مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

قرآنيات: تفسير سورة الفيل(1) (*)


الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ*أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ*وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ*تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ*فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ (الفيل: 1 - 5).

قصّة أصحاب الفيل معروفة، ملخّصها، أنّ حاكماً طاغياً في اليمن كان يسمّى "أبرهة بن الصباح بن الأكرم" أو "الأشرم"، وكان وكيلاً وأميراً على اليمن من قِبَل "النجاشي"، إمبراطور الحبشة. في ذلك الوقت، كانت الحبشة تحتلّ اليمن، ولعلّكم إذا لاحظتم الخريطة، تجدون أنّ الحبشة تقع في الجانب الغربيّ من البحر الأحمر، واليمن، وقسماً من الحجاز، في الجانب الشرقيّ منه؛ ولهذا كان ثمّة خلاف تاريخيّ بين الحبشة وبين هذه المنطقة من الجزيرة. وقد هاجرت جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة أيضاً مثل "جعفر الطيَّار" وغيره كما تعلمون. فما هي قصّة أصحاب الفيل؟ ولماذا نزلت سورة الفيل؟ وما هو تفسيرها؟

* كعبة بديلة!
كان "أبرهة" حاكم اليمن، وكان رجلاً نشيطاً يريد أن يجعل من اليمن بلداً مزدهراً، ففكّر في طريق اجتذاب السائحين والزوّار؛ ولاحظ أنّ الكعبة هي مزار العرب ومحجّتهم، وتسكن فيها جماعة غنيّة، وكان يزورها آلاف أو مئات الألوف من الناس في كلّ سنة، وهذا ممّا يوجب ازدهار مكّة وزيادة النعمة فيها، ففكّر في أن يخلق شيئاً مشابهاً لجلب الزوّار والحجّاج، وإبعادهم عن الكعبة وتوجيههم إلى اليمن، فبنى بيتاً ومعبداً ضخماً جدّاً، أضخم من الكعبة بكثير، ثمّ بعث في الناس والرسل ودعاة السياحة -على حدّ تعبيرنا-؛ لكي يجلب السائحين والزوّار والحجّاج إلى محجّته.

ولكنّه ما نجح في ذلك؛ لأنّ العرب كانوا يعتبرون أنّ الكعبة من بناء النبي "إبراهيم" عليه السلام، الذي هو جدّهم، فكانوا يعتزّون بهذا البيت العتيق، وكانوا يؤمنون به إيماناً كبيراً. إذاً، لم يُوفّق في صرف نظر العرب عن زيارة الكعبة، فحقد عليها وأراد هدمها، ظنّاً أن كعبته ستكون بديلاً عنها، فخرج بجيشٍ كبيرٍ مجهّزٍ بالفيلة، لكي يهدمها. وفي طريقه، اصطدم بجماعة من القبائل العربيّة التي حاربته، وانهزمت أمام قوّة جيشه، ثمّ وصل إلى قرب مكّة.

* للبيت ربّ يحميه
يقول التاريخ إنّهم كانوا يشنّون الغارات وينهبون الأموال التي كانوا يجدونها في طريقهم. وفي الجملة، نهبوا قطيع إبل يضمّ 200 جمل، لـ"عبد المطّلب" سيّد مكّة وجدّ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وحينما وصل قرب مكّة، وعلم "عبد المطّلب" بغصب إبله، ذهب إلى "أبرهة"، وقال له: "إنّ أنصارك قد نهبوا إبلي، فالرجاء إعادة الإبل إليّ"، فأمر "أبرهة" بردّ الإبل إليه، وشعر بالحقارة أمام هذا الرجل الجليل، وقال له: "إنّي كنت أظنّ أنّك تتوسّط لبيتكم الذي هو شرفكم وكرامتكم ومعبدكم، ولكنّك طلبت إعادة الإبل"! فقال "عبد المطّلب"، وهذا يدلّ على قوّة إيمانه وشعوره العامّ: "إنّني ربّ الإبل، وللبيت ربّ يحميه"! فعزم "أبرهة" على هدم الكعبة!

هنا حصلت واقعتان: الأولى- أنّ الفيل امتنع عن دخول الحرم، وهذا موجود في الآثار، والثانية- أنّهم بطريقة غير مألوفة، أُصيبوا بالهزيمة النكراء، وقُتِل معظمهم عن بكرة أبيهم، ورجع الباقي منهم مهزوماً مكسوراً، وما وُفّقوا لأداء مهمّتهم والوصول إلى غايتهم.

* كيف قُتِلوا؟
يقول القرآن الكريم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ*وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾. الأبابيل تعني متفرّقةً، فرقة بعد فرقة، كتلة بعد كتلة، فالطيور كانت تأتي من كلّ جانب سرباً بعد سرب، ﴿تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ﴾؛ هذه الطيور كانت ترمي جيش "أبرهة" وأصحاب الفيل ﴿بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ﴾.

و"سجّيل" حسب التفسير اللغويّ كلمة مؤلّفة من كلمتين فارسيّتين، هما: سنگ وﮔلّ؛ "سنگ" تعني الحجارة، و"ﮔلّ" تعني الطين، فـتحوّلت (سنگ ﮔلّ) في اللغة العربيّة إلى "سجّيل"، والسجّيل حسب تفسير كتب اللّغة حجارة مطليّة بالطين اليابس الصلب. فهذه الطيور رمت على جيش أبرهة الحجارة المطليّة بالطين.

﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾؛ يعني جعلهم الله نتيجةً لرمي الحجارة مثل العصف، التبن، قشر الحبّ المأكول؛ يعني قشرة من دون حبّة، قشرة ممزّقة، فتمزّق هؤلاء وتفتّتوا تحت هذه الأحجار وماتوا.

* حجّة قويّة
كان القرآن الكريم يتحدّى شعور العرب؛ لأنّ كثيرين منهم لم يؤمنوا به، وكانوا يتربّصون به لكي يجدوا مأخذاً يردّون به عليه. لذلك، كان القرآن يتحدّاهم في أنّهم لا يتمكّنون أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور أو بسورة من مثله؛ لذلك كانوا يفتّشون عن طريقة أخرى للردّ عليه.

وهنا نصل إلى نقطة أساسيّة؛ فلو كان في القرآن أو في بعض آياته نقطة ضعف صغيرة، لكانوا اتّخذوها حجّة وردّوها!

هذه الآيات مكّيّة، نزلت في مكّة، وقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ملأ من العرب، فاستمعوا كلّهم؛ حين شرح الواقعة بالشكل الظاهر الذي عرفوه: ﴿تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ*فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾. وكانت السنوات بين نزول السورة وبين وقوع الواقعة لا تتجاوز الخمسة والأربعين عاماً؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وُلد في عام الفيل، وكان الكثير من العرب، قد عاصر واقعة الفيل، وكانوا في عمر واعٍ. فلو لم يكن الأمر من الوضوح بدرجة، لكانوا ردّوا قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: "أنت غير مطّلع"، أو "أنت مخطئ"، أو -لا سمح الله- "تكذب، فالواقعة ما كانت بالشكل الذي أنت ترويه"! لكنّهم استمعوا إلى النصّ وسكتوا، في الوقت الذي يفتّشون فيه عن أيّ مؤاخذة، للردّ على قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما ردّوا. وهذا يدلّ على أنّ الواقعة كانت واضحة ودقيقة بالشكل الوارد في القرآن الكريم، بحسب ما عرفه قوم مكّة.

ثمّ إنّ واقعة الفيل جُعلت نقطة تأريخٍ لسنواتهم؛ فكانوا يقولون: فلان وُلد في عام الفيل، أو قبل العام بسنتين، أو بعد العام بخمس سنوات، أو عشرين سنة، وأمثال ذلك، فكانوا يؤرّخون بعام الفيل.

فما هو رأي المفسّرين في معنى هذه الآيات؟ هو ما سنتعرّف إليه في العدد المقبل بإذن الله.

(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر، ج 10، سورتا الفيل وقريش، الجزء الأوّل، ص 280، بتصرّف.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع