الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)
إنّ الذي يبدأ عملاً أو يفتتح مؤسّسة أو يدخل مشروعاً أو يطالب بحقّ أو يحكم بشيء، ثمّ يقول باسم الشعب، أو باسم الحاكم، أو باسم العدالة؛ فمعنى هذه الجملة في عُرفنا أنّ الحقّ، والعدل، والشعب، والحاكم، هو الذي يعمل، والذي يقول باسمه هو "الواسطة" لا غير.
كذلك، حينما نبدأ بعمل ما ونقول: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، يعني هذا أنّ الله تعالى هو الذي يعمل، ولكنّنا خلفاؤه وأمناؤه والمتكلّمون باسمه والفاعلون بأمره. وهذا المعنى هو مفهوم قرآنيّ شامل، وتربية إسلاميّة صحيحة.
فما هو تفسير هذه الآية؟ وما هي مضامينها وأبعادها؟
•الدين فطرة
تخضع معرفة الله إلى تفسيرين، هما:
1- التفسير الدينيّ: لا شكّ في أنّ الله عرفه البشر منذ الأزل، والسبب حسب التفسير الدينيّ، أنّ الدين فطرة؛ فالبشر بحسب فطرتهم اهتدوا إلى الله وإلى خالق الكون. ولكنّ وحي الفطرة ضعيف ومبهم، ولهذا سرعان ما انحرف البشر وزادوا في جَورهم واحتاجوا إلى دعوة الأنبياء عليهم السلام، الذين يدعون إلى الله.
2- التفسير العلميّ: إنّ الدين فطرة، ويثبت ذلك أدلّةٌ متعدّدة، مثلاً: في الاكتشافات الأثريّة منذ أسبق العصور البشريّة إلى الآن، نجد أنّ البشر كانوا يؤمنون بالله الواحد؛ ففي اكتشافات أثريّة لأقوام كانوا يعيشون قديماً، مثل الأقزام في أفريقيا، ومثل قبائل "IndoEuropean"، الذين كانوا يهاجرون من الهند عن طريق إيران والقوقاز وتركيا إلى ألمانيا، ومثل الاكتشافات التي وُجدت في جنوب كاليفورنيا عند الهنود الحمر القُدامى... في جميع هذه الاكتشافات، نرى أنّ البشر الأوّلين كانوا يؤمنون بالإله الأسمى وبالله الواحد.
من هنا، يقول العلم، إنّ التفسير الذي حاول أن يفسّر به الدين العديد من العلماء، على أنّ الدين ردّ فعل البشر أمام الضعف والعجز والخوف والمصلحة، تفسير خاطئ؛ لأنّهم قالوا إنّ البشر في أوّل الخلق كانوا يخافون من العوامل الطبيعيّة، فالتجأوا إلى ملجأ وهو الله، أو إنّ البشر كانوا يعجزون عن تفسير ما يدور حولهم، فالتجأوا إلى تفسيره بخلق الله وأمثال ذلك. وهو تفسير خاطئ؛ فكيف يمكن للبشر اللجوء إلى الله... وهم لا يعرفونه؟!
إذاً، معرفة الله تسبق الخوف والعجز والضعف. ولهذا، اتّفق علماء تاريخ الأديان في القرن العشرين، على أنّ الإيمان بالله أسبق ظاهرة في تاريخ البشر. والإيمان بالله فطرة، وليس حاصلاً من ردود الفعل البشريّة أمام العوامل الطبيعيّة. إذاً، البشر كانوا يعرفون الله منذ الأزل، ولكن كانت تلك معرفة سطحيّة. فإذا لاحظنا التاريخ وتاريخ الأديان، نجد أنّ الإنسان كان يعرف الله، كان يعرف البارئ المبدع، خالق الكون.
•من هو خالق الكون؟
هذا المفهوم أخذ أشكالاً عدّة:
1- صورة الله حسب الحاجة
هنا، تدرّج الإنسان في معرفته حسب مستوى وعيه، فبدأ في زمن ما بالإيمان بوجود قوّة تخلق الكون أو شخص يخلق الكون، ولكن ما هي مميزات هذا الشخص؟
القبائل البدائيّون كانوا يخضعون لسلطة شيخ أو رئيس القبيلة، فكانوا يتصوّرون أنّ الله خالق الكون شخصٌ من قبيل شيخ القبيلة، رجلٌ كبيرٌ ذو لحية بيضاء طويلة، وعلى وجهه آثار العمر. وكانوا يصوّرون الله كما يظنّون، ومنهم من كان يعتقد أن الله تجسّد في ما يُحتاج إليه، ولهذا نرى في تاريخ البشريّة عبادة البقر، وعبادة الشمس، وعبادة القمر، وعبادة الملائكة، وعبادة النجوم، وعبادة الأشجار، وعبادة البحر. هذه الانحرافات كلّها ترتكز على الشعور الأصليّ البشريّ بأنّ للإنسان خالقاً، والخالق من جنس محبوبه. ما هو محبوبه؟ محلّ حاجته. إلامَ يحتاج؟ إلى البحر؟ إلى البقر؟ إلى الأرض؟ إلى الشجر؟ فكان يرسم صورة الله حسب حاجته ورغبته ومعرفته.
2- بعد التحريف
وقد أعطت الانحرافات في الدين تصوّرات مختلفة لله؛ فنرى الله في الديانة اليهوديّة صورة تشبه الملوك الجبابرة، وكانوا يسمّونه "يهوه". ونرى في الديانة المسيحيّة أنّهم كانوا يتصوّرون وجود الله كأب؛ الأب خالق العائلة؛ فالله خالق الكون، الأب رازق العائلة؛ فالله رازق الكون، والأب يرحم ويشفق ويربّي العائلة؛ وهكذا الله، كلّها تصوّرات بشريّة لا أكثر.
3- الله خالق الكون
لكنّ القمّة حينما وصف القرآن الكريم خالق الكون بـ"الله". والله في المفهوم الإسلاميّ، وفي المفهوم المعاصر، وفي قمّة الفكر البشريّ هو ملتقى جميع القيم؛ يعني أيّها الإنسان، تصوّر من الكمال ما تريد، فتجد الكمال هذا بأعلى مستوياته في الله، فالجمال كمال، والله جميل، والرزق والإرادة والخلق والرحمة كمالات؛ فكلّها موجودة في ذات الله المقدّسة بصورة لا متناهية، وفي القدرة والإرادة والتصرّف والقيمومة والأوّليّة والآخريّة... هذه الصفات كلّها تبلغ القمّة في ذات الله المقدّسة، الذي هو مجمع جميع صفات الكمال، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا. هذا مفهوم جديد عرفته البشريّة لكلمة "الله".
4- توصيف القرآن
أمّا توصيف القرآن لله فتوصيف جميل جدّاً، فحينما تقرأ آياته، ترى من ناحية أنّ الإسلام يحاول أن يعظم الله غاية التعظيم، فيقول: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (الزمر: 67). السماوات تعني جميع الكرات السماويّة؛ أي النجوم التي تبعد عنّا مسيرة مليون سنة ضوئيّة.
والعلم الحديث، كلّما استخدم مكبّرات ووسائل الرؤية، مثل التلسكوبّ الذي يرى الأشياء البعيدة به، يجد أنّه ما وصل إلى نهاية السماء بعد.
ولهذا، فإنّ بعضهم اعتقد أنّ الكون في توسّع، وهذه النظريّة مقبولة اليوم، ويشير إليها القرآن الكريم أيضاً: ﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ (الذاريات: 47). ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ في اللغة العربيّة تعني: نوسّعها ونكبّرها، وقد اعتقدوا بذلك لأنّهم لم يصلوا إلى نهاية السماوات.
ويقول القرآن: ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (الزمر: 67)، وهذا ما يحدو بنا أن نسأل: كم هو كبير الله؟ وما هو تفسير "الله أكبر"، هذه العبارة التي نردّدها كلّ يوم كثيراً؟
هذا ما سنستكمله في العدد المقبل بمشيئة الله.
(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر، ج 10، ص 231 - ص237، بتصرّف.