بقلم: آية الله عبد الله الجوادي الآملي(*)
يسعى الجامعون بين "الغَيب" و"الشهادة" إلى نَقل ما أدركوه أو فَهموه إلى المجتمع الإنساني، ولذا يدرسون ويُصنفون - أحياناً - في العلوم النقليَّة بالاستنباط من الظواهر الدينية، - وحيناً - يخلّفون ذكرى عنهم - في العلوم العقلية - دراسة أو كُراسة بالاستعانة بالعلوم المتعارفة والأصول المبيَّنة - وحيناً - ينقُلون مشاهداتهم القلبية بالاستعانة بالكشوف الأولية المعصومة للمعصومين عليه السلام إرثاً ورسالةً للشاهدين، فيُصبحون أسوة للسالكين.
ومن الوجوه المتألقة في الجمع بين الغيب والشهود: أستاذنا ذو المقام السامي حضرة الإمام الخميني رحمه الله ويفتخرُ راقم هذه السطور بالتتلمذ على يديه بدءاً من (شهر مهر عام - 1334 إلى عام 1341 هجري شمسي) (ما بين عامي 1375 - 1382ه.ق) وهي فترةٌ لا تُنسى من بين مراحل دراستي.
وإذا اعتبرنا العشرة المباركة للغاية الممتدة بين عامي (1357 إلى 1368ه.ش) (1399 - 1409ه.ق) هي عشرة تألق نشأة "الشهادة" لهذا العظيم - وهي كذلك - فإن العشرة المباركة الممتدة بين عامي (1347 إلى 1358ه.ق) هي ولا شك عشرةُ تشعشع نشأة "الغيب" لهذا العظيم، ففي هذه العشرة وصل - إلى نفوس سالكي مسلك الصفاء - الكثير من النفائس الغيبية من أنفاسه القدسية.
في عام (1347ه.ق) صنف "شرح دعاء السحر" وأوجد فيه ألفةً محببة بين "المشهود" و"المعقول" و"المنقول" وبتعبير أوفى من هذا: فقد أزاح الستار عن تناسقها.
وفي سنة (1349ه.ق) كتب "مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية" وفيه أزاح الغبار عن صورة الخلافة المحمدية والولاية العلوية، وبيَّن - بلغة رمزية - كيفية سريان هذين النورين في عوالم الغيب والشهود، وأثبت تناظرهما بل وحدتهما بلغة الاستعارة:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا
وفي سنة (1355ه.ق) أنهى تعليقته على شرح القيصري للفصوص، ومصباح الأنس لمحمد بن حمزة الفناري، وفي ديباجة تعليقته على مصباح الأنس ذكر تاريخ دراسته لهذا الكتاب بما صورتُه "قد شرعنا قراءة هذا الكتاب على الشيخ العارف الكامل، أستاذنا في المعارف الإلهية، حضرة الميرزا محمد علي الشاه آبادي اصفهاني في شهر رمضان المبارك 1350ه.ق".
وفي عام (1358ه.ق) صنَّف هذا الكتاب "سر الصلاة" وقد أورد ذكر كتابه "الأربعين" فيه (الفصل الخامس من المقالة الأولى، وكذلك في الفصل الخامس من مقدمة الكتاب)، كما ذكر فيه كتاب "مصباح الهداية" وذلك في الفصل الثاني عشر من المقالة الثانية، ولكون هذا الكتاب "سر الصلاة" قد تم تدوينه للخواص فلا ينتفع به الآخرون، ولذا صنَّف كتاب "آداب الصلاة" لينتفع به الجميع.
تناسق الشريعة والطريقة والحقيقة في رأي الإمام الخميني رحمه الله:
توضح كيفية استنباط أسرار الصلاة من ظواهر أحكامها وآدابها وشروطها وأجزائها وأركانها ومقدماتها وتعقيباتها أن السبيل الوحيد للحصول على سر الصلاة هو حفظ ظواهرها بلا تحجر ولا جمود، لأن ترك الظاهر انحراف عن الصراط المستقيم، والتحجر على الظاهر، هو سبب الخمود، أي أن الفرق بين الجسم (لا بشرط) والجماد (بشرط لا) أو بين النامي (لا بشرط) والنبات (بشرط لا) هو نفس الامتياز بين الشخص الذي يصل - مع حفظ أحكام العبادات كافة - إلى حكمها (عِللها) وبين الذي يجمد على أحكامها فقط.
والسر في عدم انطباق وصف "الجماد" على الإنسان وصدق عنوان "الجسم" عليه؛ وكذلك عدم صدق "النبات" عليه، وانطباق وصف "النامي" عليه؛ هو أن الإنسان متحرك "لا بشرط" فلا يرتهن بجماد "بشرط لا" ولا بأسر نبات "بشرط لا".
يقول الإمام رحمه الله في تعليقته على شرح الفصوص: "... إن الطريقة والحقيقة لا تحصلان إلا من طريق الشريعة، فإن الظاهر طريق الباطن.. فمن رأى أن الباطن لم يحصل له مع الأعمال الظاهرة واتباع التكاليف الإلهية فليعلم أنه لم يُقم على الظاهر على ما هو عليه، ومن أراد أن يصل إلى الباطن من غير طريق الظاهر - على ما تفعل فئة من عوام الصوفية - فهو على غير بينة من ربه".
وقال في كتاب "أسرار الصلاة" نفسه بشأن تكريم السالكين الواصلين "ومن الأمور المهمة التي يلزم التنبيه عليها هي أنهم إذا شاهدوا كلاماً لبعض علماء النفس وأهل المعرفة، فلا يُطلقون (عليهم) الاتهام بالفساد دون حجة شرعية... ولا يتوهمون أن كل من أورد اسماً... ولمقامات الأولياء... صوفّي أو مروّج لادعاءات الصوفية.
أقسم بروح الحبيب أن كلماتهم - بحسب النوع - هي شرح لبيان القرآن والحديث".
* أهم أركان المعراج الحقيقي:
إن المهم من وجهة نظر الإمام الخميني رحمه الله، في هذا السير المعنوي هما ركنان: الأول: يحصل في باب الطهارة وسره "التخلية" وسر سره "التجريد" والثاني: وهو الركن الأعظم، ويحصل في باب الصلاة، وسره "التجلية" وسر سره "التفريد".
وهذا الطريق قد طواه أيضاً السلف من السالكين في كتابه "أسرارهم" فمثلما ورد أن "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ورد بالنسبة نفسها "لا صلاة إلا بطهور" ولذا لا يمكن معرفة سر الصلاة دون الالتفات إلى سر الطهارة، ولأن أصل الطهارة، كأصل النية وحضور القلب، معتبرٌ في الكثير من العبادات إما على نحو الوجوب أو الاستحباب، فإن بتبيان سر الطهارة وتفسير سر النية تتضح أسرار الكثير من العبادات؛ من هنا كان محور البحث في مقدمة هذا الكتاب التي تضم ستة فصول هو كليات معرفة سر العبادة.
ولأن خصوصية القيادة والإمامة قد أفعمت بها روح هذا العظيم، فلم يترك التفكير الجمعي أفكاره العرفانية أبداً، فكان أن أصبح عرفانه سبباً لإنقاذ المجتمع من العزلة، بدلاً من أن كيون دافعاً لعزلة العارف نفسه، ولذا وبعد أن ينقل قول المرحوم الشهيد السعيد الثاني من كتابه "أسرار الصلاة" يستدرك عليه فوراً فيقول: "وما تفضل به من القول إنّ الأفضل أن يصلى في بيتٍ مظلم هو فيغير الفرائض اليومية، فإن إقامتها في جماعة المسلمين هي من السنن المؤكدة".
إن اختيار الوقت "الفارغ" للعبادة هو من الأصول المعتبرة للحصول على أسرارها. كا جاء في الفصل السادس من مقدمة هذا الكتاب والفصل التاسع من المقالة الأولى. لكن المستند الأصيل لجميع هذه الأقوال هو ما ورد في عهد أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر "...واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله أفضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام، وإٌّ كانت كلها لله إذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية".
* سر "إباحة" المكان وأقسام الفتح:
في الفصل الثامن المقالة الأولى من هذا الكتاب ورد في تبيين سر لزوم إباحة المكان ما يأتي:
"ما دام القلب تحت تسلُّط الشيطان، أو النفس، فإن معبد الحق.. مغصوب؛ وبالمقدار الذي يخرج به من تلسُّط الشيطان يدخل في (حيز) تصرف الجتود الرحمانيين حتى تقع الفتوحات الثلاثة". ثم يتطرق إلى الحديث عن أقسام هذه الفتوحات (الفتح القريب، الفتح المبين، الفتح المطلق)، مستنداً إلى آيات كريمة من سورة "الفتح" والصف، والنصر، وإلى استنباط عرفاني مختص به.
والمنبع الأساسي لهذا الاستنباط العرفاني يمكن العثور عليه في مؤلفات عرفاء السلف كتأويلات المرحوم المولى عبد الرزاق القاشاني الذي قال في بداية تأويل سورة "الفتح" "فتوح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أولها: الفتح القريب... وثانيها: الفتح المبين.... وثالثها: الفتح المطلق".
ومرجع هذا الأقسام هي السور المذكورة وإن كان هناك اختلافٌ في التعبير أو تفسير معاني الفتوحات الثلاثة، ولكنَّ الخطوط العامة متظابقة.
* سر تكرار التكبير:
المرحوم الشيخ جعفر صاحب الكتاب القيّم "كشف الغطاء" وهو من فقهاء الإمامية المشهورين ومن الذين قلَّ نظيرهم. فسَّر سر تكرار "التكبير" في الآذان، بأن التكبيرة الأولى تنبيهٌ للغافل، والثانية تذكيرٌ للناسي، والثالثة تعليمٌ للجاهل، والرابعة دعوةً للمتشاغل... ويرى أن سر التكبيرات السبعة، عند النية هو إزالة غفلة المصلي عن الانكسار والتذلل في حضرة الله، وأن رقم "سبعة" إشارة إلى السماوات السبع والأرضين السبع والبحور السبعة...".
وعلى الرغم من أن التكبير هو ظاهراً، تعظيمٌ من سنخ وصف جمال الحق تعالى، لكنه على وفق التحقيق المتقدم. يرجع إلى التسبيح ويُعد من شؤون توصيف جلال الحق، ومن جهة أخرى فإنه على الرغم من أن استذكار أي من تلك الأنغم السبع سبب لتعظيم الله ولكن المستفاد من حديث الإمام أبي إبراهيم الكاظم عليه السلام المنقول في الفصل الرابع من المقالة الثانية من كتاب الإمام رحمه الله هو أن كل تكبير يقابل إزالة حجاب من الحجب السبعة، مثلما أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عندما وصل إلى مقام "قاب قوسين أو أدنى" أزيح أحد الحجب، فكبّر صلى الله عليه وآله وسلم وكان يتلو كلمات في دعاء "الافتتاح" وعندما أزيح الحجاب الثاني (كبَّر صلى الله عليه وآله وسلم (مرة أخرى) حتى أصبحت تكبيراته صلى الله عليه وآله وسلم سبعة مع إزاحة الحجُب السبعة.
ومثل هذه الأحاديث المروية عن أهل البيت هي قواعد عرفانية يشاهد العرفاء بالاجتهاد التهذيبي ومجاهدات التزكية. فروعاً كثيرة (لها)، ونتيجتها هي أن كل تكبير هو تأسيس لدرجة جديدة من السير العنوي، وليس تكراراً لأساس سابق، وقد جاء في نهاية كتاب سر الصلاة "إن التكبيرات الافتتاحية هي لشهود التجليات من الظاهر إلى الباطن ومن التجليات الأفعالية إلى التجليات الذاتية... والتكبيرات الاختتامية هي للتجليات من الباطن إلى الظاهر، ومن التجليات الذاتية إلى التجليات الأفعالية، مثلما كن المرحوم القاضي سعيد القمي يعد التكبيرات الاختتامية للصلاة نتائج أقسام التوحيد الثلاثة".
* سر التسليم في نهاية الصلاة:
بعد رجوعه من الوحدة إلى الكثرة، ومن الحق إلى الخلق، ومن "المحو" إلى "الصحو" ومن الفناء إلى البقاء، بعد الفناء يرى المصلي مرافقيه ويحضر حشدهم فيُسلم عليهم، ويبعث التحيات إلى الأنبياء والملائكة والمعصومين عليه السلام سلام التوديع، وبعد ذلك يدخل نشأة "الملك" ولكونه يرد جمعهم. حديثاً، لذا يسلم عليهم، فقد كان منهمكاً وهو ضمن الصلاة بمناجاة خالقه "المصلي يناجي ربه، وبالتسليم في نهاية الصلاة، يكون ختام السفر الرابع من "الأسفار الأربعة".
صاحب الفتوحات المكية، وهو الشيخ الأكبر الذي يُعد كل ما صُنف ألف بالعربية أو الفارسية، نظماً أو نثراً، في مجال المعارف والأسرار، بالنسبة لما كتبه (الشيخ الأكبر) قطرات الندى مقارنة بالبحر. يورد نكتةً لطيفة لا تُنسى في مبحثه حول سر "السلام" الأخير، وقد نقلها المرحوم القاضي سعيد القمي تحت عنوان "قال بعض أهل المعرفة" دون أن يذكر اسم القائل، ويذكر "محي الدين" أن سلام المصلي لا يصح إلا أن يغيب في حال الصلاة، عما سوى الله ويناجيه تعالى عندما ينتقل من الصلاة إلى مشاهدة المخلوقات يسلم عليها لكونه كان غائباً عنها؛ ولكن إذا كان المصلي متوجهاً إليها باستمرار ولم ينقطع التفات حواسه إلى الناس، فكيف يسلم عليهم؟ فالحاضر دون انقطاع في وسط جمع من الناس لا يسلم عليهم.
وعلى مثل هذا المصلي أن يستحي لأنه بهذا السلام يشير منافقاً للناس إلى أنه كان في حضرة الله وقد التقى بهم للتو. وسلام العارف هو من أجل الانتقال من حال إلى حال سلام على المنقول عنه وسلام للمنقول إليه".
ويُستفاد من رواية عبد الله بن فضل الهاشمي عن الإمام الصادق عليه السلام أن "السلام" علامة الأمان، من المسلم ومن المجيب أيضاً.
وقد وُضعت هذه العلامة في نهاية الصلاة بهدف تحليل الكلام مع المخلوقين. الذي حرَّم بتكبيرة الإحرام. وبقصد أن تكون الصلاة أماناً مما يضله و"السلام" اسم من أسماء الله، وهو من طرف المصلي يبعث إلى الملكين الموكلين من الله به.
(*) من كبار المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة.