مجدّداً، زخرت الأجواء العامّة بذكرى تلك الشخصيّة العظيمة، ذلك الرجل العظيم، ذلك القائد الذي لا بديل عنه، ذلك القلب العطوف، تلك الإرادة الفولاذيّة، ذلك العزم المفعم بالصلابة، ذلك الإيمان العميق والنيّر، ذلك الحكيم والحصيف البعيد النظر. كلّ الشعوب، اليوم، وحتّى المستقبل البعيد، بحاجة إلى حراسة هذه الذكرى العزيزة؛ ذكرى رحيل الإمام الخمينيّ قدس سره.
كان للإمام قدس سره ابتكارات كثيرة، لكن أهمّها كان "الجمهوريّة الإسلاميّة". هذه هي السيادة الدينيّة نفسها التي صارت رسميّة تحت اسم "الجمهوريّة الإسلاميّة"، وصارت عنوان النظام الناشئ عن فكر الشّعب الإيرانيّ وإرادته، وقيادة الإمام العظيم قدس سره.
صمود الجمهوريّة الإسلاميّة واستمرارها
منذ اليوم الأوّل لتشكيل الجمهوريّة الإسلاميّة، كان المغرضون والأعداء، وأولئك الذين لا يستطيعون هضم هذه الظاهرة العظيمة وتحمّلها -في الداخل والخارج- يقولون: إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة لن تدوم شهرين آخرين، ومرّةً ستّة أشهر أخرى، وأحياناً عاماً آخر، وسوف تزول. طبعاً، صلابة الإمام العظيم قدس سره وعزيمته، ثمّ الانتصارات العظيمة للشعب الإيرانيّ في حرب السنوات الثمانية وأحداث أخرى مختلفة، أخمدت هذه الضوضاء؛ فقلّت وقلّت تدريجيّاً، وانتهت تقريباً في أواخر حياة الإمام قدس سره. ولكن بعد وفاة الإمام قدس سره، أخذ المغرضون أنفاسهم، ووجدوا أملاً، وبدؤوا تكرار أمنياتهم بصورة تنبّؤات، وكرّروا الكلمات نفسها. ولكن بحمد الله، الثورة الإسلاميّة ونظام الإمام الخمينيّ قدس سره لم ينهارا ولم يتوقّفا، بل صارا أقوى يوماً بعد يوم.
"جمهوريّة" و"إسلاميّة"
ما السرّ في هذه الديمومة وهذا التقدّم؟ ولماذا لم تواجه الجمهوريّة الإسلاميّة، رغم كلّ هذا العداء، مصير الأنظمة والثورات الأخرى؟ إنّ السرّ العظيم لهذا النظام وديمومته؛ هاتان الكلمتان: "جمهورية" و"إسلاميّة"؛ الجمهوريّة تعني الناس، والإسلاميّة تعني الإسلام طبعاً؛ أي السيادة الشعبيّة الدينيّة.
كان العمل العظيم لإمامنا العظيم قدس سره هو خلق نظريّة الجمهوريّة الإسلاميّة، وإدخالها في ميدان النظريّات السياسيّة المتنوّعة، ثمّ أضفى عليها التحقّق.
كان الإمام قدس سره إنساناً عظيماً من نواحٍ مختلفة، بما في ذلك المعرفة الدينيّة. وكان الأساس لإنشاء هذه النظريّة وتحقيقها معرفته العميقة بالإسلام، من جهة.
بالتوكّل على الله، وبالإيمان بالناس، وبالاستناد إلى تلك المعرفة العميقة بالدين الموجودة لديه، وقف الإمام قدس سره راسخاً، ومضى بهذه النظريّة، وأضفى التحقّق على هذا الابتكار العظيم في محيط المجتمع.
حاكميّة الدين في القرآن
إنّ حاكميّة الدين منصوص عليها بوضوح في القرآن. حقّاً، إنْ أنكر شخص ذلك، فهذا يدلّ على أنّه لم يتدبّر جيّداً في القرآن. يقول الله تعالى في سورة "النساء": ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (النساء: 64)؛ أرسلنا الرُّسُل ليُطيعَهم الناسُ. في أيّ شيء يُطيعون؟ المئات من آيات القرآن تبيّن ذلك: مثل آيات الجهاد، والآيات المرتبطة بإقامة القسط، وذات الصلة بالحدود والعقوبات، وتلك المرتبطة بالمعاملات والعهود، وبالاتّفاقات الدوليّة، وبالدفاع عن الوطن، وفي إجراء الحدود، وفي المعاملات والعقود الاجتماعيّة، وفي مسألة العقود مع الدول الأخرى، وفي إقامة القسط والعدل... في هذه كلّها لا بدّ من أن يُطاع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
السيادة الشعبيّة
أمّا الجمهوريّة، والسيادة الشعبيّة، والاعتبار لرأي الناس، فهذه أيضاً قضيّة مهمّة جدّاً. يجب النظر إلى هذه المسألة من منظورَين:
1- منظور دينيّ: في القرآن الكريم وفي رواياتنا كثير من المطالب الواضحة حول مسؤوليّة الناس تُجاه مصير المجتمع: "مَنْ أَصْبَحَ لا يَهْتَمُّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ"(1)؛ أمور المسلمين تعني أمور الأمّة الإسلاميّة، التي تشمل شؤون الجميع.
كذلك يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لكنْ مِن واجِبِ حُقوقِ اللّه ِعلى عِبادِهِ النَّصيحَةُ بمَبْلَغِ جُهْدِهِم والتَّعاوُنُ على إقامَةِ الحقِّ بَينَهُم"(2)؛ ومن أهمّ حقوق الله - تعالى - وأكثرها لزوماً: "التَّعاوُنُ على إقامَةِ الحقِّ بَينَهُم". إذاً، من مسؤوليّة الناس أن يعملوا معاً لإقامة الحقّ والعدل في المجتمع؛ أي إنّ واجب الأمر بالمعروف واجب عام.
2- الحاجة إلى الدعم الشعبيّ: إنّ الحكومة، لا الحكومة الدينيّة [فحسب]، إن كانت بلا دعم شعبيّ، فسيتعيّن عليها العيش بالسيف والسوط، ولا يمكن للحكومة عندها أن تستمرّ. الآن، الحكومة الإسلاميّة والقرآنيّة ليست أهل الظلم والسيف والسوط العبثيّ على الناس. لذلك، لا يمكنها التحرّك بلا دعم الناس، ولا حتّى الاستمرار.
الإسلام الذي يؤمن به الإمام قدس سره
يرفض الإمام قدس سره رفضاً قاطعاً إسلام المتحجّرين والالتقاطيّين، أولئك الذين ينقلون كلام الآخرين إلى مستمعيهم والمجتمع باسم الإسلام.
الإسلام الذي يؤمن به الإمام هو إسلامٌ يسعى إلى العدالة، وضدّ الاستكبار؛ أي ضدّ أمريكا، وضدّ هيمنة الأجانب، وضد تدخّل الغرباء والقوى الأجنبية في الشؤون الداخليّة للبلاد. إنه ضدّ الركوع أمام العدوّ. إنّه الإسلام ضدّ الفساد، الإسلام المناهض للأرستوقراطيّة، الذي يقف إلى جانب المحرومين.
(*) كلمة قائد الثورة الإسلاميّة المعظّم السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله في الذكرى الثانية والثلاثين لرحيل الإمام الخمينيّ قدس سره في 4/6/2021م.
1- الكافي، الكليني، ج 2، ص 164.
2- نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح، ص 335، خطبة (216).