صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

فقه القائد: الإسلام واحترام المقدّسات


الشيخ محمد توفيق المقداد


تكاد لا تمرّ علينا فترة طويلة من الوقت إلاّ ونسمع خبراً من هنا، أو رواية من هناك عن تعرّض لإحدى مقدساتنا الإسلامية لاستهزاء أو سخرية أو تهكّم أو إهانة، فتارةً يكون التهجّم على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محاولين إلصاق تهم شنيعة به ممّا لا يليق بمقامه الإيماني والمعنوي والروحي الكبير كما فعل الكاتب المرتد "سلمان رشدي" في كتابه السيء الذكر "الآيات الشيطانية"، وتارة أخرى عبر درس بعض الآيات والسور ونسبتها إلى القرآن الكريم كما يحاول ذلك حالياً بعض الحاقدين الموتورين ممن يستخدمون "الانترنت" الشبكة العالمية الواسعة الانتشار في عالم الإعلام اليوم، أو من خلال بعض المؤلّفات الصادرة والتي تتهجّم على الإسلام كدين وبأنّه يدعو إلى التخلّف وإلى الرجوع بالزمن إلى الوراء وإيقاف عجلة الحضارة والرقي والتقدّم، أو عبر صناعة الأفلام السينمائية والتلفزيونية التي تشوّه مفاهيم الإسلام وطريقة حياة المسلمين وتصوّرهم بأنّهم مجموعات من الجهلة والقتلة والإرهابيين، وإلى غير ذلك من أساليب منحرفة يبتدعها أعداء الإسلام العابثون بالأديان والمبادئ الإلهية والقيم الإنسانية.

وفي هذه المقالة سوف نتحدّث عن الأمرين التاليين في مقام الرد على تلك الحملة الشعواء التي يقودها أولئك الحاقدون الموتورون:
أولاً: ما هي المقدسات الإسلامية؟ ومن الذي يحدّد المقدّس من غيره؟ وكيفية تعامل المسلمين مع مقدّساتهم ومع مقدسات أهل الكتاب عموماً.
ثانياً: حكم المستهزئ والمنتهك والمهين لحرمة تلك المقدسات.

وأمّا الكلام في الأمر الأول فهو: أنّ الإسلام يعتبر أنّ هناك أموراً لها قدسية ذاتية وقيمة ذاتية نظراً لقابليات وإمكانيات وامتيازات تتمتّع بها إمّا بالذات أو من خلال جعلها كذلك بواسطة التشريع الديني الإلهي وذلك كالذات الإلهية المقدّسة والأنبياء عليهم السلام والملائكة والأئمة عليهم السلام والمساجد والمصاحف وما شابه ذلك، وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تشير إلى ذلك مثل (قولوا آمنّا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربّهم لا نفرّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم) وكذلك مثل قوله تعالى: (آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير).
ولا يكتفي الإسلام بفرض احترام مقدّساته فقط على أتباعه ومعتنقيه، بل يفرض عليهم احترام وتقديس الأديان السماوية كافّة وأنبياء الأمم السابقة باعتبار أن الأديان كلّها هي صادرة عن الإله الواحد، ويجعل أنبياء أهل الكتاب كالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي نفس المرتبة من حيث وجوب الاعتقاد بنبوتهم ووجوب تقديسهم كذلك كما ترشد إلى ذلك الآيات المتقدّمة، ومن هنا دعا الإسلام إلى محاورة أهل الكتاب بالحسنى كما تقول الآية الكريمة:
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن إلاّ الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).
فالإسلام يرى أنّ الأديان هي حلقات مترابطة من ضمن سلسلة واحدة تتغذّى من نفس المصدر وتهدف إلى السير في اتجاه واحد، وكل دين يتضمّن ما سبقه من أديان مع إضافات وزيادات إلى أن اكتملت سلسلة الأديان بالإسلام كما تصرّح الآية الكريمة (إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب).

وعليه فمعنى الإسلام هو التسليم التام والخضوع الكامل للإرادة الإلهية على المستوى التشريعي ولكنّه على نحو الاختيار تماماً كخضوع الإنسان وباقي المخلوقات والموجودات للخالق على المستوى التكويني لكن بنحو الإجبار، وهذا يقتضي من كلّ إنسان أن يبحث عن حقيقة وجوده في هذه الدنيا لكي يعتنق الدين الذي يرتضيه الله عزّ وجل.
والقرآن يوضح أنّ سبب الاختلاف في الدين ليس الله عزّ وجلّ، بل لا تصحّ نسبة الاختلاف في الدين إليه، وإنّما جاء الاختلاف من جانب البشر أنفسهم الذين وقفوا عند عقائدهم ولم يخضعوا أو لم يعترفوا بالأديان اللاحقة، التي دلّ الدليل القاطع على صحّتها، وهذا ما أدّى إلى التباين واعتناق كلّ مجموعة من أهل الأديان ديناً مختلفاً عن الآخرين.

وما أدّى إلى الاختلاف الفاضح أيضاً هو الإضافات الدخيلة على بعض الأديان السماوية مما منع من أي إمكانية للتقارب والتوحّد والالتقاء على عبادة الله الواحد الأحد بالنحو الذي يحقّق وحدة أهل الأديان السماوية، وقد ورد في القرآن العديد من الآيات التي تشير إلى هذا السبب في إيجاد الفواصل وحالة التباعد، ومن تلك الآيات نذكر النموذج التالي: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنّى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون).

ومن أجل ذلك نرى بأنّ الله سبحانه لما كان الإسلام عنده هو الدين الخاتم والجامع لكلّ الأديان السماوية يقول في القرآن الكريم (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون).
ونتيجة للصلة بين أهل الإسلام وأهل الأديان الأخرى أوجب الله على المسلمين دعوة أهل الكتاب إلى القبول بعبادة الله الواحد ليكون ذلك هو القاسم المشترك الصالح لأن يُجعل منطلقاً للحوار في سائر المفردات، قال الله تعالى: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون)..
وأمّا الكلام في الأمر الثاني فهو: أنّه قد تبيّن من الأمر الأول وجوب احترام المقدّسات الإلهية عامة والإسلامية خاصّة، وحرمة التعرّض لتلك المقدّسات بأيّ نوعٍ من أنواع الإساءة أو الأذى مادياً كان ذلك أو معنوياً، وخصوصاً إذا كانت الإهانة موجّهة إلى الرموز الأساسية للعقيدة كما في حالة التعرّض بالإساءة للأنبياء عليهم السلام.

ومن نماذج الإيذاء السب والشتم للأنبياء عليهم السلام أو نسبة بعض الأفعال القبيحة إلى الله أو الأنبياء عليهم السلام، أو إنكار نبوة كلّ الأنبياء أو بعضهم وما هو قريب من ذلك أو شبيه به.
ومن هنا نجد أنّ كلّ فقهاء المذاهب الإسلامية قد أفتوا بارتداد المسلم فيما لو ارتكب أحد أنواع الأذية أو الإساءة إلى المقدسات، وقد استندوا في تلك الفتوى إلى الآيات والروايات الكثيرة والواضحة في دلالاتها ومعانيها، ومن الآيات القرآنية التي تشير إلى ذلك (إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة، وأعدّ لهم عذاباً مهيناً)، وكذلك قوله تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) وقوله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو إذن، قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم).
ومعنى الارتداد شرعاً هو "الخروج عن الإسلام" أو "الرجوع عن الإسلام بعد الدخول فيه"، وهذا التعريف يشمل "المرتد الفطري"، وهو المتولد من أبوين مسلمين ثمّ خرج عن الإسلام إلى غيره أو حُكِمَ بارتداده لارتكابه أحد الأفعال الموجبة لذلك، ويشمل "المرتد الملي" وهو من تولد كافراً ثم أسلم ثم عاد إلى ما كان عليه أو غيره.
وللإرتداد شروط لا بدّ من تحقّقها وهي البلوغ – العقل – الاختيار، فلو كان مرتكب فعل التحقير للمقدسات غير بالغ أو كان مجنوناً أو كان مكرهاً على فعل ما يسيء إلى المقدسات فلا يُحكم بكفره ولا بارتداده ويكون مشمولاً لقوله تعالى (.. إلاّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) كما حصل مع عمّار بن ياسر الذي كانت قصّته السبب في نزول هذه الآية الكريمة.
والحكم بكفر المرتد مأخوذ من قوله الله تعالى في كتابه (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، وينطبق على المرتد أيضاً قوله تعالى (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ الله عدوٌ للكافرين).

وحكم المرتد هو "القتل" شرعاً، وهذا الحكم مستفاد من النصوص والروايات الكثيرة الواردة في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الأئمة عليهم السلام ومن نماذج تلك النصوص ما يلي:
1- معتبرة عمار الساباطي عن الإمام الصادق عليهم السلام: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كلّ مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام وجحد محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبوته وكذبه، فإنّ دمه مباح لمن سمع منه ذلك، وامرأته بائنة منه يوم ارتد، ويقسم ماله على ورثته، وتعتد امرته عدة المتوفى عنها زوجها، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه).
2- صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن الكاظم  عليه السلام (قال: سألته عن مسلم تنصر؟ قال: يقتل ولا يستتاب).
3- صحيحة علي بن جعفر عن أخيه الكاظم عليه السلام: (قلت: فنصراني أسلم ثمّ ارتدّ؟ قال عليه السلام: يستتاب، فإن رجع وإلاّ قُتِل).

وهنا يتضح من الروايات الفرق بين المرتد الفطري الذي يُقتل بعد ارتداده مباشرةً ولا يُطلب منه التوبة، وبين المرتد الملي الذي يطالب بالتوبة خلال ثلاثة أيام، فإن لم يتب فيها يُقتل بعدها، مضافاً إلى فوارق أخرى مذكورة في الكتب الفقهية المعتمدة.

الدلالات التي لأجلها يُقتل المرتد عن الإسلام يمكن إيجازها فيما يلي:
1- على المستوى العقائدي: الارتداد هو تعبير عن إنكار الشريعة التي كان يعتقدها ثم تخلّى عنها، ويعبّر عن إنكار الكتب السماوية لتلك العقيدة وإنكار نبوّة نبي العقيدة أيضاً كما يعبّر عن إنكار الخالق كلياً لو كان ارتداده إلى فكر الإلحاد أو إلى التشريك لشيء مع الله كما لو ارتدّ إلى دين يجعل مع الله شركاء من قبيل الإبن وما شابه ذلك من الانحرافات.

2- على المستوى المعنوي: الارتداد له آثاره النفسية البالغة الضرر على المسلمين، لأنّه قد يشكّل عنصر قلق وإزعاج وقد يسبّب حيرة وإرباكاً وعدم توازن فكري ونفسي لضعاف النفوس من الذين لا تكون الأسس العقائدية عندهم مبنية على الاستدلال والبرهان، وبعبارة أخرى الارتداد قد يشكّل هزيمة معنوية للمسلمين أمام غيرهم ممّن يريد المسلم أن يثبت لهم صحّة عقيدته ودينه.

3- على المستوى الاجتماعي: الارتداد سواءً أكان من فرد أو من جماعة قد يكون مدخلاً لكثير من أنواع المفاسد الأخلاقية والتربوية والسلوكية ما يشكّل خطراً على الحالة الاجتماعية العامّة للأمة المسلمة التي تتمتّع بمسيرة أخلاقية وسلوكية منضبطة ضمن أطر العقيدة الإسلامية.

مما سبق كلّه نجد أنّ احترام المسلم لعقيدته ولرموزها الأساسية هو الضمانة من كلّ تلك الأجواء السلبية التي قد يثيرها البعض بارتدادهم بسبب تهجمهم على رموز العقيدة وخصوصاً الأنبياء عليهم السلام  عموماً، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً، وهذا الاحترام هو الذي يحمي الأمة الإسلامية من الانحرافات بكلّ أشكالها الفكريّة والسلوكية.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع