي عليه السلام وتهجّده وخوفه من الحق المتعال معروفة للجميع.
*تنبّه أيها النائم!
إذاً، اعلم أن الرحلة كثيرة المخاطر، وأن هذا النسيان الموجود فينا ليس إلّا من مكائد النفس والشيطان، وما هذه الآمال الطوال إلّا من أحابيل إبليس ومكائده. فتيقظ أيها النائم من هذا السبات وتنبّه، واعلم أنك مسافر ولك مقصد، وهو عالم آخر، وأنك راحل عن هذه الدنيا، شئت أم أبيت.
فإذا تهيّأت للرحيل بالزاد والراحلة لم يصبك شيء من عناء السفر، ولا تصاب بالتعاسة في الطريق، وإلّا فإنك تصبح فقيراً مسكيناً سائراً نحو شقاء لا سعادة فيه، وذلّة لا عزّة فيها وفقر لا غناء معه وعذاب لا راحة منه. إنها النار التي لا تنطفئ والضغط الذي لا يلين، والحزن الذي لا يتبعه سرور، والندامة التي لا تنتهي أبداً. انظر أيها الأخ السالك إلى ما يقوله الإمام عليه السلام في دعاء كميل وهو يناجي الحق عزّ وجلّ: "وأَنْتَ تَعْلَمُ ضَعْفِي عَنْ قَلِيلٍ مِنْ بَلاءِ الدُّنْيَا وَعقُوبَاتِهَا" إلى أن يقول: "وَهذا مَا لا تَقُومُ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ"1. تُرى ما هذا العذاب الذي لا تُطيقه السماوات والأرض، الذي قد أُعدّ لك؟ أفلا تستيقظ وتنتبه!! بل تزداد كل يوم استغراقاً في النوم والغفلة؟
فيا أيها القلب الغافل! انهض من نومك وأعدّ عدتك للسفر، "فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ"2، وعمّال عزرائيل منهمكون في العمل ويمكن في كل لحظة أن يسوقوك سوقاً إلى العالم الآخر. ولا تزال غارقاً في الجهل والغفلة؟ "اللهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ التَّجَافِيَ عَنْ دَارِ الغُرُورِ، وَالإِنَابَةَ إِلَى دارِ السُّرُورِ والاسْتِعْدَادَ لِلْمَوْتِ قَبْلَ حُلُولِ الْفَوْتِ"3.
* عن كتاب الأربعون حديثاً للإمام الخميني قدس سره.
1.مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، ص130.
2.نهج البلاغة، خطبة 204.
3.مفاتيح الجنان، م. س، ص366.