صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

المنهج الإصلاحي عند الإمام علي عليه السلام 



الشيخ خليل رزق


من المبادئ الإنسانية التي قام عليها الإسلام من خلال رسالته وتعاليمه تحقيق العدل بين الناس، والقضاء على الظلم والجور، ولذا نجد أنّ جميع نواحي التشريع الإسلامي قد ارتبطت بشكلٍ مباشر بالعدالة والمساواة.

وإنّ أرقى مهمّة حمل لوائها ورفع شعارها الأنبياء والمرسلون هي العمل على تربية المجتمعات البشرية، وإنقاذ الناس من الجهل والظلم، والعمل على إصلاح النوع الإنساني – أفراداً ومجتمعات – على ضوء ما استفادوه من ذلك المنبع الإلهي الهادي، فقدّموا للبشرية أجمل ما تحلم به وأهمّ ما تصبو إليه على صعيد التكافل والتعاون وإلغاء الامتيازات والفوارق الاجتماعية، ولهذا كان العمل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية أعظم هدف من أهداف بعثة الأنبياء وتشريع الأديان، كما ذكر القرآن الكريم في بيان علّة إرسال الرسل (لقد أرسلنا رُسُلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط..) .

وكان من أبرز الأهداف التي سعى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أجل تطبيقها نشر العدالة بين جميع أفراد البشر، فانطلق صلى الله عليه وآله وسلم لتغيير كلّ معالم الظلم التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي، وأرسى قواعد العدالة الاجتماعية وفق معايير القرآن الكريم ومناهج الإسلام العظيم، وحارب كلّ أشكال التفاوت الطبقي، وجعل الناس سواسية في العطاء.

* الإمام علي عليه السلام والتصدّي لسياسة الإنحراف:
كان من أهم وأبرز المشاكل التي واجهها الإمام علي عليه السلام عند استلامه لزمام الحكم مواجهة الاستغلال الواضح للشريعة الإسلامية والانحراف الذي أصاب جسم الأمة، فأعلن منهجه الإصلاحي في معالجة مشكلة الفقر والغنى، وعدم المساواة في التوزيع المالي والاقتصادي التي كانت تهدّد باستئصال ما غرسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفوس المسلمين. ولهذا رفع الإمام علي عليه السلام شعاراً أساسياً لمرحلة ولايته وحكمه، حيث خاطب الناس عند تولّيه زمام الخلافة قائلاً:
".. وإنّما أنا رجلٌ منكم لي ما لكم، وعليّ ما عليكم.. وإنّي حاملكم على منهج نبيّكم صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أيما والٍ ولي الأمر من بعدي، أُقيم على حدّ الصراط، ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلاً أنجاه الله بعدلهن وإن كان جائراً انتفض به الصراط حتّى تتزايل مفاصلهن ثمّ يهوي إلى النار، فيكون أوّل ما يتّقيها به أنفه وحرّ وجهه" .

وفي كلام آخر يقول عليه السلام :
".. وأيمُ الله لأُنصفنّ المظلم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته، حتّى أوردهُ منهل الحقّ وإن كان كارهاً" .
وهذه المشاكل والمفاسد التي واجهها الإمام علي عليه السلام ، لا شكّ بأنّها كانت ناجمة عن مجموعة من العوامل أدّت إلى ما وصلت إليه الحالة الاجتماعية في ذلك الوقت.
لهذا لا بدّ من دراسة عوامل الانحراف في جسم الخلافة الإسلامية لأجل التوصّل إلى معرفة أبرز الميادين التي تناولتها إصلاحات الإمام علي عليه السلام للقضاء على مظاهر الانحراف، ونشر العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع.

* عوامل الانحراف في جسم الخلافة الإسلامية:
حدّد الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة الأسباب الرئيسية لانحراف الأمة عن خطّ النبوّة والرسالة، وأرجع جميع هذه الأسباب إلى أصل واحد وهو انحراف الحاكم والخليفة، وهذا ما يتّضح لدينا من خلال قراءتنا لخطابات الإمام السياسية والاجتماعية التي وجّهها الإمام إلى عامّة الناس عندما استلم الخلافة.

من ذلك ما ورد في بعض خطبه حيث يقول:
"وقد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام، وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نُهمَتهن ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجاني فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسنّة فيُهلك الأمة" .
هذه الصفات العامة السلبية التي ذكرها الإمام عليه السلام كانت هي الطابع الذي تميّز به الحكّام في تلك الفترة، وإذا أردنا استقصاء بعض الممارسات التي قام بها الحكّام فيمكن تحديد أهم عوامل الانحراف بالنقاط التالية:
1- عدم التسوية في العطاء.
2- سياسة التمييز العنصري والقبلي.
3- نشوء أصحاب الثروات.
4- سلوك ولاة عثمان.

*الإمام عليه السلام في مواجهة الانحراف:
سعى الإمام علي عليه السلام منذ اللحظات الأولى لوصوله إلى الحكم نحو ترسيخ أُسس العدالة في المجتمع الإسلامي، فحارب الفقر محاربةً لا هوادة فيها، وعمل على إعطاء أصحاب الفيء حقوقهم، وساوى بين الجميع في العطاء، وأمر أصحاب الأموال والثروات بدفع ما عليهم من حقوقٍ إلى بيت المال، ثمّ ندّد بأولئك الذين يأكلون الأموال بالباطل سواء بالغصب أو بالسرقة أو بالاحتكار أو الرشوة، واعتبر أنّ أعظم الجرائم اغتصاب مال الله من بيت المال الذي هو حقّ الأيتام والفقراء والمساكين، وحاسب هؤلاء حساباً عسيراً.
وبهذا غدا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أعظم نموذج للعدالة والمساواة وواحداً من روّادها الذين لم يعرف لهم التاريخ نظيراً.
ومما جاء في كلام ابن الأثير المؤرخ المعروف في وصف عدالة الإمام علي عليه السلام :
"إنّ زهده وعدله لا يمكن استقصاؤهما، وماذا يقول القائل في عدل خليفةٍ يجد في مالٍ جاءه من أصفهان رغيفاً فيقسّمه أجزاء كما قسّم المال، ويجعل على كلّ جزء جزءاً، ويساوي بين الناس في العطاء، ويأخذ كأحدهم" .

*معالجة الإمام عليه السلام لظواهر الانحراف:
سلك الإمام منهجاً مدروساً ومنتزعاً من الواقع الذي كان يعانيه المجتمع الإسلامي من أجل تحقيق الأهداف السامية التي عمل على تطبيقها بين الناس للقضاء على الظواهر المَرَضية التي حلّت في الدولة الإسلامية، ومن هذا المنطلق كان قبول الإمام عليه السلام للخلافة وكان من أهم الظواهر التي سعى الإمام علي عليه السلام للقضاء عليها والتي حاربها واقتلع جذورها من جسم الدولة الإسلامية على ضوء ما ورد عنه في نهج البلاغة يتمثّل بما يلي:
أ-ظاهرة الانحراف عن كتاب الله وسنّة نبيّه:
حيث أشار الإمام علي عليه السلام في بعض كلماته إلى هذا الداء وإلى كيفية معالجته فقال:
"فاعلم أنّ أفضل عباد الله إمام عادل، هُدي وهدي، فأقام سُنّة معلومة، وأمات بدعةً مجهولة، وإنّ البدع لظاهرة، لها أعلام، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلّ وأضل، فأمات سنّة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة.." .

ب- ظاهرة تعظيم الخليفة والثناء عليه:
إعتاد البعض من أصحاب المصالح أن يعظّموا موقعية الحاكم وخلافته بين الناس، ولكنّ الإمام علياً عليه السلام أراد أن يكون الخليفة كواحدٍ من الناس، لا يكون كالملوك والسلاطين، فقد روي عنه عليه السلام أنّه:
أثناء مسيره إلى الشام لقيه دهاقين الأنبار ، فترجّلوا له، واشتدّوا بين يديه فقال:
-ما هذا الذي صنعتموه؟!
-فقالوا: خُلقٌ منا نُعظّم به أمراءنا! 
-فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم وإنّكم لتشُقّون على أنفسكم في دنياكم، وتشقون به آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدّعة معها الأمان من النار .

ج- ظاهرة إهتمام الخليفة بحياته الخاصّة:
عُرف معظم الولاة باهتمامهم بحياتهم الخاصّة، ومحاولة اكتنازهم الأموال والثروات الطائلة، وهذا ما دعا الإمام عليه السلام إلى التركيز على الصفات والخصال التي يجب أن يتمتّع بها الحاكم الإسلامي، واهتمامه بأمور الناس وتقديم مصالحهم على مصلحته الخاصّة.
د-ظاهرة تفضيل القربى والمعارف:
أتاحت الفرصة أمام بعض الأمويين الدخول إلى جسم الخلافة الإسلامية واستلام بعض المناصب الرسمية في زمن الخليفة الثالث فحاولو السيطرة وتسليم زمام الأمور لأقربائهم.
ولكنّ الإمام علياً عليه السلام ومن خلال إيمانه العميق بحقوق الناس وضرورة المساواة بيهنم لم يرضَ بأن يُفضّل أحداً من أقربائه على غيره من الناس، بل الجميع عنده سواسية كأسنان المشط.

هـ- ظاهرة قبول الرشوة:
فمن الأمراض التي انتشرت في جسم الخلافة الإسلامية مسألة قبول الولاة للرشوة من بعض أصحاب الثروات لأجل عدم مطالبتهم بالحقوق المفروضة عليهم لبيت المال، فكانت الرشوة وسيلة الأغنياء لإسكات هؤلاء الولاة. والإمام علي عليه السلام ومن موقع كونه خليفة المسلمين رفض حتّى قبول الهدايا لأنّها قد تشوبها شائبة الرشوة.

*مبادئ تحقيق العدالة الاجتماعية:
بعد جهاد الإمام علي عليه السلام ومحاربته لكلّ أشكال الظلم في المجتمع والتي تمثّلت في القضاء على كلّ أشكال ومظاهر الانحراف في جسم الخلافة الإسلامية، استتبع ذلك بخطوات عملية، ووضع المبادئ والأسس الكفيلة بسدّ حاجات الناس، وتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي بين جميع أفراد المجتمع الذي يؤمن لكلّ واحدٍ من هؤلاء الأفراد حاجاتهم الضرورية، ويعيش كلّ إنسان عيشةً إنسانية كريمة.
وعند دراستنا لكلمات الإمام علي عليه السلام الواردة في نهج البلاغة نجد أنّ المبادئ التي تمحورت حولها سياسة الإمام علي عليه السلام عند استلامه للحكم كانت تدور حول تطبيق المبادئ التالية:
أولاً: في المجال الإداري:
أ‌- عزل الولاة السابقين.
ب‌- محاسبة الولاة ومراقبتهم.

ثانياً: في المجال الاقتصادي والمالي:
أ‌- التسوية في العطاء.
ب‌- التكافل الاجتماعي والمواساة.
ج- العدالة الاجتماعية وحقوق الفقراء.
هذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام في بعض جوانب حياته المُشرقة، التي أضاءت للبشرية درب الهدى.
هذا هو علي بن أبي طالب: المعلّم، والمربّي، والهادي، والمُنقذ، والمضحّي والمتفاني في سبيل حفظ الدين وإعلاء راية الحق.
هذا هو علي بن أبي طالب يبقى في نهجه تاريخاً مضيئاً وشمساً مشرقة في كلّ زمان ومكان.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع