نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناسبة: أمّهــــات مضحِّيات..


تحقيق: نانسي عمر


"لا أعلم ماذا سأفعل لو كنت مكانها"، "ولا يكبر ولد، حتّى يفنى جسد". من العبارات التي نردّدها عندما يأخذنا مشهدٌ لسيّدة تتحمّل عناءً قد يئنّ منه الرجال، الأمّ المضحيّة، التي تقدّم عمرها وصحّتها وعافيتها وفرحها وحزنها بساطاً تحت قدمَي ولدها، وتحتمل ابنها كبيراً كما احتملته صغيراً، تلك الأم وحدها قادرة على تحمّل ما لا يحمله الرجال... والمفارقة، "بكلّ حبّ".

نطلّ في هذا التحقيق على مشاهد من الحياة؛ لأمّهات مضحيّات يكبر بهنّ القلب.

•"أحبّ ابني فقط"
لطالما لفتت نظر المارّة في حيّها، وهي تدفع الكرسي المتحرّك لشاب كبير، بدأت خطوط بيضاء تلوّن منابت شعره، نظيف الهندام، يحمل كيساً يخفي شيئاً من السكاكر وعلب العصير؛ ليلتذّ بها في جولته اليوميّة على عربته؛ ذلك العالم الذي رسمته له "أمّ أحمد" بابتسامتها وهدوئها، ورحمتها الدافئة، التي تظهر بارزة كلّما صرخ أحمد بدلال على والدته، ربّما لا يريد السير في هذا الطريق، أو أنّه أراد نوعاً آخر من العصير. وأحياناً تمتدّ يده إلى خلفه، حيث تقف أمّه، فيحاول جذبها اعتراضاً على شيء، لكن ابتسامة أمّ أحمد لا تفتر، وجوابها الدائم: "تقبرني.. متل ما بدك". سألتها عندما قابلتها: "دائماً تتحمّلين هذا الوضع؟"، كان السؤال غريباً بالنسبة إليها، أجابت وهي تبتسم: "أتحمّل ماذا؟ أنا أحبّ ابني أحمد فقط".

- "حسناً، وإن اعترض على طعامه، ماذا تفعلين؟"، 

- "لن يعترض ما دمت أغمره بالحبّ".

- "مَن يحمله ويقلّبه ويلبّيه؟" 

- تضحك فقط لتجيب: "أنا أمّه".

•وجع العمر وفرحته
بعد انتظار تسعة أشهر، ولد "أحمد" وهو يعاني من جفاف في الدماغ، منعه من أن يكبر كباقي أقرانه، أو على الأقلّ، كإخوته في البيت. تقول أمّ أحمد: "بعد ولادته بعشرة أيّام، ارتفعت حرارته فجأةً، وظهرت عليه عوارض المرض، فصرتُ أجوب به عيادات الأطبّاء الذين لم يتمكّنوا من معرفة السبب، إلى أن تبيّن أخيراً أنّه يعاني من ضمور في الدماغ، وهو موت خلايا الدماغ، ما يسبّب اضطراباً في الفهم والنطق والتركيز لدى أحمد".

كان على والدَي "أحمد" أن يضعا طفلهما في مركز لذوي الاحتياجات الخاصّة، لكنّ "أمّ أحمد" لم تستطع احتمال فراقه، خصوصاً أنّه في أشدّ الحاجة إليها، فعلاجه الوحيد -بحسب أمّ أحمد- هو الحبّ والاهتمام، وبعض العلاج الفيزيائيّ الذي يساعده على التحرّك كما أوصى الطبيب.

بغصّة وألم وكثير من الحبّ تروي "أمّ أحمد" كيف تعايشت مع وضع ابنها: "لم يكن يتقبّل أن يهتمّ به أحد غيري، ما جعل فكرة ابتعادي عنه صعبة للغاية. لا أستطيع الخروج من المنزل وحدي، ولا تركه مع أيّ أحد؛ لذلك هو معي دائماً، ولا أحد غيري يعرف كيف يتصرّف معه. أمّا والده، فلم يحتمل وجوده بيننا، وكان يخجل به أمام الناس، لكنني أخذتُ أولادي وربّيتهم وحدي بلا معيل أو معين، سوى ربّ العالمين".

ورغم ظروفها الصعبة وتضحياتها الجمّة، لا تعتبر أمّ أحمد نفسها أنّها قدّمت شيئاً إضافيّاً لأبنائها، بل قامت بواجبها تُجاههم كأمّ، فلعلّها بذلك تورثهم الحبّ ليقدّموه لأبنائهم فيما بعد. وتضيف: "هذه سُنّة الحياة، ولا منّة لأمّ بما تقدّمه لأبنائها، فهي من جاء بهم إلى هذه الحياة".

•أمٌّ للجميع.. ستّ الكلّ
كانت وحيدة والديها، توفّي والدها، فتزوّجت أمّها وأنجبت سبع أخوات. اعتنت بهنّ "سعاد" كما لو كانت تعتني بأولادها، حتّى أصبحنَ ينادينها بـ"ماما". الأمّ تخرج إلى العمل منذ الصباح، و"سعاد" تهتمّ بكلّ أمور المنزل والبنات حتّى عودة الوالدة في المساء. 

وبقيت "سعاد" تحمل همّ أخواتها كما تحمل الأمّ همّ بناتها؛ كانت حاضرةً في كلّ تفاصيل حياتهنّ مع كلّ واحدة منهنّ، حتّى تزوجنَ وأنجبنَ أبناء وبنات، ها هم أيضاً أصبحوا ينادونها "ماما سعاد". 

تزوّجت "سعاد". ولكنّ الحرب الأهليّة في لبنان انتهت مخلّفةً آلاف المفقودين، من بينهم زوجها، الذي ترك وراءه زوجةً وطفلةً اسمها "غادة"، لم تتجاوز السنة الأولى من عمرها. سنوات طويلة قضتها "سعاد" مع طفلتها بانتظار أن يعود زوجها، ولكنّه لم يعد.

كبرت ابنتها "غادة"، تزوّجت وأنجبت طفلتها الأولى، "سعاد" على اسم جدّتها -"ماما سعاد"- كما عوّدتها أن تناديها لتميّزها عن أمّها، وكما اعتاد الجميع أن يناديها.

اليوم، تملك الحاجّة "سعاد" محلّاً تجاريّاً في أحد الأسواق، تداوم فيه من الصباح حتّى المساء بحثاً عن لقمة العيش رغم تقدّمها في السنّ. ولكنّ المفارقة أنّ كلّ جيرانها التجّار في السوق، وعدداً من الزبائن، أصبحوا ينادونها أيضاً "ماما سعاد"، هذا الاسم الذي لازمها حتّى قبل أن تصبح أمّاً، فمن يفوح منها عبير العطف والحنان والأمومة أينما حلّت، يليق بها حتماً لقب الأمّ، وستّ الكلّ. 

•جدّتنا.. أمّنا
تتربّع صورة الجدّة في قلوبهم، يلفتك الشريط الأسود على زاوية الصورة لتتساءل عنها: "جدّتكم؟"، يجيبون: "لا، بل أمّنا".

كان مقدّراً للأطفال الثلاثة أن يغيب عنهم والدهم قسراً، وأن تغيب والدتهم اختياراً، متنازلةً عن حضانتهم وعن أمومتها أيضاً. ولكي لا يضيع الأطفال، الذين يبلغ أصغرهم سنةً واحدة، لملمت الجدّة المريضة، بقايا عافيتها، وما بقي لديها من وقود صحّتها، وضمّت أحفادها الثلاثة في كنفها وتحت رعايتها.

على الرغم ممّا كانت تعانيه من أمراض مزمنة وآلام عديدة، اتّقدت عاطفتها كأمّ شابّة، تسهر لياليَ طويلة على راحة الأحفاد الثلاثة، صيفاً وشتاءً، وتمدّهم بالعطف والحنان لتعوّض بعضاً ممّا خسروه. لقبها كما عرفوها هو "ماما". حتّى عاد ابنها؛ الوالد الغائب، ليساعدها في أمومةٍ متجدّدة.

بعد سنتين، قضت العناية الإلهيّة أن ترتحل الجدّة إلى جوار خالقها، تاركةً في قلوب أحفادها فراغاً كبيراً، فتلك "الأم" التي عطفت وحنّت وربّت وسهرت، قد فارقت الحياة، فحُرم الأولاد للمرّة الثانية من كلمة "ماما"!

•الجنّة تحت أقدامهنّ
الجنّة ستكون تحت قدمَي كلّ أمّ، لكنّ بعض الأمّهات اختبرنَ أمومة أخرى، قدّمنَ العمر والراحة والدمعة، فأيّ جنّة لهنّ؟

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع