في الحلقات الماضية تحدثنا عن مجموعة من الإشكالات التي ذكر الشهيد مطهري أن السبب في وقوع الكثيرين في شراكها وخاصة في الغرب هو عدم التصور الصحيح لمثل هذه المسائل، فالمثال الأول كان اتهام الإلهي بالمثالية وسببه توهم انحصار الوجود بعالم المادة وهذا يعني أن المعتقد بالغيب معتقد بما لا واقع له فهو مثالي. والحق أن المثالي هو المنكر للواقع، ومع ملاحظة أن عالم الغيب واقع موجود بالدليل والبرهان يصبح الفيلسوف المادي المنكر للغيب أولى بالمثالية. والمثال الآخر كان البحث عن الله عزّ وجلّ كما نبحث عن الموجودات الأخرى، وهو أمر خاطئ أيضاً، لأن الله عزّ وجلّ ليس موجوداً إلى جانب سائر الموجودات بل هو محيط بكل شيء وليس كمثله شيء. وأخيراً كانت الشبهة القائلة بعدم إمكانية إثبات وجود الله تعالى ومنشأها أن الطريق الوحيد لاكتساب العلوم والمعارف عند الإنسان منحصر بالتجربة وقد بين الشهيد رضوان الله عليه بطلان هذه الدعوى فالكثير من معتقدات ومعارف الإنسان غير خاضعة للتجربة ومنها العلّية ومفهوم الاستحالة وبطلان الدور.
ثمة أشكال أخير ذكره الشهيد مطهري في كتابه "التوحيد" وهو هل أن العالم محدود أم لا؟ وإذا لم يكن العالم محدوداً، كما تفيد بعض التوجهات والنظريات العلمية. فأين يمكن أن يوجد الله تعالى والملائكة وسائر موجودات عالم الغيب؟ وبمعنى آخر إن عدم محدودية العالم لا يُبقي مجالاً لوجود عالم آخر غير مادي، فالله تعالى والملائكة والجنة والنار وغيرهما لا يمكن أن تكون موجودة إذا لم يكن العالم محدوداً.
ومن هنا راح الماديون يناصرون هذه النظرية بينما راح الإلهيون من علماء الغرب يناصرون محدودية العالم، فهذا أنشتاين الإلهي يؤيد محدودية العالم ويخوض حواراً عنيداً وجدالاً عنيفاً ضد مترلينك المادي الذي يؤيد عدم المحدودية، وكل منهما يظن أن محدودية العالم تؤكد صحة المذهب الإلهي وعدمها تؤكد صحة المذهب المادي.
ولكن هل هذا التلازم صحيح؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أنه يمكن تصور محدودية العالم على نحوين:
الأول: من حيث المكان والثاني من حيث الزمان، فما هو تأثير كل منهما على الإيمان بالله عزّ وجلّ وتوحيده؟
محدودية الأبعاد المكانية للعالم:
تصور البعض أن العالم إذا لم يكن محدوداً في أبعاده الثلاثة (الطول ـ العرض ـ الارتفاع) وهي الأبعاد التي تحدد مكان الشيء، فإنه لا يبقى ثمة مكان لوجود موجود غيبي غير مادي لا يكون جزءاً من هذا العالم المادي اللامتناهي، فحيثما نتجه، يميناً وشمالاً، طولاً وعرضاً وارتفاعاً، ومهما قطعنا ملياردات الملياردات من السنين الضوئية فإننا سنبقى في قلب هذا العالم، فأين هو الله إذاً؟ وأين سائر الموجودات الغيبية؟
ومن أجل الفرار من هذا الأشكال رفض المؤمنون من علماء الغرب ومنهم أنشتاين. القول بعدم محدودية العالم وأصروا على محدوديته في أبعاده المكانية الثلاثة على الرغم من أن هذه المسألة ليست من اختصاص العالم الطبيعي وإنما هي مسألة فلسفية بحتة ومن اختصاص الفيلسوف.
وفي الحقيقة فإن هذا الأشكال ليس حديثاً وإنما هو قديم قدم الإنسان، فالإنسان لشدة أنسه بالموجودات المادية غلب عليه الظن أن كل موجود يحتاج إلى مكان حتى ولو كان الله، ومن هنا كان السؤال الدائم: أين هو الله؟ وقد توجه أحدهم بهذا السؤال إلى أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: أين كان ربنا قبل أن يخلق سماءً وأرضاً؟ فقال عليه السلام: أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان.
وسئل الباقر عليه السلام فقال: إن الله تبارك وتعالى أيّن الأين بلا أين وكيّف الكيف بلا كيف، وحتى زرارة الفقيه المشهور وأحد حواريـي الصادقين عليهما السلام سأل الباقر عليه السلام يوماً: أكان الله ولا شيء فقال عليه السلام: نعم كان ولا شيء، قلت فأين كان يكون؟ فقال عليه السلام: أحلت [أي نطقت بالمحال] يا زرارة وسألت عن المكان ولا مكان(1).
وعلى كل حال فإن المنشأ الأساسي لهذه الشبهة هو تصور ضرورة المكان لله تعالى، لكن مع تطور الفلسفة الإسلامية وخاصة في عهد الحكمة المتعالية لمؤسسها الفيلسوف الإلهي صدر الدين الشيرازي أصبح عدم ضرورة المكان لله تعالى وللموجودات الغيبية بديهياً، بل البديهي والضروري أن المكان مختص بالموجود المادي، أما الموجود غير المادي كالله والملائكة والجنة والنار وسائر موجودات عالم الغيب فيستحيل أن يكون مكانياً.
وخلاصة القول أن منشأ الشبهة هو تصور أن الوجود الإلهي يحتاج إلى مكان كسائر الموجودات المادية. والحق كما يقول الشهيد مطهري: كلا، إن الإله الذي يتخذ مكاناً في آخر طرف العالم ويكون بينه وبين العالم حداً فاصلاً ليس هو الله قطعاً، لأن الله هو الذي يكون في السماء إلهاً وفي الأرض إلهاً.
* عدم محدودية الأبعاد الزمانية للعالم:
ومن جهة أخرى قد تصور البعض أن العالم حتى يحتاج إلى خالق وصانع يجب أن يكون قد وجد في زمن معين ولم يكن قبل هذا الزمن موجوداً، فإذا كان كذلك فلا بد له من خالق وموجد وهو الله تعالى. وأما إذا لم يكن كذلك، بحيث لم يكن له بداية ولن يصل إلى مرحلة ينتهي فيها، ففي هذه الحالة إذا قلنا أن الله أوجد العالم فمتى أوجده؟
لقد تصور هؤلاء أن عدم وجود بداية زمانية للعالم تستلزم ضرورة عدم احتياجه للعلة، ولذلك أسهب الماديون بالقول بأزلية المادة وأنها لا تفنى ولا تزول وإنما تتحول من حال إلى حال، ثم رتبوا على ذلك بطلان احتياج العالم إلى علة وبالتالي أنكروا وجود الخالق. أن منشأ هذا الاشتباه هو تصور علّية الخالق للكون أنها على نحو علّية النجار للكرسي، ولما كانت الكرسي لها بداية زمانية لم تكن موجودة قبلها، فلا بد لها من علّة، وقد جاء النجار وصنعها في زمن محدد. هذه نظرة فلاسفة الغرب إلى الموضوع، أما في الفلسفة الإسلامية فقد فرّقوا بوضوح بين هذين النوعين من العلل حيث صنفوا الأولى. علّيه الخالق للكون. من نوع العلّية الإيجادية بينما الثانية. علّية النجار للكرسي. من نوع العلّية الإعدادية، وقد ذكروا فروقات كثيرة بينهما منها أن المعلول الإعدادي يجب أن يكون له بداية زمانية ويجب أن تسبقه العلّة الإعدادية في الوجود زماناً أو تقارنه على الأقل، أما المعلول الإيجادي فليس كذلك، لأن الله عزّ وجلّ وهو العلّة الإيجادية للكون منزه عن الزمان أصلاً، بل هو خالق المكان والزمان فلا يجري عليه شيء من أحوال الزمان، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: لا تصحبه الأوقات ولا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونُه، والعدمَ وجُوده، والابتداء أزلُه.. يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان(3).
ولذلك فلا يقال لتقدمه على المعلول أنه تقدم زماني ولا أنه مقارن له زماناً بل هو متقدم عليه في الوجود، وعلى هذه الحال فلا مانع من أزلية العالم زماناً بل إن "الذي ينبغي قوله استناداً إلى الأصول التوحيدية" كما يقول الشهيد مطهري "هو أن العالم لا بداية له".
إن من لوازم كون العالم له إله. وهو الله المفيض بالذات قديم الإحسان. هو أنه تعالى كان والخلق معه، وهذا ما تقتضيه أصول التوحيد وإن لم يثبت ذلك علمياً.
والحاصل: فالزمان سواء كان متناهياً أم غير متناهٍ فإنه لا يؤثر في الاعتقاد بوجود الله"(4).
وعلى كل حال لم يكن الغرض هنا سوى إلفات النظر إلى أن أكثر الاشتباهات منشأها عدم التصور الصحيح للمسائل المطروحة وأما مسألة حدوث العالم أو أزليته وما هو ملاك احتياجه للعلّة فاعتقد أنها تحتاج إلى بحث مفصل قد نتعرض له مستقبلاً إن شاء الله تعالى.
(1) أصول الكافي، ج1، الأحاديث (2/5/7) من فصل التوحيد. كتاب الكون والمكان.
(2) التوحيد للشهيد مطهري/ص 28.
(3) نهج البلاغة/ الخطبة 186 في التوحيد.
(4) التوحيد/ ص 29، 30.