اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

قيادة الإمام الصادق عليه السلام

الإمام الخامنئي (حفظه الله)


قيادة الإمام الصادق عليه السلام موقف الإمام السجاد عليه السلام
في معرض حديثه عن حياة الإمام الصادق عليه السلام وقيادته للأمة، تعرض الإمام القائد (دام ظله) في الحلقات السابقة إلى مراحل الإمامة التي سبقت ووصل كلامه إلى مرحلة الإمام السجاد عليه السلام، فماذا عن موقفه عليه السلام؟

والإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام يقف الآن بعد حادثة عاشوراء على مفترق طريقين:
إما أن يعمد إلى دفع أصحابه نحو حركة عاطفية هائجة، ويدخلهم في مغامرة، لا تلبث شعلتها. بسبب عدم وجود المقوّمات اللازمة فيهم ـ أن تخمد وجذوتها أن تنطفئ، وتبقى الساحة بعد ذلك خالية لبني أمية، يتحكمون في مقدرات الأمة فكرياً وسياسياً.. أو أن يسيطر على العواطف السطحية والمشاعر الغائرة، ويعد المقدمات للعملية الكبرى، المقدمات المتمثلة في الفكر الرائد والطليعة الواعية الصالحة لإعادة الحياة الإسلامية إلى المجتمع، وأن يصون حياته وحياة المجموعة الصالحة لتكون النواة الثورية للتغيير المستقبلي، ويبتعد عن أعين بني أمية، ويواصل نشاطه الدائب على جبهة بناء الفكر وبناء الأفراد. وبذلك يقطع شوطاً على طريق الهدف المنشود، ويكون الإمام الذي يليه أقرب إلى هذا الهدف.

* فأي الطريقين يختار؟
لا شك في أن الطريق الأول هو طريق التضحية والفداء، لكن القائد الذي يخطط لحركة التاريخ، ولمدى أبعد بكثير من حياته، لا يكفي أن يكون مضحّياً فقط بل لا بد أيضاً أن يكون عميقاً في فكره واسعاً في صدره، بعيداً في نظرته، مدبّراً وحكيماً في أموره.. وهذه الشروط تفرض على الإمام انتخاب الطريق الثاني.
والإمام علي بن الحسين عليه السلام اختار الطريق الثاني مع كل ما يتطلبه من صبر ومعاناة وتحمل ومشاق، وقدّم حياته على هذا الطريق (سنة 95 هجرية).

وقد صوّر الإمام الصادق عليه السلام وضع الإمام الرابع ودوره الرائد بقوله:
"ارتدّ الناس بعد الحسين عليه السلام إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي، ويحيـى بن أم الطويل، وجبير بن مطعم، ثم إن الناس لحقوا وكثروا، وكان يحيـى بن أم الطويل يدخل مسجد رسول الله صلى الله ىعليه وآله وسلم ويقول: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾.

هذه الرواية تصوّر حالة المجتمع الإسلامي بعد مقتل الحسين عليه السلام. إنها حالة الهزيمة النفسية الرهيبة التي عمّت المجتمع الإسلامي إبان وقوع هذه الحادثة. فمأساة كربلاء كانت مؤشّراً على هبوط معنويات هذا المجتمع عامة، حتى شيعة أهل البيت. هؤلاء الشيعة الذين اكتفوا بارتباطهم العاطفي بالأئمة، بينما ركنوا عملياً إلى الدنيا ومتاعها وبريقها.. ومثل هؤلاء كانوا موجودين على مرّ التاريخ، وليسوا قليلين حتى يومنا هذا.
فمن بين الآلاف من مدّعي التشيّع في زمن الإمام السجاد عليه السلام بقي ثلاثة فقط على الطريق..ثلاثة فقط لم يرعبهم الإرهاب الأموي ولا بطش النظام الحاكم، ولم يثن عزمهم حبّ السلامة وطلب العافية، بل ظلّوا ملبّين مقاومين يواصلون طريقهم بعزم وثبات.

هؤلاء لم ينجرفوا مع تيار المجتمع المنجرّ كالرعاع وراء إرادة الحاكم الظالم، بل كان يقف الواحد منهم وهو يحيـى بن أم الطويل في مسجد المدينة ويخاطب مدّعي الولاء لأهل البيت، معلناً براءته منهم. كما مرّ. ويستشهد بما قاله إبراهيم عليه السلام واتباعه لمعارضي زمانه:
أراد ابن أم الطويل بتلاوته هذه الآية المباركة أمام مدّعي الولاية لأهل البيت عليهم السلام أن يعلن الانفصال التام بين الجبهتين: جبهة الرساليين الملتزمين، وجبهة الخلود إلى الأرض والانحطاط إلى مستوى الأماني الرخيصة والانشدادات المادية التافهة. وهو انفصال يرافق كل الدعوات الإلهية. والإمام الصادق عليه السلام عبّر عن هذا الانفصال بين الجبهتين بقوله: "من لم يكن معنا كان علينا" أي من لم يكن في جبهة التوحيد كان في جبهة الطاغوت، وليس ثمة منطقة وسط بين الاثنين، ولا معنى للحياد في هذا الانتماء.

إن يحيـى ابن أم الطويل هذا المسلم والموالي الحقيقي لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصرخته هذه يعلن الانفصال بين الذين يُرضون أنفسهم بالولاء العاطفي بينما هم قابعون في قوقعة مصالحهم الشخصية وغارقون في مستنقع ذاتياتهم الضيقة، وبين أولئك الملتزمين فكراً وعملاً بالإمام.

هذا الانفصال يعني ـ طبعاً ـ الترفّع عن الانجرار وراء الأكثرية الضالة، ولا يعني إهمال هؤلاء الضالين. من هنا اتجهت هذه المجموعة الصالحة إلى انتشال من له قابلية التحرر من الإصر والأغلال، وكثرت بالتدريج هذه الفئة المجاهدة الصابرة، وإلى هذا يشير الإمام الصادق عليه السلام في قوله المذكور آنفاً: "ثم إن الناس لحقوا وكثروا". وبذلك واصل الإمام السجاد عليه السلام نشاطه. وكان هذا النشاط وبعض المواقف الأخرى التي سنذكرها مما أدى إلى استشهاده، واستشهاد بعض المقربين من أتباعه.

لم أرَ في حياة الإمام السجاد عليه السلام ما يدل على مواجهة صريحة مع الجهاز الحاكم، والحكمة تقتضي ذلك ـ كما ذكرنا ـ لأنه لو اتخذ مثل تلك المواقف التي نشاهدها في حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وبعده من الأئمة تجاه حكام عصره لما استطاع أن يحقق ما حققه من دفع عملية التغيير دفعة استطاعت أن توفّ للإمام الباقر عليه السلام فرة نشاط واسع، بل لصُفّي هو والمجموعة الصالحة الملتفّة حوله.
في مواقف نادرة نلمس من الإمام عليه السلام رأيه الحقيقي من السلطة الحاكمة، ولكن ليس على مستوى المواجهة، بل على مستوى تسجيل موقف للتاريخ وليجعل المحيط القريب منه على قدر من العلم بعمله وحركته.

من تلك المواقف، رسالة تقريع صارخة وجهها الإمام عليه السلام إلى رجل دين مرتبط بجهاز بني أمية هو "محمد بن شهاب الزهري". ونستطيع أن نفهم من الرسالة أن الإمام يخاطب بها الأجيال على مرّ العصور، لا الزهري. لأن الزهري لم يكن بالشخص الذي يستطيع أن يتحرر من الأغلال التي تشدّه إلى موائده بني أمية وقصاعهم ولهوهم ومناصبهم وجاههم، ولم يستطع بالفعل. لقد قضى عمره في خدمتهم، ودوّن كتاباً، ووضع حديثاً ليتزلف إليهم.

هذه الرسالة إذاً وثيقة توضح موقف الإمام من أوضاع زمانه. ونصّها موجود في كتاب "تحف العقول".
وثمة وثيق أخرى هي عبارة عن رسالة جوابية وجهها الإمام عليه السلام إلى عبد الملك بن مروان بعد أن أرسل الثاني رسالة يعيّر فيها الإمام بزواجه من أمته المحررة، وقصد ابن مروان بذلك أن يبين للإمام عليه السلام أنه محيط بكل ما يفعله حتى في أموره الشخصية، كما أراد أيضاً أن يذكّر الإمام بقرابته منه طمعاً في استمالته.
والإمام عليه السلام في رسالته الجوابية يوضح رأي الإسلام في هذه المسألة، ويؤكد أن امتياز الإيمان والإسلام يلغي كل امتياز آخر. ثم بأسلوب كناية في غاية الروعة يشير الإمام إلى جاهلية آباء الخليفة، بل لعله يشير أيضاً إلى ما عليه الخليفة بالذات من جاهلية إذ يثول له: "فلا لؤم على امرئ مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية".
وحين قرأ الخليفة الأموي عبارة الإمام عليه السلام أدرك معناها تماماً، كما أدرك المعنى ابنه سليمان إذ قال له: "يا أمير المؤمنين لَشَدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين!!".

والخليفة بحنكته السياسة يرد على ابنه بما يوحي أنه أعرف من الابن بعاقبة الاصطدام مع إمام الشيعة فيقول له: "يا بنيّ تقل ذلك فإنها ألسن بني هاشم التي تفلق الصخر وتغرف من بحر، إن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتَّضع الناس".
ونموذج آخر من هذه المواقف ردّ الإمام عليه السلام على طلب تقدم به عبد الملك بن مروان. كان عبد الملك قد بلغه أن سيف رسول الله صلى الله ىعليه وآله وسلم عند الإمام. فبعث إليه من يطلب منه أن يهب السيف للخليفة، وهدده إن أبى بقطع عطاء بيت المال عنه.

فكتب إليه الإمام عليه السلام:
"أما بعد فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: {إن الله لا يحب كل خوّان كفور} فانظر أيّنا أولى بهذه الآية".
وفي غير هذه المواقف نرى الإمام السجاد عليه السلام يتحرك بهدوء وباستتار في اتجاه تربية الأفراد وصنع الشخصية الإسلامية وفق مدرسة أهل البيت ومحاربة الانحرافات و... وبذلك قطع في الواقع الخطوة الأساسية الأولى على طريق تحقيق هدف مدرسة أهل البيت المتمثل بإقامة المجتمع الإسلامي المستظل بحكومة إسلامية صالحة على نموذج حكومة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام. وكما ذكرنا من قبل لم يسلم الإمام عليه السلام واتباعه رغم هذا النهج ـ المسالم على الأظهر ـ من بطش الجهاز الأموي وتنكيله. فمن أتباع من قتل بشكل فظيع، ومنهم من سجن، ومنهم تشرّد بعيداً عن الأهل والديار، والإمام عليه السلام نفسه في مرة واحدة على الأقل سيق مقيّداً بالأغلال في حالة مؤلمة من المدينة إلى الشام، وتعرّض مرات لألوان الأذى والتعذيب. ثم دسّ الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك له السمّ واستشهد سنة 95 هجرية.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع