الشهيد مطهري رائد العقيدة والفلسفة
"إنّني أوصي الطلاب الجامعيين والمثقفين المؤمنين بأن لا يسمحوا لمؤامرات أعداء الإسلام أن تودع كتب هذا الأستاذ العزيز في مطاوي النسيان". بهذه الكلمات المفعمة بالحب والحنان والناطقة بالرعاية الأبوية والاهتمام الكبير بأصالة الثقافة التي ينبغي أن تسري في أوساط مجتمعنا الإسلامي وخاصة بين "الطلاب الجامعيين والمؤمنين المثقفين"، يدعونا الإمام الخميني رضوان الله عليه إلى الحفاظ على أصالة ثقافتنا من خلال النهل والارتشاف من الينابيع الصافية والجداول العذبة الخالصة التي تركها لنا الأستاذ العزيز الشهيد مرتضى مطهري الذي تمرّ ذكراه الثامنة عشرة خلال هذه الأيام.
لقد كان هذا الأستاذ الشهيد – كما شهد له الإمام رضوان الله عليه وكبار العلماء والروحانيين والطلبة وسائر قطاعات المجتمع "معلماً ومربياً" بحق للمجتمع بكلّ ما للكلمتين من معنى. كان ينطق بلغة يفهمها الجميع، فيوضح المعضلات الإسلامية والحقائق الفلسفية ببيان قوي وفكر قويم دون أي اضطراب أو قلق. وخلف من الآثار الخالدة ما يشعّ نوارً من فطرة نقية وروح طاهرة وعاشقة للهدف المقدس. ويكفيه فخراً أنّ الإمام الخميني رضوان الله عليه يصف آثاره في البيان الذي أُذيع بمناسبة الذكرى الثالثة لاستشهاده رضوان الله عليه، بأنّها "جميعاً جيدة بلا استثناء، ولا أعرف شخصاً غيره أستطيع أن أقول بشأنه إنّ جميع آثاره جيدة بلا استثناء. أمّا هو فإنّ جميع آثاره جيدة تربي الإنسان وتصنعه".
من هنا فقد اختارت "بقية الله" الشهيد مطهري للاستلهام منه في تبيان المسائل العقائدية والحقائق الإسلامية وتقديمها إلى القراء الأعزاء، وقد اخترنا بشكل خاص سلسلة البحوث العقائدية التي ألقاها الشهيد في المجمع الإسلامي للأطباء في إيران بين عام 1968 و 1969 ميلادية، حيث عرض فيها أحدث الآراء والنظريات العلمية والفلسفية المادية والإلهية حول التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد وما يتفرع عنها من مسائل، وعمل على نقدها وتمحيصها بأسلوب تميز بالدقة والعمق، والسعة والشمول، وقوة البيان والوضوح وحسن العرض والنقد. أما طريقة الاستفادة من هذه البحوث فسوف تكون على نحو القراءة والنظر لأهم ما ورد في هذه المسائل والأفكار وتسليط الضوء عليها مع عرض بعض المقدمات واستخلاص بعض النتائج حيث تستدعي الحاجة. وكلنا أمل في أن نكون ساهمنا مساهمة – ولو يسيرة – في تعميم الفائدة بالوصية الأبوية العطوفة للإمام المقدس رضوان الله عليه. أما في هذه الحلقة فسنتعرض فكرة رئيسة وهي: ما هي المشكلة الرئيسية في عدم الوصول إلى نتائج صحيحة (أو إلى نتيجة أصلاً) في المسائل العقائدية والفلسفية من وجهة نظر الشهيد مطهري رضوان الله عليه؟
* منشأ الاشتباه والاختلاف في الآراء:
لكلّ علم من العلوم – وكذا لكلّ مسألة من مسائل أيّ علم – مبادئ تصورية ومبادئ تصديقية، والمقصود من المبادئ التصورية المعرفة الصحيحة والكاملة بهذا العلم من قبيل معرفة الموضوع الذي يدون حوله هذا العلم، ومعرفة الهدف والغاية منه، وكذلك معرفة المبادئ التي نشأ منها والمقدمات التي يحتاج إليها والمراحل التي تطور فيها، بل ومعرفة النهج المناسب للتحقيق في مسائله وتفريعاته أيضاً. فإذا عرف الإنسان هذه الأمور وتصورها تصوراً صحيحاً لا اشتباه ولا خطا فيه يكون قد أحاط بالمبادئ التصورية لهذا العلم. وبعد ذلك يأتي دور المبادئ التصديقية والتي هي عبارة عن الطريق والوسائل التي يتبعها في التحقيق في هذا العلم ومعرفة كيفية استخدام هذه الطرق والوسائل من أجل الوصول إلى نتائج وآراء نهائية.
فلو أخذنا مسألة من مسائل علم الطبيعة، مسألة تمدد الحديد بالحرارة على نحو المثال، فلهذه المسألة مبادئ تصورية وأخرى تصديقية. ففهم طبيعة الحديد، وطبيعة الحرارة، والمقصود من التمدّد، ومعنى سببية الحرارة للتمدّد، كلّ ذلك يعتبر من المبادئ التصورية لهذه المسألة. ومن جهة أخرى، فإنّ استخدام الأسلوب التجريبي، أو القياسي، أو أقوال العلماء أو ما إلى ذلك لإبداء الرأي النهائي في هذه المسألة فهذه من المبادئ التصديقية. وواضح جداً أن الدخول في مرحلة المبادئ التصديقية وتحديد أي الوسائل المناسبة للتحقيق في هذه المسألة أو أيّ مسألة أخرى متوقف على الإحاطة الصحيحة والتامة بالمبادئ التصورية لها، ومن دون ذلك فلن نتوصل إلى نتيجة صحيحة قطعاً.
ومن هنا نجد أنّ اختلاف الآراء بين العلماء والباحثين في المسائل سواء العلمية منها أم الفلسفية أم غيرها، نابع من أحد أمرين: إمّا الاختلاف في التصور الصحيح والفهم الجيد لهذه المسائل، وهو ما يعبر عند بالمبادئ التصورية، وإمّا الاختلاف في طريقة الاستدلال واختيار الأسلوب المناسب لها وهو ما يعبر عنه بالمبادئ التصديقية. ففي مثالنا السابق، فلو تصور أحد العلماء طبيعة الحديد بحقيقتها وتصورها عالم آخر بحقيقة أخرى موافقة لطبيعة الحجر مثلاً، فإنّهما قطعاً لن يصلا إلى نتيجة واحدة حتّى ولو اتبع كلاهما الطرق السليمة في منهج التحقيق والاستدلال. وسوف يثبت أحدهما أنّ الحديد يتمدّد بالحرارة بينما يصر الآخر على نفي ذلك، نعم من الممكن أن يقال إنّه يصعب جداً أن يقع عالمان طبيعيان في اشتباه في تصور المسائل الطبيعية وذلك لشدّة أنس الإنسان بالمحسوسات والتصورات الحسية من جهة وإمكانية خضوع أكثرها للتجربة المباشرة، أمّا في خصوص مسائل التوحيد فالمشكلة الحقيقية كما يرى الشهيد مطهري هي في التصور الصحيح لهذه المسائل. يقول رضوان الله عليه: "إنّ المشكلة كلّ المشكلة في عدم التمكّن من الوصول إلى حلّ صحيح هو عدم الطرح الصحيح للمسألة.. وهذا الكلام صادق تماماً في التوحيد". والمطالع لآثار الشهيد رضوان الله عليه يلاحظ ميزة خاصة من ميزاته وهي أسلوبه الفريد في طرح المسائل بحيث يؤدي إلى زوال جميع الشكوك والشبهات التي بنيت على أساس التصور الخاطئ لها، نعم، لقد كان لديه من قوة البيان ما يُمكّنه من سبر أغوار المسائل المختلفة والنفاذ إلى أعماقها ومن ثمّ استخراجها وتقديمها بأفضل صورة وأروع حلة تأسر العقول وتأخذ بمجامع القلوب. يقول الشهيد مطهري: "العمدة في المسائل الفلسفية هو التصور الصحيح لها، ولذا لا بدّ للإنسان من إجهاد نفسه منذ البداية في تصور المسألة جيداً وإجالتها في ذهنه. فإن استطاع أن يطرحها طرحاً صحيحاً، تمكّن من الوصول فيها إلى حلّ صحيح، وإلاّ فلا..."
وليتضح الأمر أكثر يذكر الشهيد بعض الأمثلة نتعرض هنا لواحد منها:
* المائز بين الإلهي والمادي:
هل ينكر الإلهيون الواقع المادي؟ وهل كل من يعتقد بأصالة المادة يؤمن بالنظرة المادية للكون؟
يطرح الكثيرون من أتباع المذهب المادي – وخاصة الغربيين منهم – جملة من المغالطات والأفكار الخاطئة وينسبونها إلى الإلهيين. ولعلّهم يتعمدون هذا الأمر عن سابق علم بعدم صحة نسبة هذه المغالطات إلى الإلهيين بهدف التشويش على آراء العامة ودفعهم إلى رفض المذاهب الإلهية والتوجه نحو الإلحاد والمادية. ومن هذه المسائل أنّ الإلهيين ينكرون أصالة المادة ويؤمنون بالروح المجردة. أما المادي فهو الذي يعتقد بأصالة الواقع المادي وينكر ما عداه. وإذا قال المادي بوجود الروح فمقصوده الروح المادية، أما الروح المجردة وكذا كل شيء لا يكون مادياً من قبيل الله، الملائكة، الوحي... (ما يسميه الإلهيون بعالم الغيب)، كل ذلك غير موجود عند المادي، وبحسب تعبيرهم يقع الإلهي في النقطة المقابلة للمادي، أي أنّه يؤمن بالروح المجرّدة وبالله والملائكة وسائر شؤون عالم الغيب ولكنّه ينكر أصالة المادة بمعنى أنّ العالم المادي لا وجود له ولا واقعية ولا أصالة.
إنّ هذا التصور الخاطئ عن معتقدات الإلهيين سوف يؤدي حتماً إلى اشتباهات عظيمة جداً. منها أنّه سوف يضع جميع الإلهيين موضع تهمة كبيرة لدى العقل وعامة الناس لأنّهم ينكرون ما لا يمكن إنكاره. ومنها أنّنا سوف نتهم الكثير من الفلاسفة بأنّهم ماديون إذا وجدنا في آثارهم ما يدل على اعتقادهم بالواقع المادي. والمشكلة الأكبر عندما يكون هؤلاء الفلاسفة من المؤمنين بالله والكثير من الأمور المجردة وقد صرحوا بذلك في آثارهم بشكل واضح، فهل وقعوا في التناقض؟ أم نسبت إليهم هذه الاعتقادات زوراً، أم تذبذبوا بين المادية والإلهية من حين لآخر؟ كما اتهم بذلك أرسطو ابن سينا وغيرهما من كبار الفلاسفة الإلهيين. وهذا الخلط مشهود في الكتب الأكاديمية التي تدرس في جامعاتنا. ولكن أين هي حقيقة المشكلة؟ المشكلة هي في تصوير المادي بمعنى الواقعي وفي المقابل تصوير الإلهي بمعنى المثالي. فالواقعي هو الذي يؤمن بالواقع الموجود ويقابله المثالي وهو الذي ينكر الواقع، ويعتبر أنّه لا يوجد شيء في الواقع الخارجي. وكلّ ما نراه ونسمع به ونلمسه ونعتقد بوجوده خيال في خيال.
أمّا المادي فهو الذي يقبل بالموجود المادي، فالوجود عنده يساوي المادة. وكلّ ما يمكن أن يقع تحت الحواس فهو موجود، أما الشيء الذي لا يدرك بالحواس فلا يمكن أن يكون موجوداً عند المادي. الإلهي بدوره يعتقد بالواقع المادي ولكنّه لا يحصر الوجود بالمادة. فما يوصل إليه الدليل والبرهان أو يدركه الشهود والعرفان يعتقد الإلهي بوجوده وإن لم يكن إدراكه بالحواس الظاهرة، وهذا هو الفارق الأساسي بين الإلهي والمادي وعندما تطرح المسألة بهذه الصورة ترتفع كلّ الاشتباهات المذكورة آنفاً بالمرة. يقول الشهيد رضوان الله عليه: "المائز بين الإلهي والمادي هو الإيمان بالغيب.. فهما لا يختلفان في الطبيعة، غير أنّ الإلهي مضافاً إلى اعتقاده بعالم الطبيعة يعتقد أيضاً بعالم الغيب، أي أنّه لا يعتبر الوجود منحصراً بالمشهودات والمحسوسات فقط، بل يعتقد بالموجودات الغيبية وغير المحسوسة التي على رأسها الاعتقاد بالله تعالى.. والملائكة والوحي والمعاد... ذكرنا ذلك من أجل التفكير الخاطئ – الذي قد يكون متعمداً – السائد بين الغربيين والمذكور في كتبهم الفلسفية حيث صنفوا الناس إلى فئتين: الأولى: المادية وهي التي تؤمن بالمادة وتنكر وجود الروح وسائر الأمور غير المادية. الثانية: المثالية وهي التي تؤمن بالروح وتنكر المادة، ومقصودهم بهذه الفئة مطلق الإلهيين من الحكماء وأرباب الأديان القائلين بأصالة الروح دون أصالة المادة".
وبعد هذا التوضيح يمكن القول إنّ المصداق الأبرز للواقعي هي الإلهي لأنّه يعتقد بوجود كل ما يدلّ عليه الدليل. أمّا المادي الذي ينكر بعض الموجود (مثل عالم الغيب) حتى ولو دلّ عليه الدليل فيمكن أن يكون من هذه الناحية مصداقاً للمثالي.
إذاً على الباحث أن يتصور المسألة جيداً قبل أن يبدي رأياً حولها حتّى لا يقع في الخطأ والاشتباه.