سكنة حجازي
﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ (مريم: 2 ـ 4).
﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾ (آل عمران: 38).
﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ (الأنبياء: 89 و90).
صدق الله العظيم
النبي زكريا عليه السلام نجي الله، صاحب المناجاة الخفية والدعوة السرية المستجابة الذي لم يكن شقياً بدعائه طمع في رحمة الله وكرمه الفيّاض، عندما شاهد بأم عينه ـ وقد أيقنها في قلبه من قبل ـ عجيب صنائعه وعظيم لطائفه مع مريم البتول (عليها السلام)، فسأل الله ربه ما سأل ودعاه بأدب النبوة الذي لا يخفى.
إنه من أنبياء بني إسرائيل الذين لا عهد لهم ولا ذمة، لا طاقة لهم في الصبر ولا حفظ للعهد، يتمردون بمجرد غياب نبيهم عنهم، ويتفرقون إذا ما أخذتهم الأهواء، يطيعون حتى المنافقين والسحرة إذا ما دعوهم، ويتبعون الشياطين إذا أغووهم.
وقد ذكرت قصة دعائه، مفصلة، في موضعين من القرآن، في سورة آل عمران (آية 37 حتى 41)، وفي سورة مريم (آية 1 حتى 11). ومختصرة في عدة مواضع من السور القرآنية.
وقد سأل الله تعالى أمراً يبدو في ظاهره دنيوياً ولكن الباعث إليه هو ما شاهده من إخلاص العبودية من مريم (عليها السلام)، عندها طلب ولداً صالحاً يرثه ويعبد ربه عبادة مرضية كما ورثت مريم أباها عمران، وبلغت جهدها في عبادة ربها ونالت منه تلك الكرامة.
وقد استعمل في دعائه من الأدب البالغ وهو ما ساقه إليه حال الوجد والحزن الذي ملكه، فنراه قدم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربه، فقد صرف دهره في سلوك سبيل الإنابة والمسألة حتى وقف موقفاً يرق له قلب كل ناظر رحيم وعندما سأل الولد قال وعلل بأن ربه (سميع الدعاء).
فمن آداب الدعاء والمسألة إلى الله تعالى أن يظهر العبد فقره وحاجته الملحّة لما يطلبه والأهم من ذلك أن يقف العبد موقف الذل والخشوع أمام مولاه، فيكون ضعيفاً، مستكيناً متضرعاً بشتى الوسائل استدراراً للشفقة والرحمة والعطف الإلهي، وقد بلغ النبي زكريا عليه السلام أقصى ذلك في استعمال الأدب النبوي في مخاطبة المولى عزَّ وجلَّ كل ذلك قبل أن يصرح بطلبه.
فهو الذي رأى من جميل الصنع وأعاجيب القدرة الإلهية، مع مريم البتول (عليها السلام) حيث كلما دخل عليها المحراب ـ بعد أن كفلها ـ وجد عندها رزقاً ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ﴾ (آل عمران: 38)، وكان في ذلك تعبير عن إخلاص العبودية وما ينتج عنه من الكرامة الإلهية للعابدة المتبتلة.
وهو الذي عرف العبودية الحقة والاجابة الدائمة من ربه في كل ما دعاه، طمع بذلك الكرم الإلهي الفياض على مخلوقاته، أنشأ يعرض وينادي نداءً خفياً في السر والاخفاء دون الجهر أو العلن.
فالآية تذكر مناداة النبي زكريا عليه السلام لربه، والنداء يكون للبعيد دون القريب، وفيها دلالة على استشعار بُعده عن الله، لأنه أراد أن يبين قصوره عن الطاعة ـ وهو العبد المطيع ـ وأن سبب ذلك ذنوبه وأحواله ـ وهو النبي المعصوم ـ لذا وضع نفسه موضع الخائف المرتهن.
بعد ذلك بدأ بالكلمة التي تستجلب الرحمة وهي مفتاح الدعاء (رب) (قال رب إني وهن العظم مني) العظم هو الدعامة الأساسية لحركة الإنسان فإذا (وهن) ضعف، وهن الجسم وسكنت حركته.
(واشتعل الرأس شيبا) فيه كناية عن انتشار الشيب في الرأس كما ينتشر شعاع النار عند الاشتعال من الشواظ واللهب. وفي ذلك تعبير عن تقدمه في السن والشيخوخة.
ثم عدّد مظاهر النعمة الإلهية عليه ومرافقة الرحمة له فهو اعتاد الاجابة الدائمة لدعائه، إذاً لن يُخيّب الله تعالى دعاءه في هذه الحاجة أيضاً.
وكرر لفظة (رب) (ولم أكن بدعائك رب شقيا) غير مستجاب الدعوة بما في ذلك من مبالغة في التوكل والثقة لما في التدبير الإلهي المستلزم للربوبية.
وأيضاً وقبل التصريح بحاجته ذكر السبب الداعي لهذه الحاجة (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً)، لقد خاف الأقارب والورثة وغيرهم وهم الذين يلونه من الأولاد الذين ليسوا من صلبه، وهو كناية عن خوفه أن يبقى بدون عقب، وقيل إنه خاف أن لا يعقبه من ينذر بني إسرائيل ويرشدهم إلى عبادة الله تعالى بدليل أنه طلب أن يهب له ذرية طيبة وغلاماً رضياً.
وذكر حاله والأسباب الطبيعية المانعة من الانجاب ـ والله بكل شيء عليم ـ من ضعفه وكِبَرهِ وامرأته العاقر، مع خوفه الموالي وقد تعود الاستجابة من الله المجيب، كل ذلك دفعه لأن يطلب هذا الأمر، وما ذلك على الله بعزيز.
(فهب لي من لدنك ولياً) وارثاً (من لدنك) لأن الأسباب الطبيعية قد انتفت، (يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا)(*).
إذا كان سيرثه هو بالمال فبماذا يرث من آل يعقوب؟ إن اطلاق الرضا هي لتشمل العلم والعمل جميعاً، فالمرضي هو المرضي في اعتقاده وعمله أي اجعله ربي محلى بالعلم النافع والعمل الصالح.
وهذه الآية نظير قوله: (ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة) أي ذرية من صلبي، يرثني فيما أتركه من الوراثة الحقيقية، وهي المال والمتاع، والوراثة المجازية المعنوية وهي العلم والعمل وسائر الحالات الأخرى.
نلاحظ أن النبي زكريا عليه السلام قد تدرج لطلبه في أربع مراتب:
1 ـ وضع نفسه موضع المقصر والمذنب.
2 ـ أظهر ضعفه وفقره وحاجته إلى الله تعالى.
3 ـ بدأ بمفتاح الدعاء والرحمة (رب).
4 ـ ذكر السبب الداعي لهذا الطلب.
إضافة إلى الثناء على الله تعالى من الكرم والرحمة واستجابة الدعاء الدائمة، ويأسه للأسباب الطبيعية من تحقق ما سيطلبه، وأن الله قادر على خرق هذه الأسباب متى شاء. كل ذلك قبل أن يصرح بما يريده وفي ذلك غاية الأدب والخضوع والخشوع أمام رب الأرباب ومسبب الأسباب.
وقد استجاب الله تعالى له ولبى دعوته وهو في محراب عبادته بنداء له عبر الملائكة ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾
* في هذه الآية استدلت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على من ادعى بأن الأنبياء لا يورثون بأن النبي زكريا عليه السلام طلب من الله تعالى ولياً وارثاً من صلبه وفي ذلك كذب ادعائهم، فالأنبياء كغيرهم من البشر يرثون ويورثون ما يملكون، والنبوة ليست بالوراثة لأنها عهد الله ولا ينال عهد الله الظالمون كما صرّح لنبيه إبراهيم عليه السلام ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين﴾َ (البقرة: 124).