قراءة في نظرة السيد محمود الهاشمي للولاية والمرجعية: هذه هي شرائط الولاية والمرجعية
لم تكن ميزة المحاضرة التي ألقاها آية الله السيد محمود الهاشمي على طلابه فيما يعرف بالمصطلح الحوزوي بـ(البحث الخارج) والتي طبعت تحت عنوان (نظرة جديدة في ولاية الفقيه) في أنها نظرة جديدة وحسب، بل في كونها صادرة عن ألمع تلامذة السيد الشهيد محمد باقر الصدر قدس سره وأحدّهم في الذكاء والفهم والدقة وسعة الأفق العلمي والثقافي، وهو من القلائل جداً الحاملين لشهادة الاجتهاد المطلق من أستاذه السيد الشهيد الذي كان يعتز به أيما اعتزاز ويصفه بأنه مُلئ علماً من رأسه حتى أخمص قدميه. لقد عايش السيد الهاشمي كل التوجهات والمدارس الفكرية والأصولية القديمة والحديثة في حوزتي النجف الأشرف وقم المقدسة وهذا يضفي على نظرته قوة إضافية كبيرة.
وتوخياً لتعميم الفائدة ارتأينا تسليط الضوء على هذه المحاضرة القيمة وما فيها من ملاحظات بنّاءة، فكانت هذه القراءة.
لقد قسم السيد محمود الهاشمي بحثه في هذه المحاضرة إلى ثلاثة محاور رئيسية، تحدث في المحور الأول عن السيد القائد (حفظه الله) والمؤهلات العامة والمواصفات الخاصة التي يتميز بها من خلال التجربة والمعايشة عن قرب، وفي المحور الثاني تناول موضوع ولاية الفقيه وأنها مستمدة من ولاية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) كضرورة من ضروريات الفقه الشيعي الإثني عشري، ثم انتقل في المحور الثالث للحديث حول موضوع المرجعية وأنها جانب من الولاية التي هي المرجعية الكلية، وتوقف عند مفهوم الأعلمية والكفاءة كشرطين أساسيين للمرجعية مبدياً حولهما نكات قيمة.
ولتتضح الصورة أكثر، سوف نلقي نظرة على هذه المحاور مع إعادة ترتيبها لتصبح على الشكل التالي:
1 ـ الولاية، المرجعية، ثم السيد القائد (حفظه الله).
* المحور الأول ـ الولاية:
يعتبر السيد الهاشمي أن الولاية هي المرجعية الكلية وحاكمية الإسلام، فمن ينطلق من فهم صحيح لروح الإسلام وأهدافه العظيمة يرى بداهة ولاية الفقيه العارف بأحكام الإسلام الحائز على أعلى درجات التقى والعدالة والكفاءة في إدارة الأمور مثلما يرى رجوع الجاهل إلى العالم في التقليد التي هي المرجعية الجزئية. لقد كان هذا الأمر مرتكزاً في وجدان الأمة والعلماء على مر التاريخ حيث نجد أن العلماء ـ حتى المعاصرين منهم الذين كانوا لا يرون الولاية للفقيه ـ كانوا كلما سنحت لهم الفرصة وبمقدار ما تبسط إليه أيديهم يقومون بتطبيق أحكام الشرع الحنيف دون تقاعس أو تردد. لقد كان العلماء طليعة المدافعين عن الإسلام والداعين إلى تطبيقه، وما الثورة الإسلامية المباركة في إيران وقبلها ثورة العشرين في العراق أوائل هذا القرن وبعدها الانتفاضة الشعبية بقيادة العلماء أواخره سوى شواهد ساطعة على هذه الحقيقة التاريخية.
والنظرة الدقيقة للمرجعية الحالية التي يتمتع بها الفقهاء والعلماء هي في الحقيقة جانب من الولاية. ومن الأخطاء الكبيرة أن يتصور البعض أن الكثير من الفقهاء والعلماء لم يكونوا يريدون تطبيق أحكام الدين ولا أن تكون الحاكمية للإسلام، فليس عدم تصديهم لذلك إلا لأنهم لم يكونوا مبسوطي اليد ولم تسنح لهم الظروف لذلك. نعم، إن ميزة الإمام الخميني قدس سره أن هذا الفهم لم يكن مرتكزاً في وجدانه فحسب، وإنما عاشه في كل وجوده وكيانه: قلباً وشعوراً، عقلاً وفكراً، ممارسةً وعملاً، ولم ينتظر الفرص لتسنح له، بل قام وصنع الظروف التي تفجر هذا الارتكاز الذهني في الأمة وأقام الحكومة على أساس الولاية.
يقول السيد الهاشمي: يجب أن يعرض المراجع والفقهاء والفضلاء والحوزة والأمة وجميع الناس أن هذا الانجاز (إقامة حكومة الإسلام على أساس ولاية الفقيه) لعظيم جداً، وأن هذه في الحقيقة هي المرجعية الكلية التي هي حاكمية الإسلام وحاكمية الفقه.. وهو ما سعى الفقهاء للوصول إليه ولكنهم لم يبلغوا إلا جانباً منه وهو المرجعية في الحقوق الشرعية وأمور الأيتام والأموال المجهولة المالك وأمثالها، وليس هذا (ولاية الفقيه) بشيء جديد. إنها الشكل الصحيح والكامل للمرجعية من إقامة الدين في المجتمع" (نظرة جديدة، ص18 ـ 19).
وإذا كان موضوع الولاية بهذا الوضوح فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً على حد تعبير صاحب الجواهر (ج21، ص397)، إذ كيف يجوز القول بعدم رضا الشارع يقيناً في ترك الأموال البسيطة لليتيم من دون ولي فيكون الفقيه ولياً على مال اليتيم، ولكن إذا وقعت الحكومة في يد الفقيه وتمكن من تطبيق نظام الإسلام فنقول إن الله سبحانه يرضى أن تخرج من يد الفقيه الجامع للشرائط! يقول السيد الهاشمي: "ليس الأمر كما يتصور بعض الفقهاء بأن الله سبحانه لا يرضى أن لا يكون هناك ولي في القضايا البسيطة مثل أموال الأيتام ومجهول المالك والحقوق الشرعية فيستظهر بأن الولي هو الفقيه، وأما الحكومة.. لا نستظهر رضا الشارع بالولاية فيها! إن هذا ذوق فقهي معوج" (نفس المصدر، ص19).
وأغرب من ذلك قول القائل بأن ولاية الفقيه مستمدة من الشعب وهو لا يمت إلى المنهج الفقهي الشيعي بأي صلة على الاطلاق، فولاية الفقيه يقول السيد الهاشمي: "جزء من ولاية الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وامتداد لولايتهم" التي هي بدورها امتداد لولاية الله ورسوله، ويقول أيضاً: "إن الولاية والحاكمية لله سبحانه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار (عليهم السلام) ومن بعدهم لمن يجعلونها وينصبون لها، ولم تُترك إلى الناس" (ن.م، ص22)، سواء رضي الناس بذلك أم لا، وسواء وافق ذلك اختيار الناس أم لا. وآيات القرآن الكريم وروايات أهل بيت العصمة وسيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين عليه السلام في الحكومة ظاهرة في ذلك بما لا يشوبه شك. فلا شرعية في الإسلام لما يسمى بالشورى أو الانتخاب أو أي طريق من طرق الاختيار البشري للولاية، وفي الحقيقة إن هذه الطرق من البدع التي جاءتنا من الغرب كما يقول السيد الهاشمي وليس لها في الإسلام عين ولا أثر.
* المحور الثاني ـ المرجعية:
إذا تجاوزنا المرجعية بمعناها الكلي العام الذي يتحد مع الولاية وأخذناها بالمعنى العرفي المشهور فليست هي بالأمر القليل أبداً، إنها مسألة هامة جداً كما يعبر السيد الهاشمي، ولئن اعتبر البعض أنها من قبيل الرجوع إلى الطبيب فقد وقع في خطأ كبير، لأن علاقة المريض بالطبيب هي في بعد واحد وفي الحالات الطارئة، أما المرجعية فتشمل جميع مجالات الحياة الإنسانية من البداية وحتى النهاية، يقول السيد الهاشمي: "المرجعية عبارة عن أن الشخص الواحد بل المجتمع يضع أموره الفقهية كافة من حين ولادته إلى لحظة وفاته، أي كل حياته بين يدي المرجع" (ن.م، ص39)، ويقول أيضاً: "إنها نوع من الولاية أو على الأقل قيادة حقوقية فقهية" (ن.م، ص40).
إن هذه الأهمية الفائقة للمرجعية تفترض شروطاً خاصة في المرجع لا يفترضها المريض في طبيبه الذي يرجع إليه: فالمرجع يجب أن يكون عادلاً، تقياً، طاهر المولد، زاهداً في الدنيا إلى سائر الشرائط المذكورة في كتب الفقه، وزاد على ذلك الشهيد الصدر حيث اعتبر شرطاً إضافياً وهو الكفاءة واللياقة للمرجعية. يقول الشهيد الصدر في فتاواه الواضحة: "المجتهد المطلق إذا توفرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد.. كانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين شريطة أن يكون كفوءاً لذلك من الناحية الدينية والواقعية"، ومن هنا نجد أن السيد الهاشمي في الوقت الذي يؤكد على أهمية الأعلمية، ولكن بمفهومها الواسع الجديد كما سيتبين بعد قليل، يشدّد على أنه لا ينبغي التعامل معه وكأنه الشرط الأول والأخير، بل اللازم على الفقهاء "مضافاً إلى إحرازهم للنواحي العلمية أن يكونوا ذوي كمالات أخرى تبعث على لياقتهم للمرجعية.. لا بد من كمالات أخرى تجعله (المجتهد) لائقاً لقيادة المجتمع" (ن.م، ص41).
ومن جهة أخرى يتوقف السيد الهاشمي عند مفهوم الأعلمية المشترط في مرجع التقليد، فلا يسلم بالتعريف المشهور بما يدل على أن الأعلم هو الأكثر جهداً في أبحاث الأصول أو القواعد الفقهية أو الفلسفية أو علم الرجال ويعتبره ناقصاً جداً وبعيداً عن الصواب.
يقول السيد الهاشمي: "فالأطر التي وضعناها للأعلمية والمقاييس التي ننطلق منها لمعرفة الأعلمية هي ناقصة جداً. فليس من الصواب أن يتصور من أتعب نفسه في الأبحاث الفنية الأصولية أكثر ثم ألّف كتاباً وأصدر رسالة عملية مثلاً أنه الأعلم" (ن.م، ص35) نعم هذه العلوم تشكل جانباً من الأعلمية ولكن لا يمكن الغفلة عن عوامل أخرى وعلوم أخرى لها تأثير كبير في أعلمية المجتهد في اجتهاده الفقهي في المسالك التي يريد أن يستنبطها وقد ذكر السيد الهاشمي ثلاثة نماذج هي:
أ ـ فهم روح الإسلام من خلال الاحاطة الدقيقة بآيات القرآن والضرورات الدينية والأوليات الفقهية، والالمام الكامل بسيرة النبي الأكرم والأئمة الأطهار عليه السلام.
ب ـ فهم الثقافة والأمور الفكرية والحقوقية المعاصرة إلى حد ما.
ج ـ الوقوف على المعارف الصادرة عن أهل البيت المعصومين الأطهار (عليهم السلام) في المسائل الكلامية والأخلاقية والمعارف الأخرى الموجودة في الروايات المنتشرة في الكتب غير الفقهية.
ومحصّل كلامه (حفظه الله) أن الأبحاث الأصولية العقلية الدقيقة ذات أثر بسيط في الأعلمية، وفي الاستنباط، وفي صحة الاستظهار بالمقارنة مع تلك الثقافة العامة للمعارف الإسلامية المأثورة عن المعصومين (ن.م، ص34).
وبناءً عليه إذا لم يتوفر هذان الشرطان في مجتهد ما، أي الكفاءة واللياقة لقيادة المجتمع الإسلامي والأعلمية بهذا المفهوم الواسع، فليس معلوماً أن يكون تقليده مبرئاً للذمة، إن هذين الشرطين لهما الدور الرئيسي في تحديد المجتهد اللائق للمرجعية. يقول السيد الهاشمي:
"إن المرجعية مسألة هامة جداً، إنها الولاية، والأصل الأوّلي عند الشك فيها هو عدم الولاية، فلو لم يكن لنا دليل لفظي على ولاية الفقيه والتجأنا إلى القدر المتيقن، لقلنا بأن القدر المتيقن يلغي كثيراً من هؤلاء ـ المجتهدين التقليديين ـ ويشملهم أصالة عدم الحجية وأصالة عدم جواز تقليدهم وعدم حجية فتاواهم" (ن.م، ص42).
وإذا أخذنا هذه الشرائط بعين الاعتبار فمن هو الأجدر والأكثر لياقة للولاية والمرجعية في عصرنا الحالي؟ والجواب عن هذا السؤال في المحور الثالث.
* المحور الثالث:
إن الاجتهاد المطلق للسيد القائد الخامنئي ولياقته للمرجعية لم تكن يوماً موضع شك بعدما شهد له بذلك الإمام الخميني قدس سره في حياته والعشرات من شهادات أهل الخبرة والاجتهاد، ولعل هذا العدد من الشهادات لم يتوفر لمجتهد آخر بهذا المستوى كماً ونوعاً. فالعلماء الربانيون يرون من اللازم عليهم إذا ظهرت البدع والفتن أن يظهروا علومهم، ومنهم السيد الهاشمي الذي انبرى ليظهر ما خبره بالدليل والتجربة وعايشه عن قرب مما يتحلى به القائد المعظم فكان مما ذكره:
أ ـ الاجتهاد المطلق الذي يظهر بوضوح من خلال السيطرة على المباني التي لا بد من توفرها لدى كل فقيه مطلق عادل، والاضطلاع الواسع بعلم الرجال، والفهم السالم والمستقيم والذوق المتزن في فهم الآيات والروايات، وهذه من مميزاته الخاصة (ن.م، ص16).
ب ـ الاستيعاب الواسع والمعمق للأمور الاجتماعية والقضايا الثقافية المطروحة في العالم.
ج ـ إدراك روح الإسلام وفهم أهدافه الأصيلة.
د ـ الكفاءة العالية في الادارة والقيادة، هذه الميزة التي بلورتها تجربة طويلة في إدارة النظام الإسلامي.
يقول السيد محمود الهاشمي عن الخصال الثلاثة الأخيرة: "هذه الأمور مهمة جداً وذات تأثير كبير في تحمل مسؤولية صحيحة وسالمة وجميعها بالكمال والتمام توجد في (القائد المعظم) ولا توجد في شخص آخر" (ن.م، ص17)، ولذلك قال في موضع آخر: "لقد أثبت بكل جدارة أنه في جميع المجالات أليق وأجدر شخص صالح لقيادة هذا المجتمع".
وبعد هذا لم يبق سوى مقارنة بسيطة بين الخصال التي يتمتع بها القائد المعظم والشرائط المعتبرة في المرجعية التي تعرضنا لها في المحور الثاني ليتبيّن الخيط الأبيض من الأسود: وقد طلع الصبح لذي عينين.