آية الله محمد إبراهيم جناتي
يعتبر آية الله محمد إبراهيم جناتي من كبار مدرسي الحوزة العلمية في قم المقدسة، بدأ بتحصيل العلوم الدينية في مدينة شاهرود ثم انتقل إلى النجف حيث درس عند كبار علمائها من أمثال السيد الشاهرودي والسيد الحكيم والسيد عبد الهادي الشيرازي وغيرهم على مدى 25 سنة من إقامته هناك.
كتب هذا البحث لمجلة (كيهان أنديشه) على حلقات باللغة الفارسية وترجمه لنا فضيلة الشيخ أحمد وهبي.
في الحلقة الماضية تحدث عن مرحلة التشريع وفي هذه الحلقة يصل الكلام إلى مرحلة التبيين والتدوين.
بناءً على عقيدة الشيعة الإمامية، هذه المرحلة ابتدأت بعد زمان التشريع، واستمرت حتى نهاية الغيبة الصغرى ومقداراً من زمان غيبة صاحب الزمان الإمام المهدي (عجل الله فرجه) الكبرى سنة 328هـ، من أساطين هذه المرحلة العلماء النجوم أمثال علي بن الحسين بن بابويه (والد الشيخ الصدوق الكبير) المتوفى سنة 328هـ، الشيخ الكليني المتوفى سنة 328هـ وابن قولويه المتوفى سنة 368هـ.
أما طبقاً لما يقول أهل السُنَّة في مجال هذه المرحلة، فهم يعتقدون أن الفقه والحديث لم يتم تدوينهما حتى أواسط هذه المرحلة أي نصف القرن الثاني الهجري. وقد دامت هذه المرحلة أكثر من 300 سنة.
إن تبيين وتدوين الفقه والحديث في هذه المرحلة كانا من مسؤوليات الصحابة والتابعين المهمة. لأن المسلمين في هذه المرحلة كانوا في حاجة مبرمة لجمع مسائل الفقه المتفرقة وأحكام الدين من منبعيهما القرآن والسُنَّة النبوية لكي يُرجع إليها عند مواجهة مسألة ما دينية، علمية، اجتماعية أو فردية وغيرها. فالمرحلة الأولى التي هي مرحلة التشريع والتقنين انتهت برحيل نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، والمسلمون بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يقومون بأعمالهم على أساس القرآن والسُنَّة، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره. وعندما كانوا يواجهون مشكلة علمية أو دينية واجتماعية أو مسألة مستحدثة، كانوا يرجعون لأجل حلها إلى الإمام علي عليه السلام. الذي هو باب العلم النبوي. أو الصحابة الآخرين، الذين كانوا قد تعلموا من علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلال صحبتهم له.
في هذه المرحلة، كان حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسُنَّته أهم أساس للتشريع بعد القرآن الكريم، وقد جاء في القرآن الكريم: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب﴾ِ (سورة الحشر/7).
وفي هذه المرحلة قام علي عليه السلام وأتباعه وأوصلوا سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأجيال القادمة بأفضل صورة ممكنة، وطبقاً لمصلحة الأمة الإسلامية وبصدقٍ وإخلاص. وقد كان هذا الجهد مهماً ويستحق التقدير لدرجة أن أحد علماء أهل السُنَّة نظير "الذهبي" في كتاب "ميزان الاعتدال"، يقول: يظهر الميل للتشيع بين التابعين والجيل الذي يليهم بكثرة، وقد امتزج التشيع بينهم بالتدين والتقوى والصدق. وعليه فإذا ضعفت أحاديث هؤلاء الأشخاص فسيرمى جزء عظيم من روايات النبي صلى الله عليه وآله وسلم" (ميزان الاعتدال/ ج1، ص5).
* امتيازات فقه الشيعة:
يتضح من الأبحاث السابقة أن فقه الشيعة يمتلك امتيازات منها:
1- فقه الإمامية فيه فروع كثيرة، والشمولية والتحقيق والعمق والدقة في الاستدلال الذي يرى فيه لا يوجد في أي فقه آخر. وهذا كله من ثمار وبركة "الاجتهاد" الذي تُرجع على أسسه المسائل الفرعية الجديدة إلى الأصول، وتطبق القواعد الكلية على المصاديق الخارجية. وهكذا يتسع مجال التشريع من جهة المصاديق الخارجية والمسائل المستحدثة، ولكن الأصول الأساسية تبقى سالمة دائماً.
2- فقه الشيعة لديه منابع ومصادر كثيرة هي حاصل سعي وجهد الإمام علي عليه السلام وشيعته الصادقين، هذا الجهد الذي استمر 250 سنة بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
3- فقه الشيعة يستند بعد القرآن الكريم إلى السُنَّة النبوية. ويستمد المسائل الفقهية والأحكام الدينية منها، وقد قام الإمام علي عليه السلام وأولاده وأصحابه الصادقون بهذا العمل بشكل جيد، وهذا أحد امتيازات فقه الشيعة طوال أكثر من قرن. وهذا الامتياز يفتقده غيرهم، لذلك توجهوا في استنباط الأحكام الشرعية والمسائل الفرعية الفقهية إلى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وقانون السلف وغيره من المباني الوضعية غير الشرعية، والسبب في هذا عدم إمكان الوصول إلى منابع روائية كافية.
4- الشيعة لديهم منابع صافية ومستقيمة يستخرج منها الفقه والحديث، وهي بعد الكتاب الإلهي القواعد الأساسية لتفكيرهم الفقهي، طهارة واستقامة مصادر الشيعة الفقهية نشأت من الاعتقاد بعصمة الأئمة عليهم السلام الذين هم مبينو الأحكام الأصليون ورواة سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والشيعة فقط هم الذين يعتقدون أن أئمتهم معصومون من الخطأ والنسيان والغفلة والمعصية.
* الاختلاف في تدوين الفقه والحديث:
بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برز اختلاف بين الأصحاب والتابعين في جواز وكراهة ضبط الأحاديث، وعلى هذا الأساس كان الإمام علي عليه السلام، وابنه الإمام الحسن عليه السلام وجمع من الصحابة نظير "أنس" و"عبد الله بن عمرو بن العاص" من القائلين بجواز وحلية بل بلزوم. كتابة الحديث، وبعض مثل عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبو سعيد الخدري كانوا معتقدين بأن كتابة حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراً مكروهاً ومبغوضاً.
أهل السُنَّة أيضاً حتى نصف القرن الثاني الهجري، أي أواخر عصر التابعين، كانوا يمتنعون عن كتابة الحديث طبقاً للنظرية الثانية. ولكن في ذلك الزمان اتفق علماء السُنَّة على لزوم تدوين الحديث لحمايته من الضياع والتلف. ويمكن الحصول على علّة تأخير ضبط الأحاديث والحكم بلزوم كتابة الحديث أيضاً بالرجوع إلى أقوال محدثي أهل السُنَّة.
الإمام علي عليه السلام كان كما في المرحلة الأولى الممسك بزمام مسؤولية ضبط سُنَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي المرحلة الثانية أيضاً تصدى مع عدة من أصحابه لتدوين الفقه والحديث، وما تم جمعه بواسطته عليه السلام هو التالي:
1- القرآن الكريم:
أول مجموعة جمعها الإمام علي عليه السلام هي القرآن. الذي هو أول مستند فقهي. الإمام علي عليه السلام بعد الفراغ من تكفين ودفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، آلى على نفسه أن لا يضع لباساً على بدنه إلا لأداء الفريضة أو جمع القرآن الكريم.
الإمام عليه السلام جمع القرآن بحسب نزول الآيات، وقد أشار فيه إلى عامه وخاصه، مطلقه ومقيده، محكمه ومتشابهه، ناسخه ومنسوخه، وواجباته ومستحباته وآدابه وأخلاقه. وذكر أيضاً شأن نزول بعض الآيات وفسر بعض الآيات المشكلة. ينقل ابن حجر في الصواعق أن ابن سيرين يقول: لو حصلت على هذا الكتاب لأدركت العلم كله. وقد اهتم جمع آخرون من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً بجمع القرآن، لكن لم يوفقوا لجمعه بحسب النزول، وما جمعوه ليس فيه أي ميزة من ميزات عمل الإمام علي عليه السلام. بناءً عليه، الإمام علي عليه السلام هو أول شخص جمع القرآن وفسره.
يروي ابن عباس أن الله ضمن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن علياً عليه السلام سيجمع القرآن بعده، لذلك جعل القرآن في قلب علي عليه السلام وجمع القرآن بعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضع بين يدي المسلمين.
ويقول السيوطي في الإتقان أنه روى عن علي عليه السلام تفسير كثير من الآيات، وينقل معمر عن أبي طفيل أنه رأى علياً عليه السلام يخطب ويقول أنه يطلب من الناس أن يسألوه وأنه سيجيب عن كل أسئلتهم، وأن يسألوه عن كتاب الله ويقسم أنه يعلم كل آية أفي ليل نزلت أم في نهار وفي جبل أم صحراء.
وروى أبو النعيم في "حلية الأولياء" عن أبي السعود: أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وأن كل حرف له ظهر وبطن وإن ظاهر وباطن كل آية عند علي.
عن طريق أبي بن عباس أيضاً عن نصير بن سليمان الأحمس عن ولده أن علياً عليه السلام يقسم بالله أن ما من آية نزلت إلا ويعلم شأن نزولها ومحله، ويطلب من الله أن يهبه قلباً عارفاً ولساناً سائلاً.
2- مصحف فاطمة "سلام الله عليها":
ألَّف علي عليه السلام كتاباً لزوجته حضرة فاطمة الزهراء "سلام الله عليها" اشتهر عند أولاده باسم "مصحف لفاطمة"، ويحتوي هذا الكتاب على أمثال، حكم، نصائح، تاريخ، روايات وأبواب أخرى نادرة لتعزية فاطمة الزهراء سلام الله عليها في عزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
3- كتاب الصحيفة:
ألَّف الإمام عليه السلام كتاباً في باب الآيات وسماه الصحيفة، ذكره البخاري ومسلم، ونقلاً عنه في عدة مواضع من صحيحهما. كما أن أحمد بن حنبل أيضاً روى عنه في "المسند". تدوين الكتاب عند أصحاب علي عليه السلام:
في هذه المرحلة اقتدى بعض أصحاب علي عليه السلام به وقاموا في زمانه بتأليف كتب لا يخلو ذكرها من فائدة.
1- يقول الشيخ الطوسي في "الفهرست" أن سلمان الفارسي ألَّف كتاب "حديث الجاثليق الرومي" فبعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل ملك الروم رجلاً اسمه "الجاثليق" إلى الخليفة في ذلك الوقت، ليجد جواباً عن بعض أسئلته. عجز للخليفة عن الجواب، حينذاك أسرع سلمان الفارسي إلى علي عليه السلام وطلب منه أن يدرك أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فذهب الإمام عليه السلام إلى المسجد وأجاب عن أسئلة "الجاثليق"، فكتب سلمان مجريات هذه الحادثة.
2- وينقل أيضاً المرحوم الشيخ في كتاب "الفهرست" أن أبا ذر الغفاري ألَّف كتاباً يشتمل على خطبة تبين الحوادث التي تلي وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه دون كتاباً باسم "وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم" وقد شرحه وفسره المرحوم العلام المجلسي وسماه "عين الحياة".