مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الإمام علي وأولوية الأدب في التربية الأسرية



بقلم: د. طلال عتريسي
 


تؤكد جميع النظريات التربوية الحديثة منها والقديمة على أهمية الأسرة ودورها في العملية التربوية وخصوصاً أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحتاج إلى فترة طويلة من الرعاية والإعداد.

ونظراً لأهمية هذه الخلية الأساسية في التأثير على الجوانب الأخلاقية والسلوكية والعقائدية التي تنقلها إلى أفرادها، كان من الطبيعي أن تحتل التربية الأسرية مكانة بارزة ومهمة في التشريع الديني عموماً، وفي التشريع الإسلامي خصوصاً. وتبرز الحاجة إلى استعادة البحث في هذا التشريع وفي التفاصيل التي ينظم من خلالها علاقات الأفراد في داخل الأسرة، على ضوء ما يجري في عالمنا المعاصر من دعوات مختلفة بأسماء شتى، إنسانية واجتماعية وحقوقية لا تخدم، فيما نعتقد، وجود الأسرة وأهميتها ودورها الإنساني والاجتماعي.

فالعصر "الحديث" الذي ننتمي إليه، قدَّم لنا نماذج مختلفة من الأسرة خصوصاً على مستوى التجربة الغربية التي تعمل لتعميم خصوصيتها على شعوب العالم كافة.

 وتتراوح هذه النماذج بين الأسرة التي نعرفها، والتي يعيش فيها الزوجان وفقاً لعقد ديني وشرعي، إلى الأسرة التي لا يربط بين الزوجين فيها أي رابط، إلى الأسرة "الشاذة" التي تجمع شخصين من الجنس نفسه. وقد شجعت بعض مؤتمرات الأمم المتحدة هذه الأنواع المختلفة من الأسر، بما فيها أسر الشذوذ وفق مبررات الحرية الفردية ورفض الضغوط الاجتماعية.. لكن تلك الدعوات لم تقدم لنا الاحتمالات الممكنة التي ستنجم عن تشكيل مثل هذه الأسر، وعن الآثار التي ستترتب عليها على المستويات التربوية والنفسية والأخلاقية. وهذه المستويات هي التي اهتم بها التشريع الإسلامي سواء من خلال الآيات القرآنية أو من خلال الأحاديث الشريفة. ويكفي أن نستعيد بعضاً منها ليتبين لنا حجم الاهتمام الدقيق والتفصيلي بالتربية الأسرية بمستوياتها كافة.

يقول تعالى:  ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا﴾ (الإسراء: 23) أي أنه قرن العبادة التوحيدية بالإحسان إلى الوالدين وهما أساس الأسرة ومكونها الرئيسي. والآيات التي تربط بين هذين الأمرين كثيرة في القرآن الكريم، وهي قاعدة الانطلاق للمكانة العالية التي أعطيت للوالدين وللأسرة التي تنتج عن وجودهما.

أما ماذا يدور في هذه الأسرة، فكثير ومعقد، ويحتاج إلى قواعد واضحة تنظم العلاقات التي تجمع الزوجين، وتحفظ حقوقهما، وكذلك صلتهما بأولادهما والطرق المناسبة للتعامل معهم. وقد وضع الإسلام هذه القواعد، وربما يلاحظ الباحث في هذا المضمار كيف أن الخطاب التربوي في الإسلام (من خلال الآيات أو الأحاديث) يتوجه دائماً إلى الوالدين قبل أي مؤسسة أو شخصية أخرى معنوية كانت أم مادية. "يا بني لا تشرك بالله.. يا بني أقم الصلاة.. حق الولد على الوالد.. وأمر أهلك بالصلاة.." وغير ذلك مما يؤكد مركزية الدور الأسري في عملية التربية. وربما تساعد هذه الإشارة على توضيح النقاش الذي يدور دائماً للمقارنة بين دور المدرسة ودور الأسرة في العملية التربوية ليعطي ترجيحاً واضحاً لهذه الأخيرة.

ونظراً لأن التربية بدورها ميدان واسع ورحب، وتتوجه إلى الإنسان في مراحل حياته الأساسية، يصعب اختصار ما تقوم عليه من مبادئ وأسس. فقد كانت هذه المبادئ منذ مئات السنين شغل العلماء والأدباء والمفكرين، ثم المؤسسات والحكومات.. وربما استطعنا أن نتناول جانباً من جوانبها الواسعة ومن خلال الفكرة التي يناقشها البعض ويروج لها البعض الآخر، والتي تدور حول حرية اختيار الأولاد ما يشاؤون على مستوى العقيدة أو الالتزام، انسجاماً مع دعوات الحرية التي تهيمن على وسائل الإعلام وتطلقها مؤسسات ومنظمات دولية..

ويرى مؤيدو هذه النظرة أن الإنسان حرٌّ في اختيار ما يشاء عندما يصبح قادراً على التمييز، وأكد علينا ألاَّ نفرض عليه ما نراه نحن صحيحاً.. على هذه الفكرة "الجذابة" يرد الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة بشكل واضح وحاسم قائلاً: "يا بني.. إني بادرت بوصيتي إليك.. قبل أن يسبقني إليك بعض غلبات الهوى، وفتن الدنيا، فتكون كالصعب النفور، وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك".

ويتابع في نص آخر من النهج نفسه: "فما طاب سقيه طاب غرسه وحلت ثمرته، وما خبث سقيه، خبث غرسه وأمَرَّت ثمرته". وما يريده الإمام (عليه السلام) من هذا النص أن نبادر إلى غرس النبتة الصالحة في قلوب أبنائنا قبل أن يسبقنا إليها الآخرون. وهذا يحسم الجدل حول ترك الأولاد يختارون ما يشاؤون من العقائد لاحقاً. كما إن هذه النبتة هي الأدب "فبادرتك بالأدب.. قبل أن يقسو قلبك.." وهذا يعني أن أولوية الأدب يجب أن تطغى على الأولويات الأخرى التعليمية وغيرها، إذا أردنا أن نتعلم من هذا النهج الدروس التي نبحث عنها والتي أريد لها أن تكون دروساً للبشرية.

أما كيف يحصل هذا الفرس، وكيف نبادر الطفل بالأدب، فثمة قاعدة أخرى واضحة يؤكدها (عليه السلام) بقوله: "من نصَّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم". وإلى هذه القاعدة تعود التربية الحديثة فيما تسميه "التربية بالقدوة"، وهي قاعدة قرآنية يستنكر فيها الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون ويعتبره مقتاً كبيراً.

ربما تسمح هذه الإشارات التربوية، لكل المعذبين بهذا الشأن ولكل الذين يدركون خطورته وأهميته، باستعادة الأولويات الملتبسة على مستوى المقارنة بين التربية الأسرية والتربية المدرسية، أو على مستوى التردد بين أولوية الأدب وأولوية التعلم، فما ينص عليه النهج ومن يريد أتباعه هو شأن إنساني يقدم فيه الأسرة على مؤسسات المجتمع الأخرى، والأدب على المكتسبات الإنسانية كافة.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع