الأسير المحرر علي حيدر
* وحدة وتضامن الأسرى
شكَّل معتقل الخيام إحدى الساحات التي نفذت وتنفّذ فيها اسرائيل السياسة القديمة – الجديدة (بث الفرقة) ولمّا كان الأساس الذي يشكل محور التفرقة يُحدّد وفق ظروف كل ساحة، وبحكم تركيبة المعتقل فإنس ياسة التفرقة اتسمت فيه بالطابع الحزبي والمذهبي والمناطقي و.. وكانت أدوات هذه السياسة ممثلة بالعملاء السريين والحاقدين والجهلة.
ومن الملاحظ أن الاسرائيليين قد استشرفوا أهمية تواجد الأسرى والمعتقلين في مكان واحد بشكل مسبق ويبرز ذلك من خلال التوزيع الجغرافي لهم إذ تمّ توزيعهم على عدة مبانٍ (5 مبان) منفصلة عن بعضها البعض بشكل تام وحتى أنهم في داخل المبنى الوحدة كانوا موزعين على 15 – 20 غرفة يتواجدون فيها ليلاً نهاراً ومن هنا يتضح بشكل جلي مدى خشية العدو من التواصل بين المعتقلين والتنسيق بينهم وبطبيعة الحال من وحدة موقفهم كما أنه يعتبر أنه بهذا التوزيع يمكن له الاستفراد بالعديد من الأسرى أو على الأقل المراهنة على ذلك.. إلاّ أن التساؤل الذي قد يطرح نفسه على الكثيرين ويهتمون بمعرفة الاجابة هو أنه كيف واجه الأسرى هذا الوضع؟ هل أطلقوا العنان لغرائزهم وانفعالاتهم التي تكرس وتعمق هذا التقسيم الجغرافي وتحوله إلى حدود نفسية وذهنية؟ أم أنهم تصرفوا بحكمة وصبر ورسالية؟ هنا نود أن نلفت إلى أن الأسرى عملوا على وأد الفتن والالتفاف على أي مشكلة داخلية كانت تحدث بين البعض منهم بسبب الضغط النفسي والحصر والقلق.
وإن مظاهر الوحدة تجلّت فيما تجلّت بالانتفاضات والاضرابات وغير ذلك، حيث إن هذا النوع من الافعال ما كان ليتحقق لولا وجود نوع من الوحدة بين الأسرى والمعتقلين، وإن دور وأهمية هذا العامل فيما كان يحصل من تصدٍ وتحدٍ من قبل الأسرى ليتأكد ويبرز بشكل جليّ أيضاً عندما نعلم بأنه في كثير من حالات الاضراب أو الانتفاضات، فإن إحدى الأساليب التي كان يتم اللجوء إليها من قبل الصهاينة واللحديين في مواجهة ذلك هو نقل بعض المضربين.. وتفريقهم عن بعضهم البضع ووضعهم في أقسام مختلفة.
هذا على الصعيد الجماعي، وإلى جانب ذلك فإنني أظن أن ما ينعش القلب ويوضح الرؤية هو تلك المواقف التي جسدت وتجسد الإيثار والوحدة وكل المعاني والعناوين السامية.
"في إحدى أيام الجوع الشديد المؤلم وبعد توزيع وجبة العشاء (وما هي الوجبة)؟ بادر أحد الأسرى بأخذ حصته من الطعام لإرسالها لأسير آخر موجود في غرفة أخرى (بعد أن علم بألمه الشديد) موحياً له بأنه مكتفٍ ويشعر بالشبع (مع العلم أنه جائع مثله) واللطيف أن نفس هذا الأخ (الذي أرسل إليه الطعام) كان قد حضّر طعامه لإرساله إلى الأخ (المرسل) مع العلم أن كلا منهما لم يكن يعلم في البداية بما همَّ أو يهمّ به الآخر، ترى أي كلام يمكن أن يعطي هذه الحادثة حقها من الوصف وأي كلام يمكن أن يعبّر بشكل دقيق عما كان يشعر به كل من هذين الأسيرين في أعماقهما.."
وفي حادثة أخرى:
عانيتُ في إحدى المرات من آلام شديدة جداً في الخاصرة حتى وصل الأمر إلى أن أصبحت أتلوى وأصرخ من الألم ووصل الوضع إلى مرحلة تستوجب نقلي إلى المستشفى، عندها بادر بعض الأسرى إلى مناداة ما يسمى بالشرطة العسكرية لنقلي إلى المستشفى ومعالجتي، ولكن لا حياة لمن تنادي حيث أن اللحديين أخذوا يماطلون، وبالنتيجة لم يلبوا ما طلبه الأسرى فما كان من المعتقلين الموجودين في القسم، إلاّ ان استدعوا "الشرطة" ووجهوا لهم تهديداً صريحاً بأنه إذا لم يتم نقلي إلى المستشفى سيحصل هناك انتفاضة داخل المعتقل أياً تكن نتائجها، مما دفع العملاء اللحديين إلى إعلان الاستنفار وتطويق المعتقل وبعدها أتى المسؤول العسكري للثكنة "عامر الفاخوري" وتكلم معي واعداً بنقلي ولكنهم ماطلوا، عندها قام أحد الأخوة ونادى الشرطة بأعلى صوته ولكني نهضتُ بسرعة وأسكته، لأني لم أكن أريد أن يقوموا الشباب بانتفاضة لأجلي خوفاً من سقوط شهداء أو جرحى بسببي.. وبالنتيجة لم يجرؤ اللحديون على تحدي الأسرى وإنما لبّوا مطالبهم، وتم نقلي إلى المستشفى لمعالجتي.
ومن الواضح هنا أنه لم لم يتضامن المعتقلون معي وقاموا بإتخاذ هذا الموقف لاختلف مسار الأمور.
وأخيراً إن النماذج التي تبين تضامن ووحدة الأسرى والمعتقلين كثيرة كثيرة جداً، ولكننا سنكتفي بهذا المقدار لأننا نعتبر أنه يكفي في إعطاء صورة عامة حول هذا الجانب.
* موقف وعبرة: اللطف الإلهي
في ليلة من ليالي الجمعة "في معتقل الخيام"، حين ترتفع الأكف التي هزأت بالقيود تطلب الرضا والقبول من الله وحده، رفعت يديّ نحو السماء وهممت بالبدء بتلاوة دعاء كميل، أنيس الأسرى في وحشة الزنازين ولكن علا صوت أحد العملاء وناداني.
وماذا يعني ذلك؟ يعني استدعاني إلى "التعذيب". وشاء الله أن يكون دعائي ممزوجاً بالألم وبالتعذيب على يدي أشد الناس عداوة للدين آمنوا.. وانهالت سياطئهم على ظهري بما تحمل قلوبهم من حقد، ثم قاموا بتعليقي على عامود حيث يحلو.. ويحلو متابعة الدعاء وهذا ما حصل.
وفي اليومالتالي تمّ استدعائي أيضاً لاستكمال التعذؤب وكان هذه المرة بالكهرباء مرفقاً بالضرب المبرح على ظاهر الكفين.. واستمر ذلك إلى أن تورمت يداي بحيث لم أعد قادراً على التقاط أي شيء بهما وبقيت على هذه الحال لعدة أيام.
وفي اليوم الثالث تم تعليقي في العراء وكانت تلك الليلة إحدى ليالي الصقيع في شهر شباط..
وفي اليوم الرابع: استدعاني مسؤول جهاز التحقيق المدعو "جان الحمصي" أبو نبيل ليبلغني أن كل هذا م اهو إلاّ مقدمة بسيطة جداً لما ينتظرني إذ قد صدر بحقي قرار بممارسة أقصى درجات التعذيب معي (هذا ما قاله لي) إن لم أعترف بما أملك من معلومات حول مسألة معينة.... لأنه لم يصدقوا إجاباتي على أسئلتهم.
وتم نقلي (من جديد) إلى زنزانة إفرادية طولها 90 سم وعرضها 90 سم وقال ي جان الحمصي: حاول أن تفكر خلال هذه الفترة واعتبرها فرصة وإني أحذرك...
وكنت متأكداً من أن هناك قراراً بتعذيبي كما قيل لي ولكن ما الحل؟ عندها توجهت نحو الله أدعوه لإنقاذي ولقنت نفسي بأن الأمر كله لله. وفي نفس الوقت كنت متصوراً بأني غداً سأكون إما شهيداً أو مشوهاً أو معطوباً.. وغفوت.. وحصل ما حصل معي ليلاً.. (وهنا سأحتفظ لنفسي بهذه الحادثة).. وفي الصباح طُلبت للتعذيب الموعود.. وقال لي المحقق ماذا عندك من جديد؟ (حول المسألة التي يريدون) فقلت له لا شيء وهو الكرباج المعدّ من أسلاك كهربائية على ركبتي ملتفاً حولها كالأفعى وانطلقت مني صرخة ألم.. وانطلق أيضاً على لساني كلام دون أن أكون ملتفتاً لأهميته ونتيجته، ولم أكن أعلم شيئاً في الواقع، أو على الأقل أوحى لهم بذلك، وانطلقت صرخة المحقق أيضاً: لماذا لم تقل هذا من قبل؟ فقلت له لم تسألوني عن هذا الامر ودهشت في سري لصدور هذه الجملة مني وصداها لديهم إذ بدا المحقق وكأنه بركاناً ثائراً ثم همد.
والحمد لله على ما كافاين أنه قريب مجيب الدعاء.